فرنسا أمام مشهد سياسي جديد

المركز الكردي للدراسات

حلّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجمعية الوطنية (مجلس النواب) ودعا إلى إجراء انتخابات تشريعية في 30 يونيو/حزيران الجاري والسابع من يوليو/تموز المقبل بعد دقائق قليلة من حصد ما يصطلح على تسميته «اليمين الشعبوي» أغلبية المقاعد المخصصة لفرنسا في الانتخابات الأوروبية، محدثاً بذلك زلزالاً سياسياً لم تشهده البلاد منذ أكثر من عقدين من الزمن. ونال حزب التجمع الوطني بقيادة جوردان بارديلا، 28 عاماً، 31.5 في المئة من الأصوات، فيما لم تحصل فاليري هاير، التي ترأست قائمة المترشحين بإسم حزب النهضة الرئاسي، سوى على 15.2 في المئة، وهو مستوى منخفض تاريخياً بالنسبة إلى الحزب الحاكم. وبذلك، سيكون لحزب التجمع الوطني نحو 29 مقعداً في البرلمان الأوروبي، أي أنه سيمتلك أكبر عدد من النواب في البرلمان بإسم فرنسا. وبالمجمل، فاز اليمين الفرنسي، بجناحيه التقليدي والشعبوي، بنسبة تتجاوز 45 في المئة من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوروبي، بينما لم تحز الأحزاب التي تقف على الضفة الأخرى إلا على 30 في المئة. ولعل ميل الناخب الفرنسي لليمين ليس وليد الأعوام القليلة الماضية، جراء الأزمات المعيشية وملف اللاجئين والأصولية الإسلامية في الداخل كما تشير بعض التقديرات، بل بدأ قبل قرابة 25 عاماً، ومن ثم اتجه أكثر نحو كسر الثنائية الاشتراكية- الديغولية التقليدية لصالح طريق ثالث يمثله اليمين الشعبوي. فباستثناء ولاية رئاسية يتيمة بين 2012 و2017 لفرانسوا هولاند، لم تنتخب فرنسا رئيساً اشتراكياً منذ انتهاء ولاية فرانسوا ميتران عام 1995. ففي انتخابات 2002، حدث الزلزال السياسي الأول، إن صح التعبير، حينما هزم مرشح حزب الجبهة الوطنية، المحسوب على اليمين الشعبوي، جان ماري لوبان مرشح الحزب الاشتراكي السياسي المخضرم ليونيل جوسبان في الدورة الأولى بفارق يقارب مائتي ألف صوت ليواجه الرئيس المنتهية ولايته جاك شيراك في الدورة الثانية ويحصل على 17 في المئة بعدما دعا جوسبان وجميع السياسيين إلى الوقوف خلف شيراك باعتباره «أهون الشرين».

وجان ماري لوبان ليس إلا والد زعيمة الحزب الحالية مارين لوبان، والتي غيّرت اسمه إلى التجمع الوطني بدلاً من الجبهة الوطنية في 2018 وسعت إلى التخلي عن الإرث المثير للجدل لوالدها المؤسس للجبهة، كما ضبطت الحزب بشكلٍ أكبر وفصلت ممن ثبتت بحقهم معاداة السامية. ويمكن ملاحظة الصعود الصاروخي في شعبية مارين لوبان من خلال نتائج مشاركاتها في الانتخابات الرئاسية. ففي 2012، حصلت على 17.90 في المئة. وفي سباق 2017، نالت 33.90، أي نحو ضعف الأصوات. أما في انتخابات 2022، فحصدت 41.45 في المئة، في حين يتوقع أن تكون منافسة رئيسية في انتخابات 2027 التي ستنظم في أبريل/نيسان من ذلك العام. ويشير استطلاع للرأي أجري بين 11 و12 يونيو/حزيران الجاري إلى أن حزب التجمع الوطني سيحصل في انتخابات آخر الشهر على ما بين 220 و270 مقعداً، علماً أن الأغلبية في البرلمان الفرنسي هي 289 مقعداً من إجمالي 577. أما حزب ماكرون، «النهضة»، فلن ينل سوى ما بين 90 و130 مقعداً، في حين سيحصد تحالف اليسار ما بين 150 و190 مقعداً، والجمهوريون (التيار الديغولي) ما بين 30 و40 مقعداً، فيما ستتوزع بقية المقاعد على القوى السياسية الأخرى. ويشي الاستطلاع بتحول «التجمع الوطني» من حزب معارض صغير إلى حزب محوري في المشهد السياسي، في ظل التوقعات بأن يصبح بارديلا رئيس الوزراء المقبل أو يكون شريكاً أساسياً له دور مركزي في اتخاذ القرارات. ويبدو جلياً أن «التجمع الوطني» يوسّع قاعدته الشعبية من يمين الوسط واليمين التقليدي، إلى درجة أن رئيس حزب الجمهوريين إيريك سيوتي أعلن عزمه الانضمام لتحالف مع التجمع، ما يعني إمكانية تشكيل ائتلاف حكومي يضم التجمع والجمهوريين يكون بمثابة خط ثالث في مواجهة الماكرونية واليساريين. وعلى الرغم مما أحدثته دعوة سيوتي من ضجة وانقسام داخل الحزب، مع معارضة 40 من أصل 61 نائباً جمهورياً خطة التحالف، قد يصب الانقسام نفسه في مصلحة التجمع وزيادة عدد نوابه في البرلمان على حساب أصوات اليمين التقليدي.

وعليه، يبدو أن فرنسا قد تلبس وجهاً جديداً بعد الانتخابات سيتّبع سياسات داخلية وخارجية تختلف عن تلك التي درجت عليها في العقود السابقة، خاصةً في ظل قرب «التجمع الوطني» من روسيا وعلاقاته المتشعّبة مع الكرملين. فمارين لوبان هي نفسها من صرحت خلال مقابة مع صحيفة «كوميرسانت» الروسية عام 2011 أنها «معجبة إلى حد ما» بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما تغيّب نواب حزبها عن حضور خطاب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أمام البرلمان الفرنسي قبل نحو أسبوعين. وليس سراً أن علاقة لوبان بتركيا لا تتسم بالود، إذ أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وصف هزيمتها في انتخابات 2022 بأنها «انتصار، لأن كل ما نعانيه هو بسبب التطرف»، على حد وصفه. أما ماكرون، فمن المحتمل أنه يخوض مواجهته السياسية الأخيرة على مبدأ خيار شمشون، إذ أنه يريد «معاقبة» الناخب الفرنسي على اختياره «التجمع الوطني» ويضعه أمام خيار «أنا أو اليمين الشعبوي»، ويعجّل في نفس الوقت المواجهة مع التجمع ويقدّم له رئاسة الحكومة في الأعوام الثلاثة المقبلة قبل انتخابات الرئاسة، ليصل التجمع إلى تلك الانتخابات مرهقاً من عثرات الحكم المحتملة، وفاقداً بالتالي بعض الشعبية والمصداقية، بالنظر إلى أنه لم يسبق للحزب أن وصل إلى السلطة سابقاً.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد