من فتورٍ إلى حوارٍ : ما الذي يجعل المحادثات بين إيران و السعودية تمضي قُدُماً؟

جوست هلترمان

عندما كشفت تقارير في إبريل / نيسان الماضي عن إجتماع ضمّ مسؤولين رفيعي المستوى من السعودية و إيران لمناقشة العلاقات المتأزمة بين البلدين، تبادر إلى الذهن ثلاثة نُقاط على صلة بالحرب الباردة التي أستمرت بالمنطقة الخليجيّة منذ اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية عام ١٩٧٩ .

الأمرُ الأوّل، إن وصول إدارة بايدن لسُدّة الحكم واستراتيجتها المُغايرة لإدارة ترامب في ما يتعلق بإيران، دفع السعوديين لإعادة تقييم علاقاتهم مع إيران. الأمر الآخر، ومع استمرار المحادثات، يرى القادةُ السعوديون بأن الدبلوماسية هي الحلُّ الأمثل مع إيران بدلاً من المواجهة. وأخيراً ، وفي هذا الصدد، أعطى الجانبان العراق فُرصة ليكون مُسِّيراً للدبلوماسية، يقف على الحياد. كلّ ذلك يؤدي في نهاية المطاف إلى فرصة مواتية لبدء جولة جديدة من المحادثات حول حوارٍ شامل بالمنطقة يهدف لتخفيف التوتُرات بالمنطقة الخليجيّة.

وترجع جذور هذه التوترات لعقودٍ مضت. فقد كان العام ١٩٧٩ مِفصليّاً لما نراهُ اليوم .حيثُ لم تكن الحركة المُفاجئة في إيران بالإنتقال من الملكيّة العلمانية للجمهورية الثيوقراطيّة الشيعية، ولكن أيضاً، بعد حصار مكة في أواخر العام ١٩٧٩، تحولت السعودية من سِدانتها السلبية لأطهر الأماكن الإسلامية إلى الدعوة على المستوى العالمي للحركة الوهابية، وهي حركة سُنيّة متشددة في الإسلام. وفي خِضم هذه التطورات في طهران و الرياض، التي مكنت من خلق الاستقطاب في سياسات المنطقة وتحالفاتها، وفي ظلّ غياب أرضيّة مُحايدة بين القوتين، يعتبر التنازع أمر جوهري بين النظامين السياسيين، ذلك التنازع الذي تطّور لصراع حول النفوذ الجيوسياسي. وقد إستغلّ الطرفان تعابير الأثنيّة و الطائفيّة في صراعهما.

يرى السعوديون إيران كدولة عدوة مُصرةٍ على تصدير نظامها الإسلامي الشيعي للمجتمع الشيعي في العالم العربي لتقويض الأنظمة العربية. إنها تُعزّز من طموحات الهيمنة لدى إيران و قدرتها على التمدد والتأثير حسب التصّور السائد لدى السعوديين، ولديها تطلُعاتها لفرض قوتها الدينية على مكة والمدينة.  ويرون، كذلك، أن نشر إيران أذرُعها بالمنطقة عن طريق الوكلاء المدججين بالسلاح من غير دول، بدءاً من لبنان في أعقاب الغزو الإسرائيلي عام ١٩٨٢، وصولاً إلى العراق عبر إسقاط نظام صدام حسين و قواته الأمنيّة في العام ٢٠٠٣ من دون وضع بديلٍ مناسب عنهم، إلى سوريا، اليمن، البحرين في فترة ما بعد الإنتفاضات الشعبيّة عام ٢٠١١ وما خلّفته من فراغٍ أمني و سياسي.

وحققت إيرانُ مزيداً من التقدم بتسليح حلفائها وتدريبهم للعب أدوارٍ سياسية وشبه عسكرية، من حزب الله في لبنان، إلى الحشد الشعبي ( ميليشيات في العراق )، إلى الحوثيين في اليمن، لكنّ سطوتها وتمدُّدها كانتا محدودتَين نتيجة للأجندة الداخلية المتضاربة لهذه المجموعات، والتي لا تنسجم وسياسة إيران الإقليمية. وحقيقةً، على الرغم من أن إيران جزءٌ من المنطقة لكنها غريبة عليها، فهي دولة كبيرة وأعجمية، وعلى ما يبدو إنها خطيرة على غرار تركيا، تتطلَّعُ وتطمح لإمبراطورية واسعة. 

وقد تمّ إضعافها على مدى أربعة عقود من العُزلة والعقوبات الدولية، ورغم ذلك كله، استطاعت إيران تحويل الضعف إلى قوة، بالاعتماد على مواردها ودهائها، لتُصبح مرة أخرى دولة إقليمية عُظمى باستطاعتها الدفاع عن نفسها دون دعمٍ خارجي.

لكن لا ينبغي المبالغة بهذا النجاح، فالاقتصاد الإيراني في حالة يُرثى لها، والمجتمع مُختلٌ وظيفيّاً بشكلٍ لا يُوصف، فإيران لا تزال غير قادرة على النهوض بكامل إمكانياتها بسبب عزلتها الدولية المستمرة.

وفي مقابل ذلك، ترى إيرانُ السعوديةَ على أنها محميّة أمريكية لا حول لها ولا قوة، وتُهدّد أمنها كونها جزءٌ من الاستراتيجية الأمريكية على مدى أربعة عقود، حيث تجعل الولايات المتحدة حلفائها بالمنطقة وسيلةً لتقويض إيران والقضاء على ما تبقى من ثورتها.

أكثر ما يُؤرّق إيران هو الوجود العسكري الأمريكي بالشرق الأوسط، وليس المملكة العربية السعودية أو أيّة دولة خليجية أخرى، ولكنها ترى هذه الدول خطراً عليها، حيث لدى هذه البلدان تصوّرٌ موحّدٌ بشأن استضافة القوات الأمريكية، وشراء أسلحة مُتطورة وزيادة إنتاج النفط لجعل العقوبات المُتعلقةِ في هذا المجال ذات تأثير عليها، وكذلك من المُحتمل أن يُصبحوا هدفاً لها.

وقد أوضحت إيران أنها في حال أن تعرّضت لهجومٍ أمريكي ستنتقم عبر تدمير اقتصاد الدول العربية في جميع أرجاء الخليج، في ظلّ وجود بُنية تحتيّةٍ هشّة جُلّ اعتمادها على النفط وممرات الملاحة البحرية.

طوال كل تلك الفترة، فإن مشروع القوّة الأمريكي في المنطقة شهِد مراحل تمدُدٍ واضمحلال، كذلك حتى وإن تحمّلت عداوتها تجاه إيران، وقد اتّعظت كلٌّ من السعودية ودولٌ خليجية أخرى أن لا يجعلوا ثقتهم عمياء لمُناصرهم القوي، وفي وقت واصلت الإدارات المُتتالية في واشنطن حماية هؤلاء الحلفاء، إلا أنها لم تقُم بذلك برباطة جأشٍ وحماس كاف. 

وقد حذّر باراك أوباما السعودية من جر الولايات المتحدة لنزاعاتها الداخلية بالمنطقة، لكنّ إدارته أعطت الضوء الأخضر لشنّ عملية لها في اليمن، حاول الرئيس دونالد ترامب استمالة السعودية في حملته “الضغط الأقصى ” ضد إيران، وجعلها تدفع الفاتورة عبر شراء الأسلحة الأمريكية. 

لم تهرعْ الولايات المتحدة لنجدة السعوديين أعقاب الهجوم على المُنشآت النفطية التابعة لأرامكو عام ٢٠١٩ عبر طائرات مُسيّرة وهجماتٍ صاروخيّة، وتُشير أصابع الاتّهام إلى إيران على الرغم من زيادة الوجود العسكري الأمريكي في المملكة إثر ذلك الحادث، بغية طمأنة الاصدقاء المضطربين في الرياض.

ويُظهِرُ الرئيس جو بايدن نفسه بموقف الحازم تجاه وليّ العهد، محمد بن سلمان، والذي على الأغلب يُعتبر مسؤولاً عن مقتل المُعارض السعودي، جمال خاشقجي، كما وخاضَ حرباً مُكلفة لا يُمكن الظفرُ بها في اليمن، والتي تُعتبرُ من الحروب الطويلة التي تمّ إعطاء الضوء الأخضر لها، وحظيت بدعم الإدارات المتتالية في واشنطن. 

إن التغيير في البيت الأبيض وعودة الولايات المتحدة للدبلوماسية في عهد بايدن، والذي برُزَ جليّاً من خلال تظافُر الجهود للعمل مع إيران لإحياء الاتفاق الدولي فيما يتعلق ببرنامجها النووي عام ٢٠١٥، كان العامل المُحركَ لدفع الرياض لإعادة تقييم مُقاربتها مع طهران، علّقت آمالها في حملة ترامب ” الضغط الأقصى ” ضد إيران، لكنها لم تُفلح في تحقيق أهدافها أو تقويض إيران.

وأعادت السعودية في حُسبانها أنه لمن الأجدر توطيد علاقات جيدة مع إيران في ظل استمرار المحادثات بشأن برنامجها النووي. وقد بدأت السعودية تستشعر بالخطر المتنامي نتيجة لهجمات الحوثيين في اليمن، الذين يُمطرون الأراضي السعودية بالصواريخ، بينما يجعلون حلفاء السعودية من اليمنيين يتقهقرون أمامهم، حيث أخذت بالسعي لتخليص نفسها من هذا المستنقع، لكن لن يكون بمقدورها فعل ذلك من دون مُساعدة إيران.

ما الذي ستُقدّمه السعودية لإيران بالمُقابل؟. لا نعلمُ بالضبط ما جرى في بغداد بشأن المحادثات التي جرت بين المسؤولين الإيرانيين والسعوديين، لكن من البديهي أن يطلب الجانبُ الإيراني موافقة السعودية لإحياء الاتفاق النووي، ودوراً سياسياً فاعلاً للحوثيين في مُستقبل اليمن بعد انتهاء الحرب في هذا البلد.

والمحادثات التي جرت في أروقة العراق ذات بُعدٍ و مغزى سياسي، حيث لا يريد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بمفرده إبعاد بلاده وعدم جعلها ساحة صراع للدول الخارجية، بل العمل على جعلها صلة وصل فيما بين هذه الدول، وهو في موقعٍ يُمكّنه من ذلك.

وسينعكس ذلك إيجاباً على هذا البلد، وسيجلب السلام والاستقرار إليه بعد أن مزّقته الانقسامات، واستغلّته الولايات المتحدة، إيران، السعودية، وتركيا لزعزعة ونسف استقراره.

كل هذه العوامل تُشير لفرصةٍ مُواتيةٍ للجهات الفاعلة الخليجية، بدءاً بالسعودية، وذلك في السعي لتخفيف الاحتقان بالمنطقة عبر التقليل من نبرتهم الاستفزازية، والبدء بجولة محادثات مع إيران للانتقال من الفتور إلى الحوار. إن مغبّة مواجهة شاملة وواسعة يأتي لعدم وجود ما يكفي من قنواتٍ للاتصال بين الطرفين. 

يُمكن لهذا الوضع أن يُقوّمَ في حال تبنيهما لعلاقاتٍ جديدة وإطلاق مُحادثاتٍ حول المسائل التي تحظى باهتمام مُشترك، من ضمنها التأثيرات الضارة لتغيُّر المناخ، وفتحَ قنوات اتصالٍ جديدة، مثل تلك التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد، والتي اُعتبرت تطوراً مُرحباً به.

جوست هلترمان *

مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريفيا / مجموعة الأزمات الدولية

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد