ألكسندر دوغين “عقل بوتين”.. يمجد التقاليد على حساب سقوط الغرب والصين

بدر الحمري، ديفيد فون دريل

مع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، احتل اسم المفكر الروسي اليميني المتطرف، ألكسندر دوغين حيزاً كبيراً في وسائل الإعلام، لما له تأثر هائل على الرئيس الروسي بوتين، ينعت غالباً بأنـه ” عقل بوتين”، وهو مبشر لمشروع ” أوراسيا” الذي يمتد حيزه الجغرافي من دبلن في إيرلندا غرباً وصولاً إلى فلاديزفوستوك شرقاً.

ونظراً لتقاطع هذه الأفكار مع السياسة الروسية الدولية اليوم، أردنا في المركز الكردي أن نسلط الضوء من خلال مادتين معاً على العلاقة الجامعة بين مشروع دوغين الفكري والسياسة البوتينية العملية. المقالة الأولى التي كتبها الزميل والدكتور بدر الحمري، تتناول جذور أفكاره الفكرية. في حين، كتب ديفيد فون دريل قبل أيام مادة الرأي في صحيفة واشنطن، ترصد انعكاس المشروع الفكري لدوغين على الفضاء السياسي الدولي.

فيما يلي نص المادتين.

                              ألكسندر دوغين : المستقبل للتقاليد لا الحداثة  الغربية!

 بدر الحمري

تعدُّ مواقف الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين ( ولد عام 1942) من المواقف الفلسفية المعاصرة المثيرة التي تستحق منا التأمل والنقد، وقد عدّه كثير من الدارسين، بأنه أحد أهم فلاسفة روسيا اليوم ومن المنظرين الاستراتيجيين أيضاً، نظراً لقربه من دائرة صناعة القرار السياسي الكبرى في بلده.

قد أشارت كثير من الأقلام المهتمة بفكر الرّجل إلى أنّ عصارة فكر ألكسندر دوغين يمكنُ تلخيصها في قول يرجع إليه هو نفسه، نعرضه هنا على الشكل التالي:

« إن المستقبل للمقدس لا المستباح، للمطلق لا النسبي، لهايدغر لا لديكارت، للتقاليد لا للحداثة، إنها لعودة للعصور الوسطى، إنها لعودة للأزمنة الكبرى الجادة .. فالحداثة أفقها العدم .. وهذه هي المشكلة الأعمق المتوارية خلف كل السياسات الدولية التي تنسجها العولمة الليبرالية المعاصرة »

رُغم قصر الاستشهاد الفلسفي السياسي السابق لكنه يعد جامعاً لتصور عام الذي يسير فيه الفيلسوف ألكسندر دوغين، ورغم كثافته المفاهيمية إلا أنه يثير مجموعة من الإشكالات أيضاً، منها على سبيل المثال لا الحصر: المقدس والمدنس، المطلق والنسبي، التقليد والحداثة، الوجود والعدم، العولمة والليبرالية .. هذه الكثافة المفاهيمية يمكنُ أن تتقاطع مع مشروعات عديد من الفلاسفة المعاصرين الذي وضعوا على عاتقهم تجديد النظر الفلسفي للذات والعالم والوجود من أجل بناء تصورات أو نظريات مفسّرة للعالم في سياسته واجتماعه، من أمثال الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر، ومواطنه يورغن هابرماس، أو هانز جورج غادامير، أو حنا أرندت، أو بول ريكور أو عبد الله العروي أو جورج طرابيشي أو حسن حنفي .. وغيرهم.

كما نرى في هذه المشاريع السابقة القوة الحجاجية التي تمنحنا صرامة التفكير والتدقيق وكذا النظر في تفاصل الذات الإنسانية، سواء منها الغربية أو العربية.

لكن المختلِف في النص الدوغيني السابق ( نسبة إلى ألكسندر دوغين ) أنّ الأسئلة التي يثيرها تكادُ لا تسير مع ما يمكنُ تسميته بالروح الفلسفية المعاصرة، بل حتى طه عبد الرحمن الذي يعدّ من أكثر المدافعين عن التراث وتكامله المعرفي اليوم، لا يمكنُ بأي حال من الأحوال أن نقارن بينه وبين ألكسندر دوغين. والرأي عندي أنّ مشروع هذا الأخير يختمرُ من داخل الأسئلة التي يطرحها في مجاله التداولي، تاريخاً وعقيدة وثقافة، تجملها نظرية عامة يسميها هو نفسه بالأوراسية ( الأوربية – الآسيوية ) وهذا بيّنٌ  على الأقل حين ذكر مارتن هيدغر ورينه ديكارت – أما من جملة تلك الأسئلة التي يعالجها ويفكك معالمها الكبرى فهي سؤال المقدس ومصيرهُ أمام ( العولمة الليبرالية ) التي استباحث المقدس حسب قوله. ولعله هنا يعيد– بطريقة ما – ما قاله مواطنه الفيلسوف الوجودي نيكولاي بيردياييف عندما استشرف استعباد الإنسان من قبل معبودي الفن والعلم والدين، الذين يعيدون انتاج «علاقات العبودية والهيمنة التي ينبثق منها تاريخ الإنسانية».

 إنّ فلسفة بيردياييف ودوغين تكادُ تكون انتصاراً مطلقاً لصوفية داخلية ولا تنتصرُ كثيراً للتحليل المنطقي المادي؛ فأفكارهما صدى لأفكار داخلية، هرباً من القهر الخارجي الذي يمارسه المجتمع بعولمته الكاسحة وليبراليته المستلبة لحرية الإنسان وتشييئه، على الأقل عند ألكسندر دوغين المعاصر لها، والذي يذهب بعيداً في وصفه لها بالعدم في مقابل الوجود المنبعث من العصور الكبرى، أي العصور الوسطى، أو كما يحلو له أن يسميها بالعصور الجادة، وبالتالي فالعصر الحديث ومعه العصر المعاصر لا يعدوان أن يكونا إلاّ عبثاً ولعباً ومهزلة في مقابل الجِدة التي يتصف بها العصر الوسيط. وهذه كلاسيكية تنمّ عن التوجه الذي يميلُ إليه ألكسندر دوغين، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هذه الكلاسيكية تشبه كلاسيكية الروحانيين واللاهوتيين الكبار من أمثل القديس سان أوغسطين على الأقل؟

ما دام ألكسندر دوغين يرفض الحداثة ويميلُ إلى التقاليد الجادة فهو بالضرورة ينتقدُ كل النظريات السياسية أو الفلسفية الحديثة الكبرى، ومنها الفاشية والماركسية والليبرالية، لأنها تمثل الحداثة حسب رأيه. لذلك فإن الحداثة قد تظهر في كثير من صورها على أنها رفض لكل مكتسبات التنوير البشري، أي التنوير الذي ساهمت فيه كل البشرية ومنذ قرون خلت، شرقاً وغرباً، وربما لهذا السبب لم نحسم بعدُ مع مشروعها، فغالباً ما يقال إنّ التنوير مشروع لم يكتمل بعد ( يورغن هابرماس ) فهـو مشروع يفتقدُ لكل أشكال التضامن الإنساني في سبيل حياة عالمية خالية من كل احتراق رُوحي أو نفسي أو حتى عقلي، يحتفظ فيها كل بذاته وتاريخه الروحي والثقافي والحضاري بصفة عامة، ويترك بعيداً – وربما على الهامش – كلّ أشكال الصراع الفكراني – الأيديولوجي الذي يغرقها في العنصرية. من ثمة لا تصبح مفاهيم العقلانية والحرية والفردانية والمسؤولية فارغة من محتواها الحضاري العميق، أو توظفُ تحت نير السوق وأسعارهُ غير المستقرة حتى صار فيها الفرد عُملة مثل باقي العملات السائدة.

أما المقترح النظري الذي يقدمه ألكسندر دوغين بديلاً عن الحداثة بثلاثيتها السابقة (الفاشية والماركسية والليبرالية) فهو مقترح نظرية سياسية رابعة، قوائمها جملة من الأفكار نذكرُ منها الآتي:

– تعزيز الأفكار الوطنية والتقاليد وقيمها.

– « حماية الوجود، وبناء البرنامج في معارضة شديدة من خلال هياكل الوجود نفسه التي نراها من حولنا »؛ أي ذلك الوجود الذي عبر عنه هيدغر بــالوجود-هنا.

ووفقاً لهذا فالنظرية السياسية الرابعة عند ألكسندر دوغين « تبرر الحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب، وحوار الحضارات، حيث كل عنصر من عناصر الفرقة، فسيفساء في العالم يمكنُ أن تتصور بشكل مستقل وبناء قيمهم، السياسية والاجتماعية، ونظام فلسفي في الجغرافيا الفلسفية من خلال تقسيم المناطق، بشكل مستقل وعلى اتصال دائم و( متفق ) مع هذا الكيان الوجودي ».

في أنديبندت عربية كتب إميل أمين شارحاً وجهاً من أوجه النظرية السياسية الرابعة لدوغين بالآتي: « فلسفة دوغين تعني أن كل عنصر من عناصر الفِرقة الكونية، يمثل جزءًا من لوحة فسيفسائية تتسع للعالم برمّته، ويمكن لها أن تتطور وتتشكل بصورة مستقلة وبناءة، على أسس من القيم السياسية والاجتماعية الخلاقة، وانطلاقاً من نظام راسخ في الجغرافيا الفلسفية، من خلال تقييم المناطق بشكل مستقل، وعلى اتصال دائم، مع حتمية التوافق مع هذا الكيان الوجودي »!

                                      تقسيم أوروبا وسقوط الصين

 ديفيد فون دريل:  واشنطن بوست

قُبيل بدء غزوه البربري ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطاباً مُطولاً وصارماً، أنكر فيه وجود دولة أوكرانيا والشعب الأوكراني، وهو خطاب اعتبره كثير من المحللين بأنه غريب ولا يمُتّ للواقع بصلة، كما أنه مستمدّ بشكل مباشر من أفكار وأعمال داعية فاشي يتطلع لإقامة إمبراطورية روسية عظمى ألا وهو ألكسندر دوغين.

يعلم الدارس لحقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي حجم التأثير الفكري لدوغين البالغ عمره 60 عاماً على الرئيس الروسي، حيث يُطلق عليه أحيانا لقب “عقل بوتين”، فضلاً عن ذلك فإن عمل دوغين ليس بالغريب على ” اليمين الجديد” في أوروبا، في وقت كان فيه دوغين شخصية بارزة منذ 3 عقود، كذلك الأمر بالنسبة “لليمين البديل” في أميركا. وفي الحقيقة ترجمت نينا كوبريانوفا الزوجة السابقة للزعيم القومي الأبيض ريتشارد سبنسر المولودة في روسيا بعض من أعمال دوغين إلى اللغة الإنكليزية.

وفيما يُراقب العالم برعب و استياء القصف العشوائي ضد أوكرانيا، هناك حاجة إلى فهم أوسع لأفكار دوغين القاتلة، فقد كانت روسيا تُطبّق مخططاته و نظرياته على مدى العشرين سنة الماضية، والتي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم على أعتاب حرب عالمية جديدة.

ينتمي دوغين الذي يعتبر نِتاجاً لانحدار الإتحاد السوفييتي في أواخر حقبته إلى طيف واسع وغامض من المنظرين السياسيين الذين أشاعوا مفهوم الدولة القوية والعتيدة في الماضي المشبّع بالعاطفية والطاعة للسلطة، وذلك في تفسير لحاضر روسيا الفاشل. وبحسب هؤلاء المنظّرين فإنّه يتوجّب على روسيا استعادة أمجاد الماضي من الواقع الليبرالي والتجاري والدولي والذي يُمثّله اليهود في الغالب. لقد كان مثل هؤلاء المفكرين يعيشون عصرهم الذهبي قبل نحو قرن من الزمن في أوروبا المُدمّرة بعد الحرب العالمية الأولى، أمثال الفيلسوف المتعلق بفكرة الفاشية الإيطالية يوليوس إيفولا، و القومي الفرنسي الرجعي تشارلز، و الصحفي ورائد البرامج الإذاعية الأميركية تشارلز كوغلين، فضلاً عن هتلر مؤلف كتاب “كفاحي”. 

يقصّ دوغين ذات الفكرة ولكن بنكهة روسية. قبل أن تُدمّر الحداثة كل شيء، وُعِد الشعب الروسي المشبع بالروحانية و الحماسة بتوحيد أوروبا وآسيا في إمبراطورية موحدة وضخمة يقودها زعيم روسي، غير أن قيام إمبراطورية مُنافسة يديرها أفراد فاسدين وجشعين بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا أفشلت المخططات الروسية، فضلاً عن تقليلها تأثير “أوراسيا” وهو مصطلح أطلقه دوغين على الإمبراطورية الروسية المستقبلية.

من أعظم مؤلفات دوغين “أسس الجغرافيا السياسية: المستقبل الجيوسياسي لروسيا” الصادر عام 1997. رسم دوغين بالتفصيل مخططاته تجاه أوروبا والولايات المتحدة، ورأى أنه يتوجب على العملاء الروس إثارة النعرات الطائفية والانقسامات على أساس العرق و الدين داخل الولايات المتحدة، تزامناً مع قيامهم بالترويج للمفصائل الانعزالية داخل أميركا، فهل يبدو ذلك أمراً مألوفاً؟. ففي بريطانيا العظمى يتوجب تركيز جهود العوامل النفسية على إثارة وتهويل الخلافات التاريخية مع القارة العجوز، والحركات الانفصالية في أسكتلندا وويلز وايرلندا. في غضون ذلك سيتم إغراء أوروبا الغربية بموارد روسيا الطبيعة من النفط والغاز والغذاء وحتماً ستكون النتيجة انهيار حلف شمال الأطلسي من الداخل.

أتّبع بوتين توصيات دوغين بشكل حرفي، والذي شعر بأن الخطة تسير وفق ما رُسم لها، بدءاً من تصدّر مثيري شغب يخربون ويحطمون داخل مبنى الكونغرس الأمريكي، و خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واعتماد ألمانيا المتنامي على الغاز الطبيعي الروسي الأخبار. ومع إضعاف الغرب و شرذمته، أتت أفعال بوتين ضد أوكرانيا تطبيقاً لما قاله دوغين في كتاباته “ تُمثّل أوكرانيا كدولة مستقلة ذات طموحات إقليمية معينة خطراً كبيراً على جميع أرجاء أوراسيا ومن دون إيجاد حل للمعضلة الأوكرانية، فإن الحديث عن السياسة القارية أمر لا طائل منه بشكل عام”.

ما الذي سيحصل في أعقاب ذلك في حال تمكّن بوتين من إزاحة الخطر الأوكراني الذي يقف عائقا أمام توسع روسيا؟ بحسب دوغين ستنقسم أوروبا بشكل تدريجي وتتحول إلى مناطق نفوذ بين ألمانيا وروسيا، ويرجع ذلك إلى حاجة ألمانيا لموارد روسيا الطبيعة واستغلال روسيا لذلك، في الوقت الذي تنهار فيه بريطانيا العظمى تستغل روسيا ذلك بضمّ الدول التي كانت في فلكها إلى إمبراطوريتها، مما سيمهّد الطريق وفقاً لدوغين أمام  توسّع إمبراطورية أوراسيا بالنهاية من ” دبلن إلى فلاديزفوستوك”.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تعدّيات بوتين الماكرة في الشرق الأوسط نابعة من تصور دوغين لمحور موسكو و طهران، وهو أمر يقضّ مضجع الحكومة الإسرائيلية التي باتت تشمّ رائحة شاي السماور الروسي يفوح بالمنطقة، لذلك يتوجّب عليها عدم اللعب بالنار مع روسيا. كما أن استمالته للحكومة القوميّة في نيودلهي ما هو إلا انعكاس لإصرار دوغين على أن الإمبراطورية الأوراسية يتوجب أن تمتد إلى المحيط الهندي.

لا تقل أفكار الرئيس الصيني شي جين بينغ أهمية بالنسبة لساسة الغرب عن جنون العظمة لدى دوغين، وقد أعلن كل من شي وبوتين العام الماضي عن شراكة لتقويض دور و نفوذ الولايات المتحدة. لكن وفقاً لدوغين يتوجب إسقاط الصين كونها تشكّل خطراً على مشروعها التوسّعي، حيث رأى أن طموحات روسيا في آسيا تتطلب تفكيك أراضيها، وزرع بذور الخلاف بداخلها فضلاً عن تقسيم الصين على أساس سياسي وإداري، واعتبر أن اليابان شريك روسيا الطبيعي في شرق آسيا.

بمعنى آخر، يمكن تلخيص مبادئ دوغين في كتابه المكوّن من 600 صفحة بفكرة واحدة: لقد انتصر التحالف الخطأ في الحرب العالمية الثانية، ولو لم يُقدم هتلر على غزو روسيا لكان من الممكن تحقيق النصر على بريطانيا، ولبقيت الولايات المتحدة متقوقعة على نفسها ومقسّمة، ولكانت اليابان ستسيطر على جمهورية الصين السابقة كونها شريكة روسيا الثانوية.

وأخيراً، هل الفاشيّة الممتدّة من إيرلندا إلى المحيط الهادئ تعيش في أضغاث أحلام ووهم بعيد المنال؟ بكلّ تأكيد نأمل ذلك، لكن الأوهام تصبح مهمّة و خطيرة حينما يحتضنها الطغاة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد