استرجاع لأحداث سوريا منذ 2011

محمد سيد رصاص  
بدأت الصورة الاجتماعية للمؤيدين والمعارضين للسلطة في سوريا تتوضح بعد أشهرٍ أربعة من بدء الانفجار السوري وامتداده من درعا في مارس/آذار 2011 إلى مدنٍ وبلدات أخرى. ففي خلال ربيع وصيف 2011، توزعت خريطة الاحتجاجات، التي أخذت شكل تظاهرات، في مدن درعا واللاذقية وحمص وإدلب وحماة وديرالزور وفي منطقة حوران بمعظم بلداتها وريفها وفي ريف دمشق وريف حماة وريف وبلدات إدلب وريف حلب وريف ديرالزور. كانت التظاهرات في المدن المذكورة تنطلق من أحياء فقيرة ولم تشارك فيها فئاتٌ وسطى أوغنية. شاركت في التظاهرات كتلةٌ اجتماعية كبرى، شملت غالبية سكانية في الأرياف المذكورة، وهي كلها أرياف يسكنها عرب سنة. وبقيت المدن في حالة نأي عن المشاركة في الاحتجاجات مثل دمشق وحلب والرقة وطرطوس، فيما كانت حركة الاحتجاجات في مدنٍ أخرى ضعيفة أومحدودة مثل السويداء أوالحسكة. إذا اتجهنا نحو تحديدٍ أكثر، فإن الطبقة البورجوازية والفئات الوسطى غابت عن الاحتجاجات بل وعارضتها. ومن شارك في الاحتجاجات، هم الفقراء أو من هو قريب من خط الفقر، خاصةً في الريف الذي تدهورت أحواله الاقتصادية والمعاشية نتيجة تدهور الوضع الزراعي بسبب السياسات الاقتصادية الليبرالية التي بدأت في 2004 وتلتها موجة الجفاف التي ضربت سوريا لعدة أعوام. وحتى في المدن التي انطلقت منها الاحتجاجات، شكّل المتظاهرون من الأحياء التي يسكنها نازحون من الأرياف النسبة الغالبة، كما في المخيمات الفلسطينية وفي حي السكنتوري وحيي بستان الحمامي وبستان السمكة في مدينة اللاذقية، حيث تتواجد كتلة كبيرة من النازحين من ريف محافظة إدلب وهم كتلة كانت بمئات الآلاف عام 2011 في مدينة اللاذقية ويسمون بـ«الشريقية». بينما لم تنطلق الاحتجاجات من حي الصليبة الذي كان مركز احتجاجات معارضة دستور 1973 وفي أحداث 1979. أما تظاهرات واحتجاجات مدينة دمشق، فخرجت من أحياء مثل التضامن ودف الشوك والحجر الأسود، وهي أحياء النازحين الآتين من ريفي إدلب وديرالزور، فضلاً عن نازحي الجولان منذ عام 1967. أما في أرياف اللاذقية وحمص والغاب في محافظة حماة، حيث يغلب العلويون، برزت كتلة اجتماعية صلبة مؤيدة للسلطة. وكذا الأمر في أحياء يغلب فيها العلويون في مدن اللاذقية ودمشق وحمص. ويلاحظ هنا أن الأغلبية الكاسحة من المسيحيين وقفت مع السطة، فيما كان هناك معارضة لها في صفوف الدروز والإسماعيليين، وإن كانت الأغلبية مؤيدة لها. وبالنسبة إلى الكرد، برزت معارضة للسلطة شملت معظم الجسم الاجتماعي الكردي من الجزيرة إلى عفرين.
اجتماعياً وطبقياً، كانت الأقليات بمجملها ككتلٍ موحدة خلف السلطة (العلويون والمسيحيون) أو في المعارضة (الكرد) أو بغالبية من المؤيدين (الدروز والاسماعيليون)، بينما كان السنة العرب الطائفة الوحيدة (وهم في الحقيقة ليسوا طائفة) التي انقسمت سياسياً وفق المعايير الاقتصادية-الاجتماعية الطبقية بين مؤيدين للسلطة (البورجوازية والفئات الوسطى) ومعارضين لها (أغلبيتهم من الأرياف أو من ريفيين سكنوا حديثاً في أحياءٍ فقيرة من مدنٍ معينة). كما كان هناك فئة لا بأس بها عددياً من السنة العرب من المترددين بين الموالاة والمعارضة وأغلبهم من الفئات الوسطى المدينية.
حمت هذه القاعدة الاجتماعية السلطة السورية من السقوط بعكس ماجرى في تونس زين العابدين بن علي ومصر حسني مبارك، خاصةً مع وجود مؤسسة عسكرية ظلت متماسكة مع السلطة على الرغم من الانشقاقات التي لم تتجاوز السطح ولم تصل للعصب الرئيسي في المؤسسة العسكرية. إن تفحصنا هذه الخريطة الدينية- الطائفية – القومية- الإثنية وكيفية ملائمتها لسوريا ما بعد اضطراب 18 مارس/آذار 2011، فن الصعب القول بأن سوريا شهدت صراعاً طائفياً، ما دامت نسبةٌ مرموقة الحجم من السنة العرب وقفت وظلت واقفة مع السلطة، بل وزادت نسبتها بعد 2018 مع ميل موازين القوى لغير صالح المعارضة. بل حري القول إن الصراع كان بين سلطة ومعارضة أخذ شكلاً مسلحاً بعد شهر رمضان في أغسطس/آب 2011 إذ «بعد رمضان، بدؤوا بالعمل المسلح وأرادوا منه مواجهة الجيش والأمن والشرطة» وفق تعبير الرئيس السوري بشار الأسد في خطاب يونيو/حزيران 2012 في جلسة افتتاح دورة مجلس الشعب.وعلى الرغم من أن القاعدة الاجتماعية للمعارضة هي سنية، وعلى الرغم من أن الغالبية الكاسحة من الأقليات المسلمة ومن المسيحيين وقفت مع السلطة، فإن الصراع لم يكن طائفياً بحكم وجود قاعدة اجتماعية قوية من السنة في صف السلطة. كما أن صمود السلطة لا يفسَر بتماسك الجيش فقط أو عموم مؤسسات السلطة، بل يفسر بهذه القاعدة الاجتماعية القوية العابرة للطوائف، إذ أن تأييد الأقليات، وحتى مع تماسك الجيش والمؤسسات، لا يكفي لتفسير صمود السلطة أمام العاصفة. كما أن الدعم الدولي– الإقليمي من محور موسكو- طهران– حزب الله لا يكفي لتفسير ذلك أيضاً.
يعني هذا فيما يعنيه أن السلطة السورية ليست طائفية بل تستند إلى بنية عابرة للطوائف، على الرغم من أنها يمكن أن تستخدم طوائف أو من الممكن أن تلجأ إلى تخويف الأقليات من «بعبع الإسلام السياسي». وهنا، يلاحظ كيف أن الرئيس السوري، في مواجهته العنيفة مع الإسلاميين، كان حريصاً ومصرّاً في خطاباته ومقابلاته على مدار أعوام الأزمة السورية على أن يؤكد على الفصل بين الإسلام والإسلاميين وعلى تمسكه بالإسلام ورباطه مع العروبة وفق الإيديولوجية البعثية التقليدية منذ نشوء حزب البعث عام 1947. ويمكن في هذا المجال ملاحظة أن مساحة الإسلام في عقيدة الأسد أكبر من أيٍ من أسلافه البعثيين الذين تعاقبوا على السلطة في سوريا منذ 1963. وهذا ملفتٌ للنظر في ظل مناخ المواجهة العنيفة التي حصلت بين السلطة السورية والإسلاميين بفرعيهم الأصولي الإخواني والسلفي- الجهادي منذ 2011. ولايمكن تفسير ذلك فقط بالقناعات الإيديولوجية بل يتعلق كذلك بوجود قاعدةٍ اجتماعية قوية للسلطة السورية بين السنة ولدى المؤسسة الدينية الرسمية التي تسودها النظرة الأشعرية التي تقول بأن «مناصحة الحاكم أكثر منفعة من الخروج عليه.. وأن الخروج فتنة». ويتضح هذا كثيراً في خطب الجمع عند الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في المسجد الأموي بدمشق بعد مارس/آذار 2011 (يمكن هنا الرجوع لخطاب الرئيس السوري في جامع العثمان بدمشق في ديسمبر/كانون الأول 2020 حينما اعتبر ‘جوهر الفكر هو الدين’ ورفض فكرة فصل الدين عن الدولة لأنها تعني ‘فصل الدولة عن المجتمع’ واعتبر المؤسسة الدينية– الأوقاف ‘رديفاً للجيش’).
أتاح ماسبق للسلطة السورية البقاء والصمود أمام العاصفة، إذ استندت لثالوث (المؤسسة العسكرية- رجال الأعمال في التجارة والصناعة- مشايخ السنة). وحظيت بدعم قاعدةٍ كاسحة بين العلويين والمسيحيين وتأييدٍ لدى الفئات البورجوازية السنية والفئات الوسطى المدينية السنية، خاصةً في دمشق وحلب. كما استفادت من وجود كتلةٍ اجتماعية كبيرة من المترددين بين الموالاة والمعارضة، أو من يعرفون بـ«الرماديين».

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد