المركز الكردي للدراسات
لطالما اعتُبرت جزر المحيط الهادىء حليفةً للولايات المتحدة وساحةً خلفية لاستراليا ونيوزيلاندا. لكن في الأعوام الأخيرة، بدأت الصين في التقارب مع تلك الدول في إطار الصراع الغربي-الصيني الذي تتسع ساحاته وتتنوع أشكاله. وتتشكل هذه الدول من: فيجي، كيرباتي، جزر مارشال، جزر سليمان، ميكرونيزيا، ناورو، تونغا، بالاو، بابوا نيو غينيا، ساموا، توفالو، وفاناواتو. وأغلب هذه الدول عبارة عن جزر مجهرية متناثرة في المحيط الهادىء، لكن لها مواقع استراتيجية تثير اهتمام بكين في سعيها التنافس مع واشنطن وامتلاك أوراق ضغط توازي ورقة الضغط الأميركية في ما يخص ملف تايوان، حليفة الولايات المتحدة، وإلى حد ما كوريا الشمالية.
ففي فيجي، التي لا تبعد عن استراليا العضو في تجمع «كواد» الأمني أكثر من أربع ساعات بالطائرة، طفى على السطح نزاعٌ تايواني-صيني انتهى إلى انتصارٍ صيني كما تؤشر المعطيات. فعلى الرغم من محاولات تايبيه المتكررة ضخ المساعدات إلى الجزيرة لجرها إلى صفها، إلا أن سياسة الصين جمعت بين الدعم الاقتصادي والسياسي، والأخير تفتقده تايوان لأنها ليست عضواً في معظم المنظمات الدولية. ووقفت بكين مراراً مع فيجي في المحافل الدولية ضد انتقاد سجلها في حقوق الإنسان، لترد فيجي التحية بأحسن منها في 2017 وتغلق مكتب التجارة والسياحة التابع لها في تايبيه. وأحد أوجه اهتمام الصين بفيجي كذلك، وجود أقلية هندية كبيرة تشكل نحو 37 في المئة من عدد السكان وتشكو التهميش، في وقتٍ لا يخفى الخلاف الهندي-الصيني الذي لا يقل أهمية عن ذلك الذي مع الغرب. وتنشط العديد من الشركات الصينية في مشاريع بنى تحتية في فيجي تؤمن فرص عمل لسكانها. لكن مطلع هذا العام، تعرضت جهود بكين للتغلغل إلى ضربةٍ مع خسارة رئيس الوزراء فرانك باينيماراما، الذي نسج علاقاتٍ قوية معها منذ توليه السلطة في 2007، الانتخابات التشريعية. وما لبث أن أقيل مفوض الشرطة العام، المقرّب من باينيماراما والذي أشرف على برنامج تدريبٍ مثير للجدل لجهاز الشرطة بالتعاون مع بكين.
أما في ميكرونيزيا، اتهم الرئيس المنتهية ولايته دافيد بانويلو الصين بتهديد سلامته الجسدية بسبب رفضه تسلم لقاحات صينية ضد كورونا وشراء ذمم المسؤولين في بلاده المكونة من 600 جزيرة تمثل موقعاً استراتيجياً مهماً للغاية وكانت على الدوام أقرب إلى الولاية الأميركية الـ51. وكشف بانويلو قبل بضعة شهور تفاصيل صادمة عن مستوى التغلغل الصيني الذي وصل إلى حد نقل أعضاء في حكومته فحوى اجتماعات رسمية إلى بكين، وعن سعيه الحصول على مساعدات من تايوان كبديلٍ عن تلك التي تتلقاها بلاده من الصين. وفي مايو/أيار الماضي، وقّعت الولايات المتحدة اتفاقيةً أمنية مع ميكرونيزيا مُنحت بموجبها ضماناتٍ في مجالي الأمن والميزانية مقابل إقامة قاعدة عسكرية أميركية فيها.
وفي جزر مارشال، تستغل الصين خلاف الدولة الصغيرة مع واشنطن بشأن تعويضاتٍ عن تجارب نووية من أجل كسبها إلى صفها. ويتعلق الخلاف بإجراء الولايات المتحدة أكثر من ستين تجربة نووية في جزر مارشال خلال العقد الذي تلا الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي كان له عواقب وخيمة على البيئة وصحة سكان الأرخبيل الذي كان تابعاً للولايات المتحدة لعقودٍ طويلة قبل أن تمنحه الاستقلال. وبدلاً من مبلغ ثلاثة مليارات دولار أقرتها المحكمة الدولية للمطالبات النووية، لم تدفع الولايات المتحدة أكثر من 270 مليون دولار حتى الآن. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، اتهم الادعاء الأميركي مواطنان صينيان برشوة نواب في جزر سليمان من أجل إقامة منطقة حكم ذاتي في جزيرة مرجانية نائية تابعة للأرخبيل (غالباً لتكون محمية صينية في نهاية المطاف). وقطعت تلك المحاولات شوطاً كبيراً مع وصول الاقتراح إلى البرلمان وتصويت بعض النواب لصالحه.
وفي أبريل/نيسان العام الماضي، وقعت الصين اتفاقيةً أمنية مع جزر سليمان بقيت بنودها طي الكتمان، إلا أن بعض التسريبات كشفت أنها تسمح للبحرية الصينية برسو سفنها الحربية في جزر سليمان, وتنص مسودة الاتفاقية على أنه «يجوز للصين، وفقاً لاحتياجاتها الخاصة وبموافقة جزر سليمان، استخدام القوات الصينية لحماية سلامة الموظفين الصينيين والمشاريع الكبرى في جزر سليمان». وأثارت الاتفاقية مخاوف الغرب، خاصةً استراليا أكبر مانح للمساعدات، والتي بدورها دخلت في سباقٍ مع بكين في مجال الاتصالات في جزر سليمان، بعدما حصلت الأخيرة على قرضٍ بقيمة 66 مليون دولار من الصين، ما سمح لشركة الاتصالات العملاقة هواوي بناء 161 برج اتصالات في الأرخبيل. وفي 2018، تدخلت أستراليا لبناء كابل اتصالات يربط سيدني بعاصمة جزر سليمان هونيارا بعد أن منحت حكومة جزر سليمان العقد في البداية لـ«هواوي». وفي 2019، حاولت شركة صينية كبيرة استئجار جزيرة لمدة خمسة وسبعين عاماً، قبل أن يتم إلغاء المشروع.
أما في كيرباتي، برزت الجهود الصينية في مد النفوذ بإعلان الجزيرة في 2019 قطع العلاقات مع تايوان واعتبار جمهورية الصين الشعبية الحكومة الشرعية في الأراضي الصينية. وتلا ذلك في 2022، انسحاب كيرباتي من منتدى جزر المحيط الهادىء، وسط اتهام المعارضة للحكومة هناك بالخضوع لضغوط الصين الراغبة بعزل كيرباتي عن محيطها، بينما كال رئيس كيرباتي تانيتي ماماو المديح للصين في أكثر من مناسبة على خلفية تنميتها الاقتصادية «المدهشة» وإنجازاتها «العظيمة» وتعاملاتها «الحساسة ثقافياً» مع دول جزر المحيط الهادئ.
ولم تنجح محاولات الصين، حتى الآن، مد النفوذ في ناورو التي تعترف بتايوان ممثلةً شرعية وحيدة عن الأراضي الصينية. وتقدّم تايبيه مساعداتٍ مالية بشكلٍ دوري إلى ناورو، التي اعترفت ببكين مرة واحدة فقط بين 2002 و2005 قبل أن تقطع العلاقات الثنائية بعد إغراءاتٍ غربية وتايوانية. ولا تختلف الصورة كثيراً في توفالو التي تعد من جزر المحيط الهادىء القليلة التي تقيم علاقاتٍ دبلوماسية مع تايوان، بفضل مساعدات تايبيه المالية.
ووسط كل ذلك، تعهدت الولايات المتحدة تعزيز حضورها وأعلنت تأسيس صندوق مساعداتٍ بقيمة 810 مليون دولار لجزر المحيط الهادىء خلال قمةٍ مشتركة مع دول المنطقة في واشنطن في سبتمبر/أيلول 2022 حضرها الرئيس الأميركي جو بايدن. كما أعلنت واشنطن تعيين ممثلٍ دائم لها في منتدى جزر المحيط الهادىء وإعادة فتح سفارتها في جزر سليمان وافتتاح سفارتين أميركيتين في تونغا وكيرباتي وبعثة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية في فيجي، عدا عن نشر أعضاء من برنامج «فيلق السلام» التطوعي الأميركي في فيجي وتونغا وساموا وفانواتو. وفي مايو/أيار، وقع الأميركيون اتفاقيةً أمنية مع بابوا نيو غينيا سيوفرون بموجبها التدريب والتمويل لمساعدة جيشها على الاستجابة لتهديداتٍ مثل تهريب المخدرات والكوارث الطبيعية، فضلاً عن مشاركة بيانات الأقمار الصناعية. وبالتزامن، جددت الولايات المتحدة اتفاقيات الارتباط الحر مع ميكرونيزيا وبالاو التي تمكّن الجيش الأميركي من الوصول بشكلٍ شبه حصري إلى المياه الإقليمية للدولتين. علاوةً على ذلك، تخطط وزارة الدفاع الأميركية لتركيب نظام رادار للإنذار المبكر في بالاو بحلول 2026. وتأتي هذه الخطوات الأميركية المتلاحقة خلال مدةٍ قصيرة رداً على ما يبدو على اقتراح الصين توقيع اتفاقية اقتصادية وأمنية جماعية مع عشر دول في المحيط الهادئ تم تأجيله، بضغطٍ غربي، إلى وقتٍ غير معلن.
بطبيعة الحال، يشكّل الموقع الاستراتيجي لجزر المحيط الهادىء الدافع الرئيس وراء التنافس الصيني-الغربي لكسب دول المنطقة إلى جانب كل طرف. إذ لا تبعد تلك الجزر سوى مسافة قصيرة نسبياً عن أستراليا ونيوزليندا وولاية هاواي الأميركية وجزيرة غوام التابعة للولايات المتحدة. كما تُعتبر مدخلاً جغرافياً لشرق آسيا، وتحديداً الصين وتايوان واليابان والفليبين وشبه الجزيرة الكورية، وهي منطقة مليئة بالنزاعات المستعصية والخلافات الحدودية طويلة الأمد. ونجحت الصين خلال العقد الماضي في ملء الفجوة التي خلّفها الإهمال الأميركي لهذه المنطقة، قبل استفاقة واشنطن المتأخرة بعض الشيء، مستغلةً تدهور اقتصادات تلك الدول، خاصةً بعد أزمة وباء كوفيد، وتأثرها بتداعيات التغير المناخي الذي يهدد بمحو بعضها من الوجود مثل كيرباتي. ويقيناً، أن المنطقة ستكون ساحة المواجهة المقبلة بين بكين وواشنطن، ما سيمنح تلك الجزر الهامشية الصغيرة دوراً محورياً يؤهلها لحصد مكاسب سياسية واقتصادية واللعب على التوازنات بين القوتين العظميين.