لازكين يعقوب*
هاجر عدد كبير الإيزيديين من موطنهم منذ حملة الإبادة الجماعية التي شنها تنظيم داعش في العراق وسوريا ضد معقل الإيزيدين في جبل شنكال في أغسطس/آب 2014. نتيجة لذلك، اختار الكثيرون الهجرة إلى دول مثل ألمانيا والسويد والمملكة المتحدة وأستراليا وكندا وأمريكا.
وتشير تقارير إلى أن 80 مهاجراً إيزيدياً كانوا في طريقهم إلى أوروبا، علقوا لعدة أيام في جزيرة في نهر ماريتزا (بين تركيا واليونان)، وتم إنقاذهم من قبل السلطات اليونانية بعد إرسال نداءات استغاثةٍ متكررة تم بثها على وسائل التواصل الاجتماعي.
ويبدو أن الفقر وعدم الاستقرار والبطالة قد تكون وراء المعدلات المروعة لهجرة الشباب والأسر الإيزيديين من موطنهم الأصلي. إلا أن هجرة الإيزيديين أعمق بكثير مما تبدو عليه.
على سبيل المثال، حطم تنظيم داعش المجتمع الإيزيدي بالمعنى الحقيقي للكلمة عام 2014، إذ تعيش الغالبية العظمى من الإيزيديين في ظروف مزرية في مخيمات منتشرة في أنحاء إقليم كردستان العراق. وتهدد موجات الهجرة المتزايدة مستقبل الإيزيديين كواحد من أقدم شعوب بلاد ما بين النهرين. وما يثير القلق أكثر، هو أن المهاجرين يبيعون ممتلكاتهم لتأمين تكاليف الهجرة، وبالتالي يغيرون التركيبة السكانية والعرقية والدينية للوطن القديم للإيزيديين.
الإيزيديون والعثمانيون والأقاليم
الإيزيدييون أقلية عرقية دينية كردية مرتبطون بشدة بالأرض التاريخية التي عاشوا عليها منذ آلاف السنين. ترسخت محنة الإيزيديين في منطقة جغرافية هشة حددتها القوى الاستعمارية واتسمت بالاضطهاد والقمع والتشريد.
وفي خرقٍ صارخ لطبيعة الأراضي الممتدة بين سوريا والعراق، يطرح معقل الإيزيديين في جبل شنكال أسئلة مثيرة للاهتمام تتعلق بتكوينه الجيولوجي والسكان الذين جاءوا إليه في البداية. واليوم مع موجات الهجرة الأخيرة، فإن الأراضي الإيزيدية تواجه تحديات كثيرة.
يحتل جبل شنكال، المعزول جغرافياً، موقعاً شاسعاً عند التقاء الحدود التركية السورية العراقية التي تغطي منطقة تمتد حتى دير الزور جنوباً، هذه الأهمية الاستراتيجية ذات شقين. من ناحية، كان الجبل دائماً بمثابة ملجأ، ووفر الحماية في أوقات النزاعات للإيزيديين. ومن ناحية أخرى، كان دائماً منطقة متنازع عليها.
إن وعورة جبل شنكال وقربه من الحدود التركية والاتصال الجغرافي المباشر مع تلعفر ذات الأغلبية التركمانية وموقعه داخل المناطق المتنازع عليها بين إقليم كردستان العراق والحكومة المركزية العراقية وعزلته، جعلته هدفاً للقوى الإقليمية والعالمية.
وبالعودة إلى التاريخ، صدر قانون الولاية العثماني عام 1864 كجزءٍ من عملية الإصلاح التي بدأها السلطان عبد العزيز منذ ما يقرب من عقد من الزمان (بين 1869-1879)، فأُدرجت منطقة شنكال ضمن حدود معطيات ديرالزور المُنشأة حديثاً، والتي كانت متصرفية آنذاك بشكلٍ مستقل ومباشر عن إسطنبول.
في عام 1879، عندما تشكلت الموصل كولاية مستقلة، أعيد إلحاق شنكال بالموصل وظلت إحدى اقضيتها حتى الاحتلال البريطاني للجبل عام 1919. وعلى الرغم من أن الإيزيديين (مثل الدروز والعلويين في سوريا) يتمتعون بنوعٍ من الحكم الذاتي ضمن الإمبراطورية، أمكن للجيوش العثمانية أحياناً أن تغير على جبل الإيزيديين لإخضاع سكانه.
في هذا السياق، شهدت حملة حافظ باشا عام 1837 وحملة عمر وهبي باشا عام 1899 أعمالاً وحشية ضد الإيزيديين في الجبل. ومع أن وهبي أخضع وحوّل مرقد الشيخ عدي إلى مدرسة قرآنية، إلا أنه فشل في التوغل بشكلٍ أعمق في شنكال. وخلال أربعة أعوام من الحرب العالمية الأولى، نجت شنكال من الأعمال العدائية، حيث كانت المنطقة بمثابة الحرس الخلفي للقوات العثمانية في بلاد ما بين النهرين.
في رسالة مؤرخة في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، أرسلها الزعيم الديني الإيزيدي حمو شرو، رئيس طبقة (الفقيرا) الدينية المرموقة، إلى السير أرنولد ويلسون، كبير المسؤولين السياسيين في بغداد، أعرب شرو عن استعداده للتعاون مع القوات البريطانية في العراق. لذا، سمحت المادة السابعة الغامضة من هدنة مودروس لبريطانيا العظمى باحتلال شنكال باعتبارها واحدة من النقاط الاستراتيجية خارج خطوط الهدنة.
وبموجب مرسوم بريطاني صدر في أغسطس/أب 1920، تم تشكيل سنجار كقضاء مستقل يتكون من منطقتين فرعيتين: شنكال وناحية الشمال ، جنوب الجبل، وشمال ناهيا التي يقع مقرها الرئيسي في قرية كه رسي شمال غرب الجبل.
في أكتوبر/تشرين الأول 1920، وقعت بريطانيا وفرنسا اتفاقية لترسيم الحدود بين سوريا والعراق في احترام لاتفاقية سايكس بيكو لعام 1916، وتخلي فرنسا عن الموصل لبريطانيا قبل عام.
استمر ترسيم الحدود عشوائياً حتى أواخر عشرينيات القرن الماضي. كان الوضع المعلق للموصل والاستغلال المحتمل للنفط القوة الدافعة في عملية الترسيم المتأخرة بين السلطات.
طوال أعوام 1920 و 1921 و 1922، هددت القوات التركية بقيادة الشيخ أحمد شريف السنوسي من برقة الليبية باقتحام شنكال. بعد أن حارب الفرنسيين في تشاد والإيطاليين في ليبيا والبريطانيين في مصر، جذب السنوسي المسلمين من خلفياتٍ مختلفة من أجل قضيته. في عام 1922، تم إرساله في مهمة سرية إلى الموصل لحشد الدعم. ومع ذلك، فإن قرار عصبة الأمم بنقل الموصل إلى العراق في 16 ديسمبر/كانون الأول 1925، بدد آمال الأتراك في شنكال.
قامت الحكومة البريطانية بمراجعة الحدود على النحو المحدد في الاتفاقية. لم يقم الفرنسيون بأي احتجاج، فيما نوقش انضمام شنكال إلى العراق وتم الانتهاء منه على عجل في نفس الجلسة التي قُبل فيها العراق في عصبة الأمم. في تلك الأثناء، كانت مسألة النفط تزداد أهمية. تم منح الفرنسيين (والسوريين) إمكانية الوصول إلى نهر دجلة من خلال دفع الحدود السورية شرقاً إلى قرية خانيك. والأهم من ذلك، تم سد طريق الأتراك إلى شنكال، حيث اعتقد الفرنسيون أن غرب شنكال، باعتباره امتداداً جيولوجياً لجبل شنكال، مليء بالموارد النفطية.
العراق كمنتج بريطاني
في لعبة الجغرافيا السياسية والإمبراطوريات، تم دمج جبل شنكال في العراق بشكلٍ أساسي كجزء من التبادل الإقليمي. بالمقابل، تم إدراج أبو كمال وحوض الخابور بأكمله وجبل قره جوخ في سوريا.
تم ترسيم الحدود لصالح الإيزيديين، إذ أُجبر العديد منهم ممن بقوا على الجانب السوري من الحدود على الهجرة إلى الجانب العراقي. قبل الترسيم النهائي للحدود، كان ايزيديو شنكال يبيعون بضائعهم ومنتجاتهم في بلدة الحسكة آنذاك، التي كان سوقها يعتمد إلى حد كبير على المنتجات والمواد من الإيزيديين. وبالمثل، وصلت هجرات الإيزيديين إلى تل براك، الخاتونية، والهول في شرق الحسكة وحتى جبل عبد العزيز (كزوان) في الغرب.
في أكتوبر/تشرين الأول 1935، بعد عامين من إنهاء الانتداب البريطاني على العراق، مارس الجيش العراقي وحشيةً على الإيزيديين الذين رفضوا فرض قانون التجنيد الإجباري، وقُتل ما يقرب من 200 من الإيزيديين وتم تدمير 11 قرية ووضعت شنكال تحت الأحكام العرفية. ليس هذا فحسب، بل تم نقل الأسرى إلى الموصل حيث تم عرضهم علناً وإهانتهم. في عام 1939، وضعت شنكال وشيخان تحت السيطرة العسكرية المستمرة.
عندما أطلق نظام صدام حسين حملة التعريب القاسية ضد الكرد في السبعينيات، تم استهداف أكثر من 150 قرية إيزيدية عند سفوح الجبل. نُقل القرويون الإيزيديون قسراً إلى أحد عشر مجمعاً سكنياً أقيمت خصيصاً لهذه الغاية. والأسوأ من ذلك، لم يتم إصدار سندات ملكية لشاغلي تلك المجمعات الإيزيديين.
ومن المفارقات أن خلع صدام حسين عام 2003 كان في مصلحة كارهي الإيزيديين. في عام 2007، قُتل ما يقرب من 800 إيزيدي في تفجيرين متزامنين في قريتي تل عزير وسيبا شيخ خضر في شنكال، وأصيب ما يقرب من 1500 آخرين. كذلك، قُتل حوالي 23 عاملاً إيزيدياً على يد جماعة مسلحة إسلامية سنية حينها. قيل أن سبب المذبحة يعود إلى رجم دعاء خليل أسود، وهي فتاة إيزيدية يُزعم أنها هربت مع شاب عربي سني، حتى الموت. لكن الإيزيديين ينكرون ذلك.
تنظيم داعش وما بعده
في هجومٍ يحاكي هولاكو، ومع الفوضى التي اجتاحت سوريا والعراق، دخل تنظيم داعش شنكال في الساعات الأولى من يوم 3 أغسطس/آب 2014. خلال الأيام الأولى من الحملة، قُتل حوالى 1،293 شخصاً على الفور وخطف أكثر من 6417 شخصاً معظمهم من الشباب والفتيات والنساء.
فر الآلاف من منازلهم بحثاً عن مأوى في جبل شنكال ثم في إقليم كردستان العراق وروجآفا بفضل الممر الإنساني الذي أمنّه حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب. شكّل الذين بقوا وحداتهم الخاصة المعروفة باسم وحدات مقاومة شنكال (YBŞ) التي اكتسبت موطئ قدم في شنكال للدفاع عن سكانها المحليين. في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، حررت القوات الكردية سنجار من قبضة التنظيم، فيما أدت الأعمال العدائية إلى إلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية في شنكال.
وبالمثل، في سبتمبر/أيلول 2017، أعلن رئيس الوزراء العراقي آنذاك حيدر العبادي أن العراق خالٍ من تنظيم داعش، لكن عملية إعادة التأهيل كانت بطيئة للغاية.
ومن ثم، تم ترتيب عودة النازحين الإيزيديين إلى ديارهم في يناير/كانون الثاني 2020. وبحسب بيانات وكالة الهجرة التابعة للأمم المتحدة، عاد حوالى 38 ألف إيزيدي بين يونيو/حزيران وديسمبر/كانون الأول 2020. تضاءل هذا الرقم بشكلٍ كبير إلى خمسة آلاف بين فبراير/شباط 2021 وديسمبر/كانون الأول 2022.
في 22 يناير/كانون الثاني 2021، حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عقب صلاة الجمعة في حي أوسكودار في اسطنبول من احتمال قيام بلاده والعراق بعمليةٍ برية مشتركة في شنكال.
لجأت تركيا بدلاً من ذلك إلى استخدام تكنولوجيا الطائرات من دون طيار لتجنب الخسائر. في صيف عام 2021، اشتد القصف الجوي التركي (إلى حد كبيرٍ بضربات الطائرات من دون طيار) على شنكال، حيث أدت الضربات الجوية إلى تجميد إمكانية أن يعيش السكان حياة آمنة.
جاء الاختراق في نهاية ذلك العام، عندما قُتل القائد العسكري لوحدات مقاومة سنجار مروان بدل في غارة بطائرةٍ من دون طيار في خان سور في 7 ديسمبر/كانون الأول 2021. فالطائرات التركية من دون طيار لا تميز بين المدنيين والعسكريين وغالباً ما تقصف عشوائيا.
وعليه، في 15 يونيو/أيار 2022، قُتل طفل يبلغ من العمر 12 عاماً في غارة جوية بطائرة من دون طيار، كما أصيب أربعة من أعضاء وحدات مقاومة سنجار. في منتصف شهر مايو/أيار، قُتل ثلاثة من أعضاء وحدات مقاومة سنجار في خان سور بعمليةٍ مشابهة. أصبحت ضربات الطائرات من دون طيار في شنكال حدثاً مستمراً، حيث تبدو وحدات مقاومة سنجار الهدف المتكرر بسبب صلاتها المزعومة بحزب العمال الكردستاني.
سبب كل ذلك اليأس لدى الإيزيديين الذين فقدوا الأمل في أن يعيشوا حياة آمنة وسلمية في وطن أجدادهم. واليوم بعد تسعة أعوام من الإبادة الجماعية، لا يزال العديد من القرى اليزيدية المدمرة مهجورة.
مع ممارسته الاستعباد الجنسي الممنهج للفتيات والنساء الإيزيديات، دمّر تنظيم داعش المجتمع الإيزيدي، فيما لا يزال الإيزيديون يكافحون لطي صفحة الاضطهاد الذين تعرضوا إليه.
يتعين على المجتمع الدولي الوفاء بتعهداته بتقديم تعويضاتٍ إلى الضحايا ومحاسبة الجناة على الجرائم السافرة التي ارتكبوها والتي تم الاعتراف بها مؤخراً على أنها إبادة جماعية. يبقى على شنكال أن تتعافى من الدمار الذي سببته الإبادة الجماعية، اجتماعياً وعاطفياً واقتصادياً ولجهة البنية التحتية أيضاً.
مؤخراً، في 3 يونيو/حزيران، تم إنقاذ ست فتيات إيزيديات بعد ثمانية أعوام من اختطافهن. ومع ذلك، لا يزال ما يقرب من 2700 شخص (معظمهم من الإناث) في عداد المفقودين، وهو مؤشرٌ على أن المذبحة ما زالت مستمرة.
-كاتب وباحث كردي مهتم بتاريخ مزوبوتاميا وخاصة الشأنين الكردي والايزيدي في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى وبعدها.