هل تنجح لغة «القواعد العسكرية» التركية للسيطرة على سوريا؟

المركز الكردي للدراسات

ساهم سقوط نظام بشار الأسد في تعزيز التطلّعات التركية داخل سوريا، وسواء كانت صيغة التواجد العسكري قائمة على مبدأ «الديفاكتو» أو الاحتلال المباشر المقترن بذريعة حماية الأمن القومي، فإن تمكّن “هيئة تحرير الشام” من السيطرة على معظم المدن السورية التي كانت تحت سيطرة النظام المخلوع دفع بالحكومة التركية قدماً لإبرام عقود إعادة تشغيل بعض القواعد الجوية وتأهيلها أو إقامة قواعد عسكرية جديدة. واستحوذت مسألة القواعد على جزء مهم من المباحثات بين أنقرة ودمشق، كما استفادت تركيا من ضعف الحكومة المؤقتة ومن تنامي نفوذها داخل وزارة الدفاع عبر المليشيات الموالية لها المدمجة ككتل داخل الوزارة، وقربها الجغرافي وتواجدها الأسبق على سقوط الأسد واحتلاها لأجزاء من الشمال السوري، وأخيراً بروز حاجة حكومة أحمد الشرع إلى درع حماية خارجي كالذي أمّنه التواجد الروسي والإيراني لنظام بشار الأسد.

تبرز في الأثناء مسألة القواعد العسكرية التركية التي يُراد التأثير من خلالها في القرارين السياسي والاقتصادي السوري ورسم ملامح هيمنة تركية جديدة في المنطقة، إلّا أن هذه المسألة قد تصطدم بالمصالح الإقليمية لإسرائيل وبعض الدول العربية وقد تساهم في زعزعة النظام الإقليمي مجدداً، وهو ما يعني أن استبدال النفوذ الإيراني بالتركي قد يستصحب جولة جديدة من المواجهات الدبلوماسية والسياسية وربما العسكرية بين القوى المتنافسة على سوريا.

التصوّرات التركية للتعاون العسكري

رشح عن اللقاء الذي جمع الشرع بأردوغان مطلع شباط/فبراير الماضي جملة من التوقّعات حول التعاون العسكري المتوقّع بين البلدين، والذي تضمّن إنشاء قواعد جوية عسكرية إضافية في سوريا، وتأمين الوصول إلى المجال الجوي السوري، وتولي دور قيادي في تدريب الجيش السوري الجديد (1). ووفق مصادر عسكرية تركية نقلت عنها صحيفة حريت التركية، فإنه من المقرر توقيع اتفاقيات عسكرية ودفاعية بين أنقرة ودمشق “بهدف تعزيز التعاون الأمني”(2). عكست الزيارات الدورية للوفود العسكرية وأطقم جهاز المخابرات التركية لدمشق جدّية المسؤولين الأتراك ورغبتهم في تسريع عملية تولّي مهام تدريب الجيش وتأهيل المطارات العسكرية وحجز دور عسكري بالغ الأهمية في سوريا، فوفقاً لعدة تقارير، تخطط تركيا لإنشاء قواعد متعددة لخدمة سلاح الجو التركي، مستفيدةً من البنية التحتية للمطارات السورية في منطقة تدمر (مطار تدمر) ومطار (T4)، كما قامت تركيا بنقل قوات ومعدات عسكرية إلى مطار منّغ العسكري الواقع على بُعد حوالي 35 كيلومتراً شمال حلب، والذي يعمل حالياً بالتعاون التركي السوري، وقد قامت تركيا مؤخراً بتجديد وتوسيع القاعدة، وتركيب رادارات وأنظمة دفاع جوي ومعدات إضافية. ومن المحتمل أن يكون هذا النشاط في مطار منغ الخطوة الأولى نحو زيادة التدخل العسكري التركي المباشر على الأراضي السورية، وقد يشير إلى نوايا تركيا طويلة الأمد في المنطقة (3).

واقعياً لا تشمل عملية بناء القواعد العسكرية التركية المطارات والاهتمام بوسط سوريا فحسب، ذلك أن  الشمال السوري يشهد عمليات محمومة لإقامة قواعد بشكل شبه سرية ودون إحداث ضجّة إعلامية بعكس ما يتم الحديث عنه بخصوص المطارات العسكرية ونيتها في السيطرة على وسط سوريا ومنطقة البادية؛ فقد صرحت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بأن الجيش التركي يسعى لبناء قواعد جديدة في مناطق جنوب وشرق مدينة منبج، وفي محيط كوباني، وأن الجيش التركي ينقل ليلاً وبشكل سري آليات ومستلزمات عسكرية لبناء قواعد جديدة في تلة قره قوزاق، وكذلك على الضفة الغربية لنهر الفرات وقرية حسن آغا جنوب شرق مدينة منبج (4). وكل ذلك في ظل صمت حكومة دمشق عما يجري في الشمال. ويستشف من ذلك أيضاً أن نهج بناء القواعد العسكرية يمضي في اتجاهين: بحكم الأمر الواقع كما في الشمال السوري الذي تقول قسد أنها بلغت عشرات القواعد والمواقع العسكرية، أو عبر الاتفاقيات الثنائية وعقود التشغيل وإعادة التأهيل والتدريب وسواها من عقود ذات طابع تقني.

رامشتاين السورية: البادية محطّ أنظار أنقرة

يبدو أن جهود الأتراك منصبّة على البادية السورية بشكل أساسي، لأسباب تتجاوز المنحى العسكري إلى الغايات الاقتصادية المرتبطة بالسيطرة على خطوط الطاقة والأنابيب الواصلة وبسط النفوذ المباشر على قطاعات النفط والغاز السورية في المستقبل.

قال مسؤول استخباراتي إقليمي ومسؤول أمني سوري ومصدر أمني أجنبي مقيم في دمشق إن المناقشات بين المسؤولين الأتراك والسوريين ستشمل إنشاء قاعدتين عسكريتين تركيتين في منطقة البادية السورية المعروفة ببادية الشام، الواقعة في وسط سوريا (5). في الوقت الذي قالت وسائل إعلام تركية  نقلاً عن رويترز أن  الحكومة السورية المؤقتة قاعدة عسكرية سيادية في تدمر لتركيا، وأن القاعدة ستكون بحجم قاعدة رامشتاين الأمريكية في ألمانيا. وأبلغت أنقرة كافة القوى الكبرى، بما في ذلك الأمم المتحدة، وأعلنت أن أي هجوم عليها سيقابل بالقوة (6).

تنطوي الغاية الأساسية من إقامة القواعد وسط سوريا، إلى جوار التحكم بالمشهد العسكري في سوريا، التحكم بخطوط الطاقة فبحسب تصريح وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار قد يؤدي التعاون طويل الأمد إلى إنشاء خطوط أنابيب جديدة للنفط والغاز تربط سوريا بمحطات التصدير التركية (7).  كما أعرب الوزير عن تفاؤله بأن سقوط الأسد سيُنعش مشروع خط الأنابيب المُجمّد منذ فترة طويلة، والذي يربط تركيا وقطر عبر السعودية والأردن وسوريا. وقد سعت تركيا إلى تنفيذ المشروع لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي وتعزيز طموحاتها في أن تصبح مركزًا للطاقة، لكن الأسد رفضه بسبب المعارضة الروسية.

أبعد من ذلك تسعى أنقرة من خلال التلويح بورقة الطاقة إلى استمالة الأوروبيين، كما أن المسعى التركي في الوصول الآمن للنفط والغاز العربيين عبر سوريا يحقق لها مسألتين فهو يجعل منها مركزاً للطاقة ومن ناحية أخرى يقلل من اعتمادها على الغاز الروسي (8)، وهنا تبرز أهمية القواعد العسكرية في البادية السورية ووسط سوريا بوصفها نقطة الوصل في أي مشروع يخص خطوط الطاقة، فضلاً عن وجود قاعدة عسكرية في تدمر يؤثّر مباشرة على عملية استخراج النفط في المنطقة الأقرب لاسيما في دير الزور، ما يعني أن تركيا تسعى لأن تكون مشرفاً على هذا القطاع برمّته.

صدام المصالح التركية الإسرائيلية

أدخل سقوط نظام الأسد السريع المنطقة في جوّ من عدم اليقين، خاصّة أنه أسفر عن وصول إدارة جديدة للبلاد لا يمكن التحقق من تخليها عن عوالق ماضيها الجهادي، إلّا أن الفُرص الدولية الممنوحة لإدارة الشرع تعني إمكانية أن يصبح النظام الجديد قابلاً للحياة شريطة الالتزام الحذر بالسياسات الإقليمية والدولية المناسبة، ومن بين ذلك تبرز مسألة إدارة حكومة الشرع لتناقض المصالح الإسرائيلية التركية في سوريا، فإن كانت تركيا حليفاً موثوقاً لإسرائيل وتربطها علاقات تجارية وعسكرية ممتازة، فإن أداء الحكومة التركية بعد أحداث 7 أكتوبر يشير إلى اضطراب في ميزان العلاقة بين البلدين وإلى دخول عامل التنافس على الحضور الإقليمي بينهما، ففي حين تنشد تل أبيب إقامة نظام إقليمي جديد يرث النفوذ الإيراني، تسعى أنقرة إلى تثبيت حضورها في قلب المشهد الإقليمي، ويزيد من حظوظها وصول دونالد ترامب للحكم والكيمياء الخاصة بين الرئيسين التركي والأميركي وما قد يسفر عنه من أضواء خضراء جديدة لتركيا على غرار ما حصل خلال إدارة ترامب الأولى حين توسّع النفوذ العسكري التركي في العراق وسوريا وليبيا وانتعشت عقيدة “الوطن الأزرق”، ولعل تنامي نفوذ الأتراك في سوريا قرين بنظرة ترامب الشخصية لمستقبل سوريا، إضافةً إلى طبيعة إدارة الشرع التي تميل إلى الاحتماء بالمظلّة العسكرية التركية والحاجة إلى رعاية إقليمية في ظل الأزمات الداخلية التي تعيشها وليس آخرها ضعف “المؤسسة العسكرية” المغمورة التي يحتاج إعادة بنائها إلى دعم خارجي يحوّلها من الحالة الفصائلية الراهنة إلى شيء أشبه بالجيوش النظاميّة.

مبكراً احتاطت تل أبيب لما أسمته “الخطر التركي” فبحسب تقرير لجنة يعقوب ناجل فإنه يجب على إسرائيل الاستعداد لمواجهة مباشرة مع تركيا، وحذرت من أن طموحات تركيا لاستعادة نفوذها العثماني قد تؤدي إلى تصاعد التوترات مع إسرائيل، وربما تتصاعد إلى صراع (9).  وتُحذّر تقييمات استخباراتية إسرائيلية، كُشفت جزئيًا في فبراير/شباط 2025، من أن تركيا قد تستغل نفوذها لتسليح وكلائها المعادين لإسرائيل. وصرح مسؤول دفاعي إسرائيلي لصحيفة تايمز أوف إسرائيل، ، قائلًا : “رؤية أنقرة لسوريا لا تتوافق مع احتياجاتنا الأمنية، إنها وصفة لعدم الاستقرار” (10). وكجزء من خطّة التأمين احتلت إسرائيل الجزء السوري من جبل الشيخ ووسعت من نطاق احتلالها في محافظتي القنيطرة ودرعا، إضافة إلى قصف المقدّرات العسكرية للجيش السوري في مناطق مختلفة من البلاد، بما في ذلك قصف الجيش الإسرائيلي لمواقع عسكرية في البادية السورية، تحديداً في منطقة تدمر، والتي قد تكون إشارة إلى رفض تل أبيب لأي إجراء عسكري يهدف إلى السيطرة على وسط سوريا مستقبلاً.

وإلى جوار العمل المنفرد داخل سوريا، فإن تل أبيب تتحوّط لما هو أسوأ وفق تقديرها، خاصة فيما خصّ الشريط الساحلي السوري، وإمكانية أن يمتدّ النفوذ التركي إليها، ولأجل ذلك فقد تواصل مسؤولون إسرائيليون مع نظرائهم الأميركيين في واشنطن وممثلين عن الكونغرس الأميركي في إسرائيل، للدعوة إلى سياسة تحافظ على المنشأة البحرية الروسية في طرطوس والقاعدة الجوية في حميميم لمنع تركيا من تعزيز السيطرة على سوريا ما بعد الأسد. وكان السيناتور ليندسي غراهام قد صرح، خلال جلسة استماع في مارس/آذار الماضي قائلاً: “إذا كانت القواعد الروسية تُبقي تركيا تحت السيطرة، فهذه مقايضة تستحق الدراسة” (11). ويبدو أن تأييد أصوات في واشنطن للمعادلة الإسرائيلية القائمة على استعادة الدور الروسي في الساحل السوري تقوم على فكرتين: الحؤول دون إحداث اضطراب داخل مؤسسة الناتو إذا ما انخرطت تركيا في أنشطة تقلق إسرائيل وبالتالي تحويل روسيا إلى طرف ثالث يمكنه معادلة الجموح التركي، ومن ناحية أخرى التخفيف من مشاعر القلق في تل أبيب واحتمال مواصلتها للضغوط على واشنطن بالشكل الذي يحرج الإدارة الأميركية غير الراغبة في التضييق على الحكومة التركية.

محصّلة محتملة

قد لا يكون في وسع أنقرة الاستفادة من العوامل الداخلية السورية المهيئة للسيطرة على المشهد السوري عبر بوابة التعاون العسكري لاعتبارات تخص الرفض الإسرائيلي لمثل هكذا سيناريو واحتمال عودة روسيا إلى شواطئ المتوسط محمولة على أكتاف التفاهم مع واشنطن وتل أبيب. كذلك لا يمكن للتمدّد العسكري التركي وإقامة القواعد أن يريح الأطراف العربية الساعية إلى عدم استبدال إيران بتركيا، وهنا يكون الحديث عن السعودية أكثر وضوحاً بوصفها أحد رعاة نظام ما بعد الأسد، ويضاف إلى ذلك قلق دول الجوار العربية من غلبة تركية تؤدي إلى التدخل في شؤونها الداخلية في وقت لاحق.

قد تتراجع أنقرة عن الكثير من طموحاتها في سوريا بفعل عوامل إقليمية ودولية بالغة التعقيد، وإن أرادت إقناع أوروبا وبعض الدول العربية بقدرتها على تأمين والإشراف على خطوط الطاقة عبر موانئها أو الموانئ السورية، ولأجل ذلك كله، قد تبدأ الحسابات الجدّية التركية بعيداً عن الدعاية الحكومية خاصة وأن الحكومة تمرّ بأوضاع داخلية عاصفة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد