لماذا خرج الكُرد من اتفاقية سايكس- پيكو بوطن أكثر تمزيقاً؟

د. أحمد محمود الخليل

حقائق تاريخية:

وُقّعت اتفاقية سايكس- پيكو في 16 مايو/أيّار 1916، بين روسيا القيصرية وبريطانيا وفرنسا، لتقاسم النفوذ في الشرق الأوسط، وفرضت على شعوب الشرق الأوسط المُستعمَرة أن تكون ضمن نفوذ دول فاشية، هي وريثة دولة الخلافة العربية، والدولة العثمانية التركية، والدولة الصَّفَوية الفارسية.وقبل اتفاقية سايكس- پيكو كانت كُردستان الكبرى محتلّة من قِبل الدولتين العثمانية والصَّفوية، وكانتا تتحاربان بين فترة وأخرى على أرض كُردستان، ثم اتفقتا على تقسيم كُردستان بينهما بموجب الاتفاقيات التالية:

1 – معاهدة أَماسيا سنة 1555م.

2 – معاهدة (تنظيم الحدود) سنة 1639م.

3 – معاهدة أَرْضَرُوم الأولى سنة 1823م.

4 – معاهدة أَرْضَرُوم الثانية سنة 1847م.

5 – اتفاقية طَهْران سنة 1911م.

6 – اتفاقية (تخطيط الحدود) سنة 1913م.

والجديد الذي أضافته اتفاقية سايكس- پيكو أن كُردستان قُسّمت بين أربع دول (إيران، تركيا، العراق، سوريا)، بعد أن كانت مقسَّمة بين دولتين فقط، وكانت مشكلة الكُرد مع قوميتين (الفُرس، والتُّرك)، فأضيفت إليهما القومية العربية أيضاً، باعتبار أن العراق وسوريا عضوين في (جامعة الدول العربية).

والسؤال هو: لماذا خرجت كُردستان من اتفاقية سايكس- پيكو وهي أكثر تمزيقاً؟للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نأخذ بالحُسبان أن الأحداث التاريخية ليست منقطعة عمّا قبلها، وهي نتاجُ تفاعل عوامل بيئية، وثقافية، وسياسية، واقتصادية، واجتماعية، ولفهم الأحداث التاريخية ينبغي تحليلها على ضوء العلاقة الجدلية بين الثلاثي المهمّ (بيئات- ثقافات- سياسات). وفي هذا الإطار نتناول العوامل التي أنتجت المسألة الكُردستانية؛ وهي عوامل كُردستانية، وإقليمية، ودولية.

أولاً – العوامل الكُردستانية:

بيئة التنوّع والوَفرة الكُردستانية أنتجت ثقافةَ التنوّع والاكتفاء والعزلة، ونمّت في الشخصية الكُردية روحَ الفردية والقَبَلية، وأنتجت فكراً سياسياً يَنْفر من الانقياد لسلطة مركزية، ولا يَنزع إلى غزو أوطان الشعوب واحتلالها، لذلك لم تتحوّل دول أسلاف الكُرد إلى إمبراطوريات، وكان الملك الميدي الأخير أَزْدَهاك هو الوحيد الذي تميّز بفكر سياسي إمبراطوري، وسرعان ما أسقطه بعضُ كبار قادة ميديا سنة 550ق.م، وسَلّموا المملكةَ للفرس، وحرص الفُرس على أَبْلَسة شخصيته، وتصويره طاغية.ومنذ سقوط مملكة ميديا تناوب الغزاة على احتلال كُردستان، وصحيح أنه قامت في بعض مناطق كُردستان دولٌ وإمارات، لكنها كانت تدور في فلك الإمبراطوريات الفارسية والعربية والتركية، وتتهاوى أمام الجيوش الغازية. وطوال 25 قرناً فُقدت  المرجعية الكُردستانية السياسية (الدولة)، وفُقدت المرجعية الكُردستانية الدينية أيضاً، ومع أن النبي زَردشت كان ميدياً لكن الفرس وظّفوا الزردشتية لمصلحتهم، وحاربوا العقيدة اليَزْدانية الأصلية، واستكملت دولة الخلافة الإسلامية محاربتَها.وفي غياب المرجعية الكُردستانية، أصبح المجتمع الكُردي مفتوحاً للاختراقات بأنواعها (سياسياً، دينياً، ثقافياً، اقتصادياً، اجتماعياً)، وساد النمط الرَّعوي الريفي، وتوقّف تطوّر الثقافة الكُردستانية، وفُرّغت الذاكرة الكُردستانية من محتواها الوطني، وتعطّل تطوّر الوعي الكُردستاني، ولم ينشأ اقتصاد كُردستاني قادر على التفاعل مع الاقتصاد الإقليمي والعالمي، ووصل الكُرد إلى مشارف القرن العشرين وهم معزولون عن التفاعل المباشر مع التطوّر الحضاري.

ثانياً – العوامل الإقليمية: 

الموقع الجيوستراتيجي كالقدَر، يساهم في صنع تواريخ الشعوب، وكُردستان مثلّثٌ يقع رأسه قرب القوقاز، ويصل ضِلعُه الأيمن إلى الخليج، ويصل ضِلعه الأيسر إلى البحر الأبيض المتوسط، ويقع بين ثلاث مناطق هضبية صحراوية (هضبة آريانا شرقاً، وهضبة الأناضول غرباً، والجزيرة العربية في الجنوب الغربي). ويقع بين ثلاثة بحار (البحر الأسود شمالاً، والخليج جنوباً، والبحر الأبيض المتوسط غرباً).  إن موقع كُردستان جعلها هدفاً لجيرانهم الفُرس والعَرب والتُّرك، وأصبحت كُردستان ساحة لجيوشهم الغازية، وكان يهمّهم أن يسيطروا على كُردستان بسبب الموقع الاستراتيجي، والأهمّية الاقتصادية (الموارد، وطرق التجارة)، وما زالت كُردستان إلى الآن مهمّة بالنسبة إليهم، لذلك يصرّون على الاستمرار في احتلالها.

ثالثاً – العوامل الدولية:

مرّ أن اتفاقية سايكس- پيكو وُقّعت بين روسيا القيصرية وبريطانيا فرنسا. وقد فرضت مصالح روسيا الاستراتيجية عليها أن تطمح إلى التمدّدَ جنوباً نحو المياه الدافئة (البحر الأبيض المتوسط، والخليج)، وفي القرن 19 حاربت روسيا الدولتين الصَّفَوية والعثمانية، وكانت بعض حروبها تدور على تخوم كُردستان الشمالية والشرقية، وأحياناً داخلها، لأن كُردستان تفصل بينها وبين المياه الدافئة.وكانت الهند دُرّة إمبراطورية بريطانيا الاستعمارية، وكان يهمّ بريطانيا أن تسيطر على أجزاء من كُردستان، لتكون الطريق مفتوحة على الهند. وكانت فرنسا أيضاً حريصة على أن يكون لها مناطق نفوذ في شرق البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك كُردستان. وبعد خروج روسيا البلشفية من اتفاقية سايكس- پيكو سنة 1917، تقاسمت بريطانيا وفرنسا أجزاء كبرى من كُردستان (انظر الخريطة المرفقة).وقد يقال: بما أن كُردستان كانت مهمّة لفرنسا وبريطانيا، فلماذا لم تؤسّسا دولتين كُردستانيتين تحت وصايتيهما، كما فعلتا بالعراق وسوريا؟ نعتقد أن الأسباب هي التالية:

1 – فقدان المرجعيّة الكُردستانية: منذ سنة 550ق.م، افتقر الكُرد إلى مرجعيّة كُردستانية، تدافع عن مصالحهم في بورصة السياسات الإقليمية والدولية، في حين كانت الدولة العثمانية تمثّل التُّرك، والدولة الصَّفوية تمثّل الفُرس، وأسرع العرب والمُستعرِبون إلى تكوين مرجعية عربية بقيادة الشريف حسين سنة 1916.

وحينما تخسر الأمّة مرجعيتها السياسية (الدولة)، تَحلّ المرجعية الدينية محلّها، فاليهود والأرمن فقدوا مرجعيتهم السياسية أحياناً، لكن المرجعية الدينية أبقتْهم موحَّدين شعورياً وثقافياً، ونمّت وعيَهم الوطني، فأُعيد تأسيس دولة أرمينيا في أواخر القرن 19 بمساعدة روسيا، وأُعيد تأسيسُ دولة إسرائيل سنة 1948 بمساعدة بريطانيا. أمّا الكُرد ففُرضت عليهم المرجعيات الدينية للدول المحتلة (الزَّردشتية، والإسلام).

2 – صورة الكُرد في الذاكرة الأورپية: كانت صورة الكُرد في الذاكرة الأورپية مشوَّهة إلى حدّ كبير، فقد صُوِّروا على أنهم متخلّفون، هَمَج، متعصِّبون إسلامياً، قُطّاع طرق، لصوص. وهذه الصورة المشوَّهة هي نتاج بعض المصادر الإسلامية، وأقوالِ بعض زعماء الجيران المسيحيين للرحّالة والقناصل الأورپيين، ولا نستبعد أن يكون لدور الدولة الأيَّوبية في الحروب الصليبية أيضاً تأثيرٌ في تكوين هذه الصورة.

3 – القيادات الدينية للثورات: منذ ثورة 1806  بقيادة عبد الرحمن بابان في جنوب كُردستان، وحتّى إعلان جمهورية مَهاباد سنة 1946، كان معظم قادة الثورات الكُردية رجالَ دين، أو ذوي ميول إسلامية.

وما كانت القوى الأورپية ترتاح إلى هكذا قيادات، وكانت تعتقد أن دولة كُردية بقيادة إسلامية ستكون خطراً على الجيران المسيحيين، وفيما يلي بعض ما ذكره رُوبِرْت أُولْسُون Robert-Olsson في كتاب “تاريخ الكفاح القومي الكُردي” بشأن الموقف الأورپي من ثورات الكُرد:

• “القوى الأورپية كانت ما تزال غاضبةً على الشيخ عُبيد الله نَهْري بسبب أفعاله ضدّ المسيحيين النَّساطِرة، وضغطوا على الحكومة العثمانية لإرسال قوّات ضدّه، واعتُقل ونُفي إلى الحجاز”.

• “ما كانت لروسيا فائدةٌ في قيام دولة كُردية على تخوم القوقاز، وخاصّةً إذا كانت دولة تتأجّج بالتوجّه الديني بقيادة شيوخ الطريقة النَّقْشَبَندية”.

• كتبت غيرترود بيل Gertrude Bell مستشارة المندوب السامي البريطاني پيرسي كوكسPercy Cox في العراق منذ سنة 1914: “الكُرد على استعداد تامّ للتعاون مع أيّة جهة تؤمّن لهم ذبحَ النّصارى”.

ما العمل؟

يُقرأ التاريخ ليستفاد منه، والشرق الأوسط مُقْبِلٌ على تحوّلات كبرى، فالدول التي أنتجتها اتفاقية سايكس- پيكو ستتفكّك، ليس فقط بتأثير النظام العالمي الجديد، بل بتأثير يقظة الوعي القومي للشعوب المُستعمَرة أيضاً. وكي لا نخرج من هذه التحوّلات مرة أخرى بكُردستان محتلّة وممزّقة، علينا إنجاز ما يلي:

1 – تكوين مرجعية كُردستانية عليا، تصوغ المشروعَ الكُردستاني الإستراتيجي بما يتناسب مع كل جزء من كُردستان، وتمثّلُ الأمّة الكُردية إقليمياً ودولياً.

2 – توحيد اللهجات الكُردية في لغة وطنية واحدة، وبخطّ واحد، لتعميم الوعي الكُردستاني الأصيل، وتكوين الوعي الجمعي، وإعادة تأسيس الذاكرة الكُردستانية.

3 – مكافحة الصراعات الدينية والمذهبية في المجتمع الكُردي، خاصةً الفكر التكفيري بنوعيه السُّنّي والشيعي، وعدم الدخول في صراعات ضدّ الجيران المسيحيين.

4 – إعداد المجتمع الكُردي في الأجزاء الأربعة، سياسياً، وثقافياً، واقتصادياً، وأخلاقياً، لخوض معركة التحرير الكبرى، وإنهاءُ الانفلات والفوضى.

5 – الإفادة من التناقضات بين المشروع الفارسي، والمشروع العربي، والمشروع التركي، وقد يكون قادة المشروع العربي الخليجي أكثر استعداداً لقبول دولة كُردستان.

6 – تكوين لجان وهيئات ثقافية وقانونية وإعلامية، لمتابعة جرائم المحتلين في كُردستان، ووضعها أمام الرأي العامّ العالمي.

7 – الكُرد الآن في دائرة الضوء عالمياً، فينبغي كسبُ الرأي العامّ العالمي إلى جانب الحق الكُردي، وبناءُ علاقات استراتيجية مع القوى الكبرى.ومهما يكن فلا بد من تحرير كُردستان!

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد