أن تكون فيدراليا نحو فهم بنية النظام الفيدرالي

د. صلاح نيوف

الإشكالية إن دراسة الفيدرالية بمفهومها الواسع تصطدم بصعوبات من نوعين: نظرية وعملية. فمصطلح الفيدرالية له صدىً تجريبي/إمبيريقي وآخر نظري. وإذا وجدت النظرية الفيدرالية فإنها حتى الآن لم تكتمل دائرتها النظرية.

يرى “ميشيل بورغيس” في كتابه [الفيدرالية المقارنة]، صادر في الإنكليزية،” أنه وفي أحسن الأحوال هناك نظرية جزئية ترتكز على تحليل مفاهيمي صارم وتسعى لتحقيق دقة عالية في استخدام المصطلح، وفي أسوأ الأحوال، هناك الرؤية التجريبية المتجذرة في عدم القدرة على تطوير المفاهيم وتعريف المصطلحات الرئيسية. سيكون من المستحيل، من غير هذا التحضير الأساسي، الدخول في تحليل مقارن حقيقي يبنى بشكل نظري صحيح”.من الإشكاليات التي تعترض دراسة الفيدرالية هي أنها صورة مصغرة microcosme عن إشكالية دراسة العلوم السياسية نفسها. تَدرس الفيدرالية، وبشكل متزامن، قضايا أخلاقية أساسية وكذلك أيضا قضايا غير أخلاقية. الأولى، مثل التعددية الاجتماعية والهويات الفردية والجماعية، وهي مسائل مشحونة بالعواطف عند الكثير من الناس بينما هؤلاء يسعون بشكل منهجي للربح والأمن الاقتصادي والمصالح. الأساس الأخلاقي للفيدرالية مستمد من بعض القيم الجوهرية، مثل الاحترام، التسامح، الكرامة والاعتراف المتبادل، والذي يقود إلى شكل خاص من الارتباط الإنساني، هو الدولة الفيدرالية/الاتحادية.

يفترض الأساس الأخلاقي للفيدرالية أن تكون هذه الصفات متأصلة ومتماسكة في النظام الفيدرالي أما ما تبقى فهو مجرد تقنيات دستورية و/أو سياسية خاصة من أجل تحقيق العديد من الأهداف التي لها أولوية مثل التوسع الإقليمي والفوائد الاقتصادية والأمنية. من الأسباب الأخرى التي جعلت الفيدرالية إشكالية بالنسبة للباحثين هي أنها متعددة الأوجه. بحكم طبيعتها نفسها، فهي دستورية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، قضائية، فلسفية وإيديولوجية. إنها تغطي مجموعة كاملة من التجربة الإنسانية. إذن، فهم الفيدرالية أو الفدرلة بشكل كامل وفهم أوجهها المتعددة هو أمر شبه مستحيل. بمعنى أن لها نوعية أو طابعا لا يمكن التوصل إليه. في العلوم السياسية، نرى هذا العلم يدخل مباشرة في النقاش العام إلى ما لا نهاية حول السلطة، القوة، الشرعية: كيف هو الوجه الأفضل لتنظيم العلاقات الإنسانية والحفاظ عليها وتعزيزها بين هويات مختلفة وقابلة للحياة. إذن، هذه الاعتبارات ليست حكرا على الفيدرالية، ولكن هي مرتبطة بشكل مباشر بالأشكال المختلفة للتنظيم الإنساني.

في هذا البحث، نحاول التغلب على العديد من الصعوبات التقليدية في دراسة الفيدرالية من خلال تبني التمييز المفاهيمي بين الفيدرالية federalism وfederation والذي تم الحديث عنه في المذهب الأنجلو ـ أمريكي من خلال ” بيترسون كينغ” عام 1982. شكّل كتابه Federalism and Federation مقاربة جديدة ومختلفة لهذا الموضوع. ” لقد مكّن كتابه الأكاديميين من عدم الوقوع في فخ الحوار العقيم وقدّم تعريفا مهما وجديدا” [” ميشيل بورغيس”، في الإنكليزية، ص 15]. فشلت التعاريف في كثير من الأحيان في تذليل العقبات أمام البحث ولم تؤدي إلى تقديم تحليل أو تجد لها مكانا في التحليلات. من الواضح أن التعريف الديماغوجي في الخمسين سنة الماضية قد عاش كثيرا من غير فائدة. تتجنب المقاربة المفاهيمية عند “بيترسون كينغ” التعاريف المفرغة والرتيبة وتعيد تحديد التعريف من جديد من خلال التركيز القوي على التحليل المفاهيمي الدقيق والذي يتطلب الدقة في استخدام المصطلح، إن التعريف الجامع للفيدرالية يظهر كشرط لا غنى عنه من أجل دراسة معمقة للفيدرالية.

فيما بعد، سيتم تناول الفيدرالية كأداة لدعم الفدرلة. الفدرلة هي نوع خاص من الدولة، شكل من أشكال التنظيم الخاص والمؤسسي غرضه الرئيسي هو استقبال عناصر بنائية/اتحادية في عملية اتخاذ القرار الحكومي المركزي من خلال ترسيخ القيم الدستورية. إن العلاقة بين الفيدرالية والفدرلة هي علاقة معقدة جدا، الفيدرالية تدعم وتغذي الفدرلة والعكس صحيح، وهناك فيدراليات كثيرة تختلف بعمق عن مضمونها. يعكس المفهومان تكوينات وتشكيلات من أنماط ونماذج مختلفة، أحيانا بمعنى إقليمي وأحيانا أخرى بمعنى غير إقليمي. مثل الاتحادية federation بالمعنى السياسي [كتصنيف تنظيمي للدولة حيث تكون السلطة موزعة بين أجسام تشريعية مركزية وتكون الأجهزة التشريعية الإقليمية أعضاء في الفيدرالية] فإن الدولة الاتحادية federlism [وهي شكل من أشكال الدولة التي تنشأ من خلال اتحاد عدد من الولايات أو الأقاليم] هي في نفس الوقت متجذرة داخل سياقها ومعناها الذي يحدده الحاضر. ولفهم هذه الدولة الاتحادية علينا بالضرورة تحديد المفهوم بمعانه الخاص والمميز: التاريخي، الثقافي، الفكري، الفلسفي، الاجتماعي، الاقتصادي، القانوني والإيديولوجي. بهذه الطريقة، نبدأ بتفهم وتقدير هذه التعقيدات متعددة الأبعاد للموضوع. الاتحادية federation، أيضا، هي معقدة ضمن نفس السياق.

في الواقع المؤسسي الملموس، لا يمكن اختزالها إلى منتج بسيط للفيدرالية federalism. نحن لا نمضي في خط مستقيم واحد من الفيدرالية إلى الاتحادية federation. الاتحادية نفسها محكومة بأهدافها، وهذا ما يدعوه “بيترسون كينغ” :”الإدارة الذاتية الواعية”، هي تعمل على الفيدرالية وفي نفس الوقت تساعد وتشارك في لإعادة تشكيل تعبيراتها وأهدافها. العلاقة بين الفيدرالية والاتحادية هي علاقة تكافلية، يؤثر كل منها على الآخر في وضع ليس له نهاية. من أجل بلورة موقف قوي يجب علينا أن نستخدم المفاهيم بعناية، ولكن ليس هناك شك في فائدتها من أجل التحليل المقارن. الفيدرالية والاتحادية يساعدانا ويشجعانا على فهم واحد من أهم وأعمق الحالات الإنسانية الصعبة والتي عرفها الانسان في الألفية الجديدة، كيف ينظم الناس ويعيدون تنظيم أنفسهم بشكل إرادي للعيش معا جنبا إلى جنب في روابط من الجوار السلمي. ينبغي ألا نكون على مستوى من التوقعات المرتفعة جدا أو غير القادرة على التحقق العملي.

الاتحادية ليست حلا سحريا للجميع، وليست الإجابة على جميع أشكال الصراع الإنساني. على العكس من ذلك، فهي لا تنطبق سوى على صراعات معينة وفي ظروف معينة. في هذا المعنى، هي نسبية وظرفية. يمكنها في بعض الأحيان أن توفر للإنسان قاعدة أو طريقة للعمل من غير أن تكون الحل في حد ذاتها. وهذا هنا هو شأن آخر مختلف. عن تحليل مفهومي federalism و federation جاء كتاب ” رفيوس دافيس” [المبدأ الفيدرالي]، صادر في الإنكليزية، وقد مرّ في ذات المشهد الفكري في هذا الكتاب الذي نشر لأول مرة عام 1978 وحدد ما اعتبره كمعضلة في دراسة الفيدرالية. ” أولئك الذين يسافرون في الماضي عليهم ألاّ ينتظروا العثور على بداية أو شيء متماسك، ولا العثور على طريق واحدة. أما الأسوأ بالنسبة للمستكشف، لا يوجد سجل ولادة للأفكار السياسية، لا يوجد اسم للولادة ولا يوجد تواريخ لكتب. إن أصل فكرة الفيدرالية في حالة ضبابية، كما هو أصل الحياة نفسها، لا يوجد تفاصيل آمنة ولو نسبيا”.

[رفيوس دافيس، المبدأ الفيدرالي، في الإنكليزية]. وصل دافيس في نهاية رحلته المحفوفة بالمخاطر مع إعادة صياغة متواضعة للفيدرالية كمصطلح لاتيني foedus : إلى الصلة التي تروّج وبنجاح للتصالح بين المصالح الشخصية والمشتركة. ظهر مصطلح الفيدرالية foedus في أشكال متعددة مختلفة، لكن ولاءه الحقيقي اقتصر على القواسم المشتركة والفردية. بعبارة أخرى، اعترف بالظرف الإنساني المتأصل، في نفس الوقت، على الحاجات الفردية والمشتركة وعلى الهوية. إن طبيعة هذه الدراسة هي شكل مصغّر عن الهدف الأوسع للسياسة نفسها، والذي هو البحث والسعي الإنساني نحو الأفضل بمعناه الواسع. لقد شغلت الفكرة الفيدرالية من خلال أشكال محددة ونوعية للارتباط الإنساني عملية تنظيم العلاقات الإنسانية بهدف الحياة الأفضل لإنسان. في النتيجة، إن مبدأ الفيدرالية هو مبدأ تنظيمي وهدفه الأساسي هو أخلاقي في الأصل. أما غرضه فهو توفير قاعدة وأساس للنظام والاستقرار، ولكن ضمن إطار يعترف رسميا ويعزز ويحمي كرامة الإنسان، إنه إطار التنوع والاختلاف. هذا هو مضمونها الأخلاقي وهدفها. يشكل الإنسان الأنماط والأنواع والأشكال المختلفة للوحدة، للاختلافات الجماعية، والتي هي مبنية وممأسسة من أجل تحويل أهداف الإنسان ونواياه إلى علاقات إنسانية. إن التوتر الخلّاق الذي ينتج عن هذه الحالة، والهدف المزدوج للوحدة والتنوع، يعطي المبدأ الفيدرالي صفته أو سمته الخاصة.

إن دراسة الفيدرالية والاتحادية هي دراسة إشكالية في جزء منها لأنها أساسا تطور لفكرة سياسية أو مبدأ تم تفسيره من خلال الكثيرين بأشكال وطرق مختلفة وفي أوقات مختلفة وظروف مختلفة. لقد أخذ المفهومان أشكالا متعددة عبر عصور تاريخية مختلفة. نجد من بين نقاطهما القوية القدرة على التحول والمرونة، ولكن جعلا من هذا الشكل في الارتباط الإنساني موضوعا صعبا يمكن من خلاله الوصول أو وضع أفكار نظرية متعددة. باختصار، هو موضوع دراسي صعب من حيث أنه مضطرب نظريا. كتب [غريفز] قبل أكثر من ستين عاما: ” هناك معنى حيث الفيدرالية بداخله، من خلال مزيجها المتكون من وحدات مختلفة، تتطابق مع طبيعة الإنسان المعاصر. إنه عضو، ليس من وحدة اجتماعية واحدة، بل من وحدات اجتماعية متعددة. إنها تنتمي إلى إقليم/منطقة، ربما إلى كنيسة أو حزب سياسي، لدولة، لمجموعة من الديمقراطيات، لعرق، وأخيرا للإنسانية. إذن، ليس من المستغرب، عندما نبحث حول الفيدرالية، أننا نلاحظ أنها تغطي مساحة كبيرة جدا من التجربة الإنسانية. [ غريفز، الاتحاد الفيدرالي في الممارسة العملية، صادر في الإنكليزية، لندن، 1940، ص 120]. عندما يتطابق مفهوم الفيدرالية مع الحقيقة التجريبية/الأمبيريقية التي تمت صياغتها عام 1940 نكون قد اقتربنا كثيرا من مفهوم Althusius [1563ـ1638]، قانوني ألماني ويصنف كفيلسوف سياسي كالفيني. له كتاب شهير جدا يحمل عنوان [Politica methodice digesta et exemplis sacris et profanis illustrata, cui in fine adjuncta est Oratio panegyrica de utilitate, necessitate et antiquitate scholarum]. [ السياسة، معروضة بشكل منهجي و موضحة بأمثلة مقدسة ومدنسة].

جعل منه هذا الكتاب أبا للفيدرالية الحديثة وللسيادة الشعبية، وقد سعى للتوفيق بين الفيدرالية وسلطة الملك. كيف يمكننا أن نجد وسيلة من خلالها يمكن للرجال والنساء أن ينجحوا في تحديد وتحقيق مستوى من الأداء الذي يناسب روحهم الفردية وشخصيتهم؟ أي نوع من الدولة والمجتمع يمكن دعم هذا الطرح؟ فيدرالية/أو تقنيات اتحاد فيدرالي يمكن استخدامها بشكل فعّال لتوفير إطار يسمح لهؤلاء بالعيش، تنفس نسيج المجتمع، التعبير عن رأيهم وشخصيتهم؟ هل يمكنهم أن يعكسوا حقيقة اجتماعية تجريبية؟ إن القضايا الفلسفية والنظرية المعقدة هي في قلب هذه المسألة. الفيدرالية التي سيتم الحديث عنها، تعكس التفكير والانشغال الفلسفي، الإيديولوجي والتجريبي. إنها متعددة الأشكال لأن الإنسان هو معقد بدوره. صعبة التحليل والدراسة لأنها وبشكل دقيق هي ناتجة عن هذا التعقيد. الفيدرالية ليست شيئا سهلا، إنها تتضمن وتبين التنوع والتعدد حتى للفيدرالية نفسها. الفيدرالية كما الاتحادية، هما سببا ونتيجة، تعكسان الحركة والتغيير. حركة لشكل الارتباط مع الآخر، ويتم إنتاجها من وقت لآخر.

أولا ـ الفيدرالية والاتحادية: التعريف والمفهوم

بدأ النقاش الفكري الحقيقي حول الفيدرالية الحديثة مع نهايات القرن الثامن عشر. أدت الظروف الاستثنائية التي أحاطت بعملية الانتقال في الولايات المتحدة من الكونفدرالية إلى الفيدرالية/الاتحادية federation بين عامي 1781ـ1789، أدت إلى تشكيل طبيعة النقاش الفكري اللاحق بطريقة لها آثار ونتائج هامة من أجل فهم واحدة من أهم الابتكارات التاريخية للحكم الحديث وللسياسة. استند النموذج الفيدرالي الأمريكي الذي أنشئ في عام 1789 على مجموعة من المبادئ الأساسية التي تم تقليدها بشكل واع من قبل الآخرين، ونتيجة لذلك، ساهمت في إطلاق حوار تحليلي مستمر حول معنى أن تكون ” فيدرالي”. ضمن هذا المعنى، كانت الحكومة الأمريكية تتطابق، وفي وقت متزامن، مع النظرية والتطبيق. [راجع، ” ميشيل بورغيس”، في الإنكليزية، مرجع سابق، ص 23]. لقد كان النقاش الفكري حول الفيدرالية المعاصرة عبارة عن جهد مشترك بين ” ألكسندر هاملتون” و ” جون جاي”، و “جيمس ماديسون” ويعرف هذا الأخير باسم مستعار هو ” بوبليوس”. كان دفاعهم يتركز على “جمهورية جديدة مركّبة/جامعة”.

كرسوا موهبتهم لشرح الانتقال من الكونفدرالية إلى الاتحادية federation، لاقى عمله الكثير من التشكيك أكثر من الفعالية، أما شرحهم للشكل الفيدرالي للحكومة في الكتاب The federalist خلال 1787ـ1788 فما زال يثير الاعجاب حتى اليوم بسبب منطقه، إقناعه ووضوحه، كما يشير [كلينتون روسيتر]:” إن كتاب the federalist حوّل الفيدرالية من وسيلة إلى مقال في الإيمان، من حادث عرضي في التاريخ إلى تعبير دائم للمبادئ الدستورية”. [كلينتون روسيتر، أوراق الفيدرالية، نيويورك، 1961، صادر في الإنكليزية]. في كتابه ” الديمقراطية في أمريكا”، والذي نشر لأول مرة عام 1835، اختبر وحلل ألكسي دو توكفيل التفاعل المعقد للحرية، المساواة والديمقراطية حيث كان شاهدا مباشرا على المجتمع الأمريكي الناشئ في بدايات 1830. كان هدفه تقييم الآثار المترتبة على هذه الثورة الديمقراطية الأمريكية بالنسبة للأوربيين. لم توقفه أبحاثه حول الولايات المتحدة عن طموحاته. لم ير في تجربته العملية، فقط الولايات المتحدة، بل أيضا ” صورة الديمقراطية نفسها، مع ميولاتها، طابعها وخصائصها، أهوائها وتحيزاتها” وهذا ما قاده في النهاية لكتابة مؤلف أصبح واحدا من أهم الكتابات الكلاسيكية في علم السياسية.

جمع دو توكفيل بين دور عالم السياسة، عالم الاجتماع والفيلسوف السياسي، مع ملاحظات ثاقبة للأشخاص، للأفكار والأحداث، هذه الملاحظات لم تعطه فقط نظرة لعمل الديمقراطية، بل سمح له أيضا بتحديد إشارات وعلامات جوهرية للفيدرالية والاتحادية. لقد اعتقد أن الشكل الجمهوري للحكم يعتمد، من أجل حيوتيه واستدامته، على استمرار النظام الفيدرالي وأن الفيدرالية داخل الاتحادية ـ أو التنوع الاجتماعي المستمر للولايات المتحدة ـ تنبع مباشرة من المجتمعات المحلية، ومن المناطق ومجالس المقاطعات. يقول دو توكفيل في هذا الشأن:” في أمريكا، تم نظيم البلدة قبل المقاطعة، والمقاطعة قبل الولاية/الدولة، والولاية قبل الاتحاد”. إن النتائج التي ترتبت على هذا التنظيم السياسي للولايات المتحدة، هو أن روح حقيقة الحرية والاستقلال، والتي ميّزت البلدات منذ قرنين قبل حصول الاتحاد، ستكون محمية ومحافظ عليها. ويقول دو توكفيل:” من أجل استمرار المواطن في الحفاظ على ممارسة ما نسميه ” فن الحكم في أماكن صغيرة”، تم تنظيم استقلال الحكم في كل ولاية”. لقد استند الاتحاد الجديد على سيادة الشعب، لكن بناءه من الأسفل انطلاقا من أسفل السلطة السياسية باتجاه الأعلى وعلى شكل دوامة انطلاقا من الفرد في المجتمعات والتكوينات المحلية والبلديات باتجاه حكومات الولايات وإلى الحكومة الفيدرالية نفسها.

في هذه الحالة، وفي نفس الوقت، تم تقسيم السلطة وحمايتها. إن فهم وتقييم الفكرة الفيدرالية عند دو توكفيل لا يمكن فصلها كليا عن آرائه العامة ومخاوفه بشأن الديمقراطية نفسها. ولكنها بالنسبة له كانت الديمقراطية الفيدرالية. وهذا يعني الاعتراف بحاجات الأقليات مع التركيز على حدود وإمكانيات الحكومة. من المثير للاهتمام، أيضا، أنه استند إلى القيم السياسية الأنجلوـ أمريكية بشكل خاص، التقاليد والسلوكيات التي كانت تعادل تقليدا فيدراليا خاصا. إن مشاركة دو توكفيل في النقاش الفكري حول الفيدرالية والاتحادية يأتي من أهمية ما أطلق عليه اسم ” الشرط/الضرف الاجتماعي” للأنجلوـ أمريكان، أيضا لحيوية الحكم الذاتي للدولة/الولاية والدور المركزي للآليات والإجراءات ومؤسسات الحكومة الفيدرالية نفسها [انظر، دو توكفيل، الديمقراطية في أمريكا]. إن الاعتراف المبكر بالظرف الاجتماعي للديمقراطية الفيدرالية الأنجلو ـ أمريكية مفيد لتحليلنا لظروف الفيدرالية غير المتكافئة وربما نتحدث عنها لاحقا. إذا عدنا للوراء ونظرنا إلى الملاحظات التي وضعها جون ستيوارت ميل حول الحكومة التمثيلية [انظر، ستيورات ميل، الحكومة التمثيلية، في الإنكليزية]، والتي نشرت في عام 1861، نرى التركيز على المنهج الاستنتاجي عند دو توكفيل ومقاربته الفريدة السيسيولوجية والفلسفية من أجل توضيح وفهم الفيدرالية الأمريكية والاتحادية والبرلمانية التمثيلية البريطانية. في المقارنة بين الاثنين سوف نجد رؤية مختلفة عن موضوع الفيدرالية الذي نتحدث عنه.

لقد كان، دو توكفيل، بعد كل شيء، باحثا في الديمقراطية الأمريكية، أما فلسفة جون ستيوارت ميل لم تمكن مختلفة عن الارستقراطية الفرنسية في بحثها أو رغبتها في إيجاد أفضل طريقة للحكم، إن تركيز دو توكفيل التجريبي أوسع مما ذهب إليه ستيوارت ميل بكثير.

(يتبع)

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد