هل تؤدي الأزمة العراقية إلى استقلال إقليم كردستان؟

د. ديفيد بولوك

لن يخرج من الأزمة الوجودية التي تعتصر العراق حاليًا سوى منتصر واحد، ليس من حيث التصميم بل من حيث المبدأ: وهذا المنتصر هو الأكراد. فتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) – الذي غير اسمه مؤخراً الى “الدولة الإسلامية” وغيره من عصابات السنّة العرب يحاربون جيوشًا عربية ذات غالبية شيعية وقواتٍ غير نظامية تم حشدها على عجل، وأصبحوا اليوم يتقاتلون بضراوة في معظم مناطق العراق الغربية، ولذلك فإنّ نظام الرئيس بشار الأسد العربي ومعارضته العربية – بمن فيها فصائل تنظيم داعش التي عززت قواتها بفضل الغنائم التي كسبتها من العراق – يواصلون ذبح أحدهم الآخر مطلقين العنان لأنفسهم بشكلٍ مروع. إلا أن هذه المعارك بين الأفرقاء العرب تترك تأثيرًا يدعو للسخرية، تأثيرًا ليس حتمًا مرجوًّا، ألا وهو مساعدة مقاطعات الأكراد الإثنية التي تقع في كلا البلدين على البقاء آمنة نسبيًا تتمتع بحكمٍ ذاتي وباستقلالية ناشئة إنْ بحكم القانون (كما هي الحال في العراق) أم بحكم الواقع (كما هي الحال في سوريا). إنّ عمق الأزمة العراقية ونطاقها – بما تحمله من تداعيات جمّة تتخطى حدود الدولة – يزيدان التخوف من انتقال الأكراد من الحكم الذاتي إلى الاستقلالية التامة. وقد بات هذا الأمر إمكانية حقيقية للمرة الأولى منذ قرنٍ كامل، أي منذ أعطي الأكراد هذا الوعد المراوغ عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. لكن تقدير التعقيدات التي قد تترتب عن ذلك يستدعي الاطلاع على الخلفية التاريخية لهذه المسألة والنظر بشكل مقتضب في ثلاثة تناقضات إضافية تدعو للسخرية.

أولاً، من حيث الخلفية، يُشار إلى أنّ الأكراد البالغ عددهم نحو خمسة ملايين والذين يعيشون في حكومة إقليم كردستان يتمتعون منذ أكثر من عقدين بحكمٍ ذاتي يحرصون على الدفاع عنه: وقد تم ذلك في البداية بحمايةٍ جوية أمريكية بعد أعمال الثأر الوحشية التي ارتكبها الرئيس السابق صدام حسين عقب هزيمته في الحرب ضد الكويت في العام 1991، وبعد ذلك تولوا الأمر بأنفسهم نوعًا ما بعد الإطاحة بصدام حسين في العام 2003. لكن الحكم الذاتي لأكراد سوريا عمره أقصر بكثير ومنهجه أقل رسمية بأشواط. فالثلاثة ملايين كردي الموزعين في شمال شرق سوريا نجحوا في البقاء على الحياد بشكل كبير خلال الحرب الأهلية الجارية، ناعمين بحماية حزبهم السياسي الكردي الخاص “حزب الاتحاد الديمقراطي” والميليشيا التابعة له المعروفة باسم “وحدات حماية الشعب”.

بيد أن التطور الكردي الأبرز الذي تشهده الأزمة الراهنة على الأرض يحدث عند أطراف إقليم كردستان العراق، وذلك في مجموعة من “الأراضي المتنازع عليها” عند حدود المحافظات العراقية الشمالية التي تدور فيها المعارك – أي نينوى وديالى وخصوصًا كركوك. فهناك نجح الجيش الكردي المعروف “بالبشمركة” في بلوغ أهدافه الإقليمية التي يطمح إليها منذ زمن، تقريبًا دون أن يطلق رصاصة واحدة. فمع تفكك الجيش العراقي أمام غزو داعش، سيطرت قوات “البشمركة” تقريبًا على كافة الأحياء الكردية في تلك المناطق وحصدت غنائم كبيرة تمثلت بالقسم الأكبر من مدينة كركوك ومنشآتها النفطية، ومنطقة استراتيجية جديدة من الحدود السورية، بالإضافة إلى سلسلة بلدات تقع على مسافة أبعد شرقًا حيث عاش الأكراد لفترة طويلة تحت رحمة الأطراف المتنازعة على النفوذ ما بين سنّة وشيعة وحتى إيرانيين واليوم يحافظ الأكراد على مركزهم بوجه كل التحديات، أصادرةً كانت عن “الدولة الإسلامية في العراق والشام” أو عن أي قوات عربية أخرى.

وثمة تناقضٌ آخر يدعو للسخرية، وهو أن كبار القادة الأكراد في العراق وسوريا هم أيضًا خصوم. فرئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني ورئيس “حزب الاتحاد الديمقراطي” صالح مسلم بالكاد يتخاطبان ولا يتعاونان إلا بأدنى حدٍّ ممكن ضروري لأمن كليهما. فالوضع العملي لأحدهما يختلف للغاية عن وضع الآخر، حيث أن إقليم كردستان العراق يتمتع باستقرارٍ وأمانٍ أكبر من نظيره السوري، الأمر الذي يقف هو أيضًا في طريق وحدة الطرفين. لذلك يبدو الاحتمال ضئيلًا جدًا بأن يحاول حتى الطرفان ضمّ أراضيهما في هيئة كيان كردي جديد عابر للحدود – أو حتى دولة كردية ذات استقلالٍ حديث العهد.

ولكن في ما يتعلق بكردستان العراق، بات الرئيس بارزاني يتحدث بغتةً وبشكلٍ علني صارخ عمّا يشبه إلى حدٍّ كبير الاستقلال، وذلك بجدية وصراحة أكثر من أي وقت مضى. ففي مقابلة أجرتها معه قناة “سي إن إن” الأسبوع الفائت، قال متأملاً بان الأوان قد حان ليقرر الأكراد مصيرهم بأنفسهم، وهذا أمرٌ سيتخذ “الشعب” قرارًا بشأنه قريبًا. كما أن مستشاره في الأمن القومي وصاحب النفوذ فؤاد حسين متواجد في واشنطن هذا الأسبوع لإجراء سلسلة من الاجتماعات، مع العلم بأن أحد معاونيه أشار في حديث خاص إلى أن هذه الاجتماعات ستتطرق إلى موضوع “الاستقلال”.

من ناحية الجدوى الاقتصادية، قد يطرح استقلال كردستان مشكلة مستمرة. فحتى الآن، كان هذا الإقليم يعتمد بدرجة كبيرة على عائدات النفط من حكومة بغداد المركزية. ولكن خلال الأشهر الأخيرة، بدأت حكومة إقليم كردستان بتصدير نفطها الخاص عبر أنابيب جديدة تمر بتركيا، وذلك بخلاف رغبة حكومة بغداد. وبما أن الحكومة العراقية مستغرقة حاليًا وبشكل مفهوم في رغبتها بمجرد الصمود والبقاء، وبما أنها تطلب الدعم الكردي في المسائل الأمنية الأساسية، ليست في موقع يؤهلها الاعتراض على مبادرة الطاقة التي أخذتها حكومة إقليم كردستان بشكل أحادي. أضف إلى أن استحواذ حكومة إقليم كردستان على كركوك ومحيطها يضيف كمية النفط وأنابيب النفط إلى قدراتها القائمة. واليوم بات إقليم كردستان العراق قادرًا على تصدير ما يعادل مليون برميل يوميًا في المستقبل المنظور، متخطيًا بأشواط المئة وخمسين ألف برميل في اليوم أو ما قارب ذلك التي كان يصدّرها في الماضي غير البعيد.

مع ذلك، إذا كانت بغداد قادرة اليوم على تقييد الاستقلال الكردي بالوسائل العسكرية أو الاقتصادية، فإنّ جيران إقليم كردستان الآخرين وشركاءه في الميدان يملكون بعض التأثير على هذا القرار المصيري. ففي الأيام القليلة الماضية، جاهر المسؤولون الإيرانيون باعتراضهم على استقلال كردستان، ذلك أنّه لإيران حدودٌ طويلة مع إقليم كردستان وقد شهد وسمع كاتب هذا المقال العديد من الروايات المخيفة عن العملاء الذين عبروا تلك الحدود لممارسة الضغوط المهولة على جيرانهم الأضعف والأقل عددًا منهم.

وعلى النحو نفسه، وفي تقاربٍ جديد في المصالح الظاهرية مع إيران بشكلٍ يدعو هو أيضًا للسخرية، يُحكى أن المسؤولين الأمريكيين لا ينصحون الأكراد بالاستقلال. وقد قيل إنّ الوزير كيري أوصل هذه الرسالة خلال زيارته الأسبوع الماضي إلى إربيل، عاصمة إقليم كردستان – وهي الزيارة الأولى من هذا النوع بعد زيارة كوندوليزا رايس في العام 2009 – وأعقب ذلك باتصال هاتفي طارئ إلى بارزاني خلال نهاية الأسبوع الفائت. وتبدو الذريعة الأمريكية أنّ أكراد العراق يمكنهم لا بل عليهم أن يحققوا معظم تطلعاتهم – ما عدا الاستقلال- ضمن حكومة عراقية جديدة وأكثر “شمولاً” – وهي حكومة بوسعهم المساعدة بشكل حاسم في تشكيلها على ضوء حالة الطوارئ الراهنة. ودعمًا لهذه الخطوة، أقله إلى درجة متدنية، يبدو أنّ جزءًا من الثلاثمئة مستشار عسكري أمريكي جديد سيعمل انطلاقًا من إربيل – ما يدعم العلاقة الأمنية الثنائية التي لطالما طمح الأكراد إليها.

وهذا يقودنا إلى التناقض الرابع، ألا وهو أن القوة الخارجية الأكثر إذعانًا لطلب الاستقلال الكردي اليوم هي تركيا، عدوهم التاريخي. فأنقرة منخرطة أصلاً في مفاوضات سياسية وأخرى آيلة لوقف إطلاق النار مع المعارضة الكردية المسلحة داخل أراضيها، أي حزب العمال الكردستاني، وقد حافظت على علاقات سياسية وأمنية واقتصادية ممتازة مع حكومة إقليم كردستان طيلة السنوات الخمسة الماضية. كما أن تركيا التي لا تملك نفطًا خاصًا بها لم تكتفِ بتقديم خط إمدادات حيوي لتصدير نفط إقليم كردستان إلى حوض المتوسط، بل إنها تعيد اليوم إرسال المنتجات النفطية المكررة إلى الاقليم (في مدعاةٍ صغيرة أخرى للسخرية) للتعويض عن خسائر الإنتاج في مصفاة بيجي العراقية التي تحاصرها قوات داعش. هذا وصرّح مؤخرًا المتحدث باسم الحزب التركي الحاكم، أي حزب العدالة والتنمية، أنّ استقلال كردستان لم يعد مسألةَ تكافح بلاده للحؤول دون حدوثها.

إذًا في ما يخص مسألة الاستقلال التي برزت على حين غرّة، هل ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية أن تنحاز للأكراد وتركيا أو أن تقف إلى جانب بغداد وطهران؟ الواقع أن الخيار الأول يبدو أخلاقيًا وعمليًا أكثر من الثاني. وهذا ما يحملنا إلى التناقض الساخر الأخير: وهو أن حكومة إقليم كردستان قد توفّر هي نفسها على الولايات المتحدة هذا العناء. إذ لا يزال يبدو أن الرئيس بارزاني يستخدم التهديد بإعلان الاستقلال كوسيلة لنيل أفضل الشروط الممكنة للبقاء في العراق، عوضًا عن التسرع بشكل متهور إلى تحقيق حلم شعبه الدائم في الوقت الراهن. وبطبيعة الحال قد تتضمن هذه الشروط الاعتراف الرسمي باستقلالية حكومة إقليم كردستان في مجال الطاقة وبالأراضي التي تم الاستحواذ عليها حديثًا والكثير من الامور الاخرى. إنها صفقة يجب على الولايات المتحدة أن تؤيدها. ولا يحتمل أن تتراجع حكومة إقليم كردستان إلا إذا ما رفض العراق إبرام هذه الصفقة التي ستنقذه من الهلاك مع مواطنيه الأكراد، أو إذا انهار كليًا بسبب نزاعه مع الأفرقاء العرب. وفي هذا الوقت تقبع مسألة الاستقلال الكردي في الكواليس بانتظار الظهور على الساحة.

*زميل برنامج “كاوفمان” بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ومدير منتدى فكرة للحوار.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد