عودة اليمين التركي إلى صباه

شورش درويش

حضرت القومية التركية المتطرّفة أثناء التنافس الانتخابي كما لم تحضر في السنوات العشرين الماضية. حصل تقدّم مريع لخطب الكراهية إزاء القومية الكردية واللاجئين السوريين على نحو محموم، خطاب الكراهية هذا كان المادة اللاصقة لكتلتي المعارضة والحكومة مع السواد الأعظم من ناخبي اليمين القومي، وخلال جولتي الانتخاب بدا التحوّل مخيفاً حين أمسى صنّاع الفاشيست هم “صنّاع الملوك” على ما يجري وصف كل طرف يمكنه أن يكون رمانة ميزان الانتخابات الرئاسية.

لطالما استمدت القومية التركية طاقتها من الماضي كما في حالة الأديان؛ فقد حضرت صناعة المشاعر القومية الجمعية بدل طرح برامج حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وتخفيف الاستقطاب الشعبي. جزء من عملية الصناعة تلك مرّت بزيارة الأضرحة والصروح. قام أردوغان ليلة الانتخابات بالصلاة في “مسجد” آيا صوفيا، في مقابل زيارة كليجدار أوغلو لضريح مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك، ليعيد أردوغان قبل الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية زيارة ضريح عدنان مندريس، بذا كانت هذه الزيارات نوعاً من استجداء الأسلاف على ما تقوله الأديان وطلب العون من الموتى لأجل حكم الأحياء، فالموتى الخالدون في تركيا لا يخرجون من الحياة السياسية وترتجى شفاعتهم في الانتخابات. كان صاحب كتاب الجماعات المتخيّلة، بندكت أندرسن، يتحدث عن المغزى الثقافي لمثل تلك الصروح، وكيف أننا لا نجد قبر الماركسي المجهول أو الشهيد الليبرالي المجهول وأنه لو حصل ذلك في عالمي الماركسيين والليبراليين لما تمكنا من “تحاشي السخف” لحظتئذ، ومرد الأمر أن لا الماركسية ولا الليبرالية معنيتان كثيراً بالموت والخلود، فيما “التخيّل القومي” معنيّ بذلك، بالتالي هناك “صلة قرابة قوية بين “التخيل القومي والتخيّلات الدينية”، وليس قليل الصلة وصف القومية التركية بأنها ديانة الشعب وأن آباء القومية ما هم سوى أنبياء محدثون.

على عكس الحسابات العقلانية التي رأت أن المشاكل الاقتصادية قد تشكّل العربة التي تقود عملية التغيير، فإن العكس هو الذي حدث تماماً في بلد يشهد تضخماً بمقدار 60% وارتفاع للبطالة تجاوز 10% وديون خارجية فاقت 235 مليار دولار، فقد أصبحت هذه العوامل نقاطاً ثانوية قياساً إلى الخطابات الإنشائية والوعد بالعظمة وصرف انتباه الناخبين إلى الماضي. ولعل المفارقة كمنت في أن الأزمة الاقتصادية، التي كان من المأمول لها أن تشكّل العتلة التي ترفع المعارضة إلى كرسيّ الحكم،  باتت الأداة التي مكّنت أردوغان من الفوز، مشفوعاً بطاقات اليمين القومي الهدّارة، ذلك أنها خلقت ردّ فعلٍ عكسيّ، إذ إن ضعف تركيا دفع ملايين الناخبين في المناطق الأشد فقراً وبطالة وقلقاً إلى  التمسك الشديد بخطابات الهوية. الإحساس بفقد الكيان الدولتيّ ومطاردة أشباح قنديل مثّل واحداً من الهواجس والديناميات التي تتحكم على الدوام في مشاعر الناخب التركي، بذا فإن انهيار الاقتصاد عنى في مكانٍ ما ضعف تركيا، والضعف بطبيعة الحال هو الحافز لانتخاب التطرّف والقوّة وتغليبهما على البرامج.

وإذا كان صحيحاً أن عدد مقاعد البرلمان التي يحوزها اليمين المتطرّف، حزب الحركة القومية وحزب الجيد، تبدو ثابتة في انتخابات عام 2018 وانتخابات 2023، إلّا أن غير الطبيعي هو زحف اليمين لأن يصبح محدد خطابات المرشّحين للرئاسة والمتحكّم بحركة أصوات الناخبين. حضور اليمين تجلى في وصف أردوغان خصمه كليجدار أوغلو بأنه موالٍ للإرهابيين، في إشارة إلى دعم المعارضة الكردية له، وعزا تقدمه في الجولة الأولى إلى إرادة الشعب في مواجهة قنديل التي تريد “هندسة” السياسة التركية ، فيما انزاح الأخير إلى طلب البراءة من هذه التهمة أمام الكتلة المرّجحة الأهم (ناخبو اليمين القومي) عبر الوعد بتدمير جبال قنديل، ومدّ يده تالياً إلى أوميت أوزداغ صاحب حزب النصر الأشد تطرّفاً وشعبوية ونشراً للكراهية في مواجهة اللاجئين، في الواقع لم يكن أوزداغ وحزبه الهزيل هما المقصودان بتحالف اللحظات الأخيرة بقدر ما كانت خطوة أوغلو موجهة لطمأنة ناخبي اليمين ويمين الوسط بأن تركيا المتجّهمة لن تبتسم في وجه الكرد مطلقاً.

ألقى الاستقطاب القومي التركي بظلاله على القضية الكردية بطريقة مغايرة، إذ لم يكن حزب اليسار الأخضر (الشعوب الديمقرطي ) يريد الانزياح نحو خطاب قوميّ بدائي ، ذلك أن صيغة التغيير التي يطمح إليها الحزب تنفرد في أن تجعل من التعددية الإثنية شرط تقدّم تركيا ودمقرطتها. في الأثناء ثمة أصوات تطالب الحزب بالعدول عن مفردات الحداثة السياسية والنفوذ إلى وجدان الكرد عبر الخطاب القومي أسوةً بالأحزاب التركية.

في الأصل كانت القومية الكردية رد فعل على تنامي القومية التركية وتمكّن يمينها من حكم تركيا لمئة عام خلا مراحل ليبرالية قصيرة الأمد كفترة حكم تورغوت أوزال. وتاريخياً كانت سياسات القومية الكردية الفعل المقاوم للإنكار والإذابة والمجانسة. واقعياً أصبح الدفاع عن الهوية الكردية أمراً ضاغطاً على الوطنيين الكرد الراغبين في التلاقي مع الأتراك على صيغة وطنية جديدة تأخذ بالحسبان مسألة المجتمع التعددي والعدالة اللغوية والاعتراف الدستوري وتوسيع الحقل العام ودمقرطة البلاد، غير أن هذه الصيغة الحداثية والجهود السياسية أُحبطت، أقلّه الآن وربما في السنوات الخمس القادمة، ما يعني أن اليسار الأخضر (الشعوب الديمقراطي) سيعود خطوة إلى الوراء عبر تنشيط خطابه القومي على حساب ما كان يشتغل عليه من تجديد وتحديث، ودائماً تحت وطأة تقدّم اليمين التركي.

أعادت الانتخابات الأخيرة اليمين القومي إلى صباه، فهو لم يعد مجرّد أحزاب  ومقاعد في البرلمان وتوجّه متطرّف مقابل عدّة توجّهات، إنه في هذه الأثناء لون الدولة ولسانها، ومشغّل حروبها القادمة التي ستسعر باسم القومية والمجانسة والاحتواء، وفي ذلك مصلحة للحزب الحاكم الذي سيحوّل الاستقطاب الداخلي من استقطاب تركي- تركي أساسه التضخّم الاقتصادي والفساد والزبائنية وتردي حالة حقوق الإنسان والحريات، إلى استقطاب تركي كردي.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد