الصراع وتغير المناخ يهددان الأراضي الزراعية في شمال شرق سوريا

جين عراف

داخل مخبز حكومي بمدينة الحسكة تلوح في الأفق صورة باهتة لرئيس النظام السابق حافظ الأسد، تعود لفترة سيطرة النظام على مناطق شمال شرق سوريا، حيث الآلات المهترئة وسلاسل الحديد المتشابكة لخط إنتاج الخبز. أما خارج الفرن، هناك طابور طويل من العائلات وذوي الاحتياجات الخاصة من أجل الحصول على الخبز المدعوم، والذي يُباع بنحو ربع سعر السوق.

لكن الجدير ملاحظته في هذا المخبز الذي يعتبر الأكبر بالمحافظة هو تغيّر طبيعة الطحين المُستخدم، حيث أصبح لونه أصفر باهت بعد أن كان أبيض. وقد أوضحت مديرة المخبز، ميديا شيخو سبب ذلك :« إن هذه التجربة الجديدة بدأنا العمل عليها قبل ثلاثة أو أربعة أشهر . ولتلافي نقص الخبز، كان علينا خلطه بالذرة».

في تلك المنطقة التي مزقها تنظيم داعش بالإضافة إلى النزاع المسلح، أدى الجفاف الذي طال أمده، إضافة إلى جفاف الأنهار إلى جعل الاستقرار أكثر خطورة. ويمكن رؤية تداعيات تغيّر المناخ ببساطة من خلال خبز المدينة اليومي.

وتعقيباً منه على خلط مادة الذرة مع القمح التي لم تلقى ترحيباً، قال خضر شعبان ( ٤٨ عاما) _ الذي يعمل بالزراعة على مقربة من الشدادي، حيث جفت التربة بعدما كانت خصبة نتيجة لشح المياه :« نحن نطعم الذرة للدجاج . هل نحن دجاج؟».

أدى تغيّر المناخ إلى جفاف طال جميع أرجاء العالم. بيد أن نتائج هذا التغيُّر كارثيّة على شمال وشرق سوريا، فهي سلة البلاد الغذائية، ويعود ذلك بسبب الصراع المحتدم منذ أكثر من عشرة أعوام وما تخلله من تدهور الإقتصاد ودمار البنية التحتية وارتفاع معدل الفقر  وانعكاسات ذلك على المجتمع، تاركة إيّاه يعيش حالة عدم استقرار.

وحسب ما أفاد به “برنامج الغذاء العالمي” التابع للأمم المتحدة الصيف الماضي فإن ما يقرب من نصف سكان سوريا ليس لديهم ما يكفي من الغذاء، وهو رقم من المتوقع أن يرتفع أكثر من ذلك هذا العام.

هجر المزارعون معظم الحقول التي تحولت إلى جرداء لعدم قدرتهم على شراء البذور أو الأسمدة أو الديزل لتشغيل مضخات المياه من أجل تعويض انخفاض هطول الأمطار في السنوات السابقة. ويقول مزارعون ومسؤولون حكوميون ومنظمات إغاثة إن القمح الذي يزرعونه أقل جودة ويباع بسعر أقل بكثير مما كان عليه قبل فترة الجفاف الحالي قبل نحو عامين.

لا تزال منطقة شمال وشرق سوريا شبه المستقلة، والتي هي بأمسّ الحاجة للحصول على السيولة وعلاقات مستقرة مع النظام، تبيع كثيراً من محصولها من القمح إلى الحكومة السورية، مما يترك القليل لسكانها. ويُجبر المزارعون الذين لا يستطيعون تأمين العلف والماء لماشيتهم بيعها بثمن بخس.

في هذا الصدد، قال المحلل الإستراتيجي في منظمة إنقاذ الطفولة في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية مات هول : « إن مشكلة تغيّر المناخ هنا تصاحبها عدة عوامل أخرى ولا تقتصر على عامل واحد، بدءا من الحرب مرورا بالعقوبات فضلاً عن الاقتصاد المتدهور. ولا تستطيع المنطقة تحمل أعباء تفوق طاقتها عن طريق استيراد القمح لأنها لا تملك السيولة المالية الكافية».

على مدى آلاف السنين، كان لنهر الفرات وأكبر روافده الخابور الذي يمر عبر محافظة الحسكة، دور في نشوء بعض أقدم المستوطنات الزراعية في العالم. بيد أن الوضع تغير بعد شُحّ المياه. وحسب وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، فإن الجفاف الذي بدأ في عام 1998 هو الأسوأ الذي شهدته بعض أجزاء الشرق الأوسط منذ تسعة قرون.

عاشت منطقة شمال شرق سوريا جفافاً قاسياً على مدى العامين الماضيين. وما ندرة هطل المطر إلا جزء من هذه المشكلة. وبدورها تعتبر تركيا، التي تُسيطر على إمدادات المياه في المنطقة والواقعة في الشمال السوري حيث سيطرة قوات المعارضة المسلحة التابعة لها _ مسؤولة عن قطع المياه عن المنطقة الكردية حيث تراهم عدوا لها.  وخاصة منذ استيلائها على محطة “علوك”، المصدر الرئيسي لمياه محافظة الحسكة  في عام 2019 ، تقول وكالات الإغاثة إن القوات المدعومة من قبل تركيا عمدت لقطع المياه بين الحين والآخر، الأمر الذي هدد حياة مليون شخص بالحسكة.

ورداً على ذلك، نفت تركيا الاتهامات الموجهة ضدها وعزت انقطاع المياه نتيجة لنقص كمية الكهرباء القادمة من سد يقع خارج سيطرتها. وأياً كانت الأسباب، قالت منظمة اليونيسف إن إمدادات المياه تعطلت أكثر من 24 مرة منذ أواخر عام 2019.

أثارُ الجفاف بادية للعيان بمدينة الشدادي والتي تبعد نحو 50 ميلاً جنوب الحسكة . كما أن نهر الخابور الذي يجري عبر المدينة تحول إلى برك من المياه العكرة بعد أن كان يعتبر شريان الحياة في العصور القديمة لدرجة أن الكتاب المقدس أشار إليه.

ووفقاً لرئيس البلدية محمد صالح فإن 70 ٪ من مزارعي المنطقة هجروا حقولهم هذا العام لأن زراعة المحاصيل ستكلف أكثر مما سيحصلون عليه من بيعها.

وبسبب انخفاض منسوب نهر الخابور الذي يعتمد عليه معظم المزارعين في ري حقولهم _ سيجبرون على تشغيل مضخاتهم التي تعمل بالديزل لفترة طويلة لتأمين المياه . من جهة أخرى، حلّقت أسعار وقود الديزل بالإضافة إلى أسعار المواد الأساسية الأخرى نتيجة للحصار الاقتصادي على المنطقة من قبل جيرانها تركيا والنظام السوري، فضلاّ عن العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد سوريا والتي لها دور في التأثير على المنطقة.

واتهم السيد صالح تركيا بأنها تعمد إلى قطع إمدادات المياه القادمة من محطة علوك باتجاه مدينة الحسكة. حيث قال :« أمام كل يوم يُسمح بتدفق المياه باتجاه الحسكة يقابلة ١٠ أيام قطع».

وقدّر صالح أن 60 ٪ من السكان المحليين يعيشون الآن تحت خط الفقر. حيث قال : « بعض الناس يأكلون وجبة واحدة فقط في اليوم. يمكن القول إن هذا التغيُّر المناخي إضافة للجفاف يؤثران على العالم برمته، بيد أن الوضع في منطقة شمال وشرق سوريا مختلف كلياً كونها لا تمتلك احتياطيات للتعامل معهما» .

نتيجة للحرب ضد تنظيم داعش بقيت أجزاء كبيرة من الشدادي مدمرة. إذ دمرت الغارات الجوية بقيادة الولايات المتحدة مجمعاً سكنياً كبيراً ومحطات ضخ مياه ومدارس ومخابز كان يستخدمها التنظيم بحسب السلطات المحلية. وفي فترة لاحقة، أُعيد بناء المخبز الرئيسي وبعض المدارس.

في الأراضي الزراعية المحيطة بالبلدة، كانت أعواد القمح والشعير في الحقول القليلة المزروعة في الخريف الماضي أقل من نصف ارتفاعها في سنوات ما قبل الجفاف.

ويقول المزارع شعبان: « لا يسعنا سوى التضّرع لله أملا بأن يُغيثنا بالمطر» مشيراً إلى أنه أُجبر إلى بيع أغنامه قبل عامين بثمن بخس لأنه لا يقوى على شراء العلف أو تأمين الماء . وأضاف: « وقعت بين خيارين أحلاهما مُرّ فإما أعطي الماء لعائلتي للشرب أو للأغنام» .

وفي مزرعة مجاورة ، قال حسن الهروة  (39 عاماً) :« إن التكلفة المرتفعة للأعلاف تعني أن أغنامه كانت تقتات على التبن المخلوط بكمية صغيرة من الشعير المغذي بدلاً من النظام الغذائي الذي يحتوي على نسبة عالية من الحبوب التي كانت تقتات عليها قبيل الجفاف» .

وتابع الهروة قوله : « ينبغي أن تكون الأغنام سمينة وسليمة، فقبل نحو عامين عندما كان الموسم وفيرا و الأمطار غزيرة ، كان هناك فائض بالحليب بحيث نستطيع أن نصنع الجبن أما في الوقت الراهن فالحليب بالكاد يكفي حُمْلانها».

وأضاف الهروة :« عندما كان الموسم وفيراً، كان من الممكن أن يُباع كل رأس بنحو 200 دولار في السوق . أما الآن، مع وجود أغنام نحيفة وضعف القدرة الشرائية فأنهم يبيعون الرأس مقابل 70 دولارًا أو أقل».

في اليوم التالي، نفقت أربعة حُمْلان من قطيعه حيث ظنّ الهروة أنه فيروس ولكنه لم يكن متأكدا من ذلك لانه لم يعرضهم على طبيب بيطري.

نتيجة للفقر المتفشي في جميع أرجاء المنطقة، فضلا عن ارتفاع البطالة انضم كثير من الشباب إلى تنظيم الدولة الإسلامية. وفي هذا الصدد، قال السيد هول من منظمة أنقذوا الطفولة : « أنها غيض من فيض ، وأن المأساة التي تفاقمت بسبب تغيّر المناخ يستغلها التنظيم لتجنيد الشباب في ظل فقدانهم الأمل».

بسبب شح المياه الذي طال أمده، أضطرت عائلات إلى هجر مزارعها التي كانت تملكها لأجيال والتوجه نحو المدن حيث تتوفر الخدمات، ولكن لا توجد فرص كثيرة لكسب العيش.

وختم هول قوله : « كون هذه المناطق إعتمادها الرئيسي على الزراعة ، فالمياه لا غنى عنها، فضلاً عن أن الزراعة عنصر أساسي لعديد من المجالات . وفي حال فشل الزراعة و تقلصها، فلن يكون هناك ما يربط هذه المدن ببعضها البعض».

المصدر: نيويورك تايمز 

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد