موقع أمريكي: النفوذ الروسي الهائل في الشرق الأوسط لا يتعلق بالتعاملات الاقتصادية وحدها

شهدت السياسة الخارجية الروسية شهرا عظيما لها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث إنه خلال ذلك الشهر، توسطت روسيا في اتفاقية حول منطقة آمنة مع تركيا في شمال سوريا، واستقبل رئيسها فلاديمير بوتين باعتباره معروفًا كرجل دولة عالمي في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، كما استضافت اجتماعًا تاريخيًا للزعماء الأفارقة في “سوتشي”. وقد اكتسب التأثير العميق لهذه التطورات على التوازن الجيوسياسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا اهتمامًا كبيرًا داخل المجتمع التحليلي، لكن الأهمية الحقيقية لجهود استعراض القوة في روسيا قد تشوشت بسبب التركيز الكبير على العوامل التفاعلية، مثل الصفقات الاقتصادية وعقود الأسلحة.

إن تجميع هذه العوامل المتعلقة بالمعاملات والتفاعلات في تفسيرات اقتصادية، والتي يمتلئ بها الخطاب حول سياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يعكس إساءة استخدام المفهوم الأوسع للتعاملات الاقتصادية كأداة توضيحية. يمكن أن تكون نظريات الريعية مفيدة للغاية للاقتصاديين، لأنها تتيح تنبؤات فعالة حول التنمية الاقتصادية وتساعد في بناء نماذج نمو مستدامة، لكن يؤدي الاعتماد المفرط على التفسير الريعي إلى تنحية الموروثات التاريخية والروابط الفكرية التي تشكل السياسة الخارجية الروسية جانباً بشكل خاطئ، وتقدم شكلا مركزياً لدولة تعتمد على الشراكات الاقتصادية، بشكل يهمل العلاقات الاقتصادية بين الدول الفرعية والمؤسسات متعددة الأطراف.

في تحليل السياسة الخارجية الروسية تجاه الشرق الأوسط، يتجاهل المحللون الغربيون مفهوم “روسكي مير”، والذي يعتبر الشرق الأدنى منطقة ذات أهمية خاصة. ويؤثر موقف روسيا الأبوي تجاه الشرق الأدنى تأثيراً عميقاً على تعزيز القوة الناعمة لروسيا واختيار الشركاء في المنطقة، ويشبه هذا إلى حد كبير كيف يؤكد الكرملين على أهمية إقامة علاقات مع الأعراق الروسية في الخارج، حيث ترتبط الجالية المسلمة الروسية بروابط قوية مع المنظمات الإسلامية في الشرق الأوسط، ما يعزز العلاقات الدبلوماسية على مستوى الدول.

إن التعاريف المشتركة للإسلام السني التي تم التوصل إليها بين رئيس الشيشان رمضان قاديروف ومؤسسة طابا الإماراتية في مؤتمر غروزني في ديسمبر/كانون الأول 2016، والتي تسببت في استبعاد الوفدين للإخوان المسلمين والسلفية من مجتمعاتهم الإسلامية، قد عززت الشراكة بين موسكو وأبو ظبي. يوضح التآزر بين التعاريف الرسمية للتسامح مع الصوفيين في الشيشان والنظام العلماني في دولة الإمارات العربية المتحدة إمكانية إنشاء أسس لدبلوماسية ناجحة بين البلدين، ويتجلى هذا التأثير الدبلوماسي في العلاقة الشخصية الوثيقة بين ولي عهد أبوظبي الأمير محمد بن زايد و”قاديروف”، حيث سهلت هذه الشراكة جهود كل من روسيا والإمارات العربية المتحدة لنشر تفسيرات كل منهما للإسلام المعتدل.

كذلك، ساعد تطوير “علاقة أخوية” بين الشيشان والمملكة العربية السعودية، على إقامة علاقات عابرة للطائفية بين الروس والسعوديين، حتى عندما كانت “موسكو” و”الرياض” تتصادمان علنًا على سوريا. كما تعمل حملة التوعية في رابطة العالم الإسلامي بالمملكة العربية السعودية، والتي تستهدف مختلف المدن الروسية، على تعزيز الروابط الثقافية التي ترتكز عليها موسكو والرياض، وهذا يترجم إلى شراكة ثنائية أوسع.

كما يجب عدم تجاهل العوامل التاريخية والروابط الفكرية في دراسة تواصل روسيا مع إفريقيا. ونظرًا لمقاومة الاتحاد السوفيتي للاستعمار الأوروبي والانتقادات الحادة لأثار حقبة الحرب الباردة، مثل الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، تتمتع “موسكو” بمصداقية جوهرية كشريك ضد ما يعتبره العديد من القادة الأفارقة “بلاء الهيمنة الأمريكية”. إن الإشارات إلى روسيا كقوة معادية للإمبريالية من قبل الزعماء الأفارقة -مثل ذكريات الرئيس الأنغولي جواو لورينكو التي استدعاها في قمة البريكس لعام 2018 حول دعم موسكو لحركة التحرير الوطني لبلاده ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا- تؤكد الأهمية الدائمة لهذه الموروثات التاريخية.

كذلك، فإن رغبة الدول، مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا، في شراء الأسلحة الروسية والتعاون مع “موسكو” في تطوير أنظمة الأسلحة، على الرغم من خطر العقوبات الأمريكية الانتقامية، يسهلها روابط الثقة تلك. وتدل التدريبات العسكرية المشتركة، مثل التدريبات البحرية الروسية-الصينية-الجنوب إفريقية بالقرب من بلدة سيمون بمدينة بريتوريا في 21 أكتوبر، على وجود أسباب للتعاون الأمني ​​متعدد الأطراف بين روسيا والدول الإفريقية، والتي يتم تجاهلها بالكامل من خلال النظرية الريعية في تفسير تحركات روسيا في المنطقة.

وفي المجال الاقتصادي، يشجع الاعتماد المفرط لنظريات الريع على إحصاءات التجارة الرسمية على التحيز المتمركز حول الدولة والذي يفتقد إلى المؤشرات التنبؤية الحاسمة. وبالتالي، تضمن المفاهيم المتباينة للسيادة بين الدول الغربية وغيرها من المناطق، مثل روسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، أن يتم تجاهل النطاق الكامل للنشاط المالي. بشكل عام، يمكن دراسة الأسس الاقتصادية الحقيقية لظهور روسيا في الشرق الأوسط وإفريقيا من خلال تحليل المنطقة الرمادية والروابط التجارية غير الرسمية التي لا يمكن العثور عليها في مواد مفتوحة المصدر. على سبيل المثال، قبل بضع سنوات كان من الواضح أنه تم تحويل كمية كبيرة من رأس المال من شركة تابعة مقرها في أبو ظبي إلى روسيا لدفع ثمن أسلحة مصر، وتقدر حركة رأس المال المرتبطة بهذه المعاملات بمليارات الدولارات. كذلك، يتم تجاهل هذه التحويلات المالية في إحصاءات التجارة الرسمية بين روسيا والإمارات العربية المتحدة، وتعد قضية المنطقة الرمادية هذه مثالًا رئيسيًا على أوجه القصور في التحليلات القائمة على النظرية الريعية للتدفقات المالية والخارجة.

كذلك، فإن انخراط روسيا في منظمة “البريكس” هو بعد اقتصادي آخر لا تفسره نظريات الريعية بشكل كافٍ، حيث إن العلاقات المقامة من خلال البريكس تعطي فكرة خاطئة عن مكاسب العلاقات التفاعلية غير المنتظمة. وقد ساعد توسيع “البريكس” ليشمل جنوب إفريقيا في عام 2011 روسيا على توطيد شراكة مهمة في إفريقيا. وما يلفت النظر بشكل أكبر، هو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كشف النقاب عن فكرة إنشاء منتدى اقتصادي روسي إفريقي في قمة البريكس لعام 2018 في جوهانسبرغ، وبدأت الاستعدادات لعقد مؤتمر كل ثلاث سنوات في الأشهر التي تلت ذلك. وقد أدى اقتراح روسيا بأن تستثمر دول البريكس ما يصل إلى 10 مليارات دولار في بنك تنمية “بريكس” في عام 2013 إلى زيادة قوتها الناعمة في إفريقيا، حيث تم تأطير “موسكو” كداعم بناء للتنمية الاقتصادية في إفريقيا. في المستقبل، يمكن لبنك التنمية “بريكس” أن يساعد جهود روسيا لإبعاد الدول غير الغربية عن الاعتماد الحصري على الدولار الأمريكي، وهي مسألة تعد على أولوية على جدول أعمال يتمتع بجاذبية، خاصة بين الدول المعرضة للعقوبات الأمريكية.

ونظرًا لاحتضان القوى الإقليمية في الشرق الأوسط فكرة نظام عالمي متعدد الأقطاب، من أجل التحوط من عدم اليقين بشأن القيادة العالمية للولايات المتحدة، إضافة إلى الإيمان بضرورة تعميق شراكاتها مع دول البريكس، ستستفيد روسيا. إن دولة الإمارات العربية المتحدة، نظرًا لطموحاتها الجيوسياسية في إفريقيا وانفتاحها على الاستثمار العالمي، متحمسة بشكل خاص للتفاعل مع دول البريكس، لكن يبدو أن المملكة العربية السعودية تحذو حذوها بوتيرة أبطأ. كما تساعد التفاعلات الناجحة بين حلفاء الولايات المتحدة في العالم العربي ودول البريكس، مثل تعاون الإمارات مع الصين في مبادرة الحزام والطريق ورحلة الرئيس البرازيلي غايير بولسونارو إلى الخليج، في إعادة توجيه السياسات الخارجية لهذه البلدان نحو التجمعات غير الغربية، واستكمال مبادرات بناء الشراكات الإقليمية لروسيا.

وعندما ننظر إلى الديناميات الكلية لظهور روسيا في الشرق الأوسط وإفريقيا، فإن الإحصاءات التجارية ومبيعات الأسلحة لها قوة توضيحية محدودة، ولا تخبر الجزء الأكثر أهمية من القصة. وقد دفعت هذه الحقيقة الباحثين الذين يركزون على العناصر غير المتعلقة بالتفاعلات في السياسة الخارجية الروسية، إلى أن يكونوا أكثر فعالية في تفسير “شهر أكتوبر العظيم الذي شهدته موسكو”، من التفسيرات التي قدمها دعاة التفسير القائم على المصالح الاقتصادية، والذين تجاهلوا الروابط الثقافية والعلاقات الفرعية للدولة، والتي جعلت نجاحات “بوتين” الأخيرة ممكنة.

—-

*صموئيل راماني: باحث دكتوراه في قسم السياسة والعلاقات الدولية في كلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد، متخصص في السياسة الخارجية الروسية لما بعد عام 1991.

*الدكتور ثيودور كاراسيك: زميل كبير بمؤسسة شؤون روسيا والشرق الأوسط ومؤسسة “جيمس تاون” وكبير المستشارين في تحليلات سياسات الخليج.

*للاطلاع على النص الأصلي باللغة الإنجليزية.. اضغط هنا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد