محمد سيد رصاص
فرض مصطفى كمال، مع تأسيس الجمهورية التركية في أكتوبر/تشرين الأول 1923، نمطاً من السياسة اختلط فيه الجانب السياسي، الذي يحتوي على أيديولوجية قومية علمانية، مع الجانب الثقافي الذي يتعلق بالهوية الحضارية التغريبية التي أرادها لتركيا بعيداً عن الهوية الحضارية الإسلامية السائدة أيام الدولة العثمانية. وترافق ذلك مع جانبٍ لغوي من خلال فرض التركية لغةً وحيدة للدولة ومنع اللغات الأخرى رسمياً وثقافياً واجتماعياً، ومع جانبٍ اجتماعي عندما منع الطربوش والحجاب في الدوائر الرسمية والمدارس والجامعات.
قاد هذا إلى عدم اقتصار التحزبات السياسية التركية على البرنامج السياسي الذي ينتظم حوله الحزبيون ويسعون إلى ترويجه في المجتمع فحسب، بل أصبح الحزب، عند أغلب الأحزاب التركية إن لم يكن كلها، أقرب إلى قومٍ أو جماعة أو طائفة مغلقة يسود فيها «نحن» و«هم» بطقوسٍ اجتماعية خاصة في المأكل والمشرب والزي وأماكن الارتياد الاجتماعي. كما أصبح للحزب ترجمات اقتصادية بحيث يتم توظيف أبناء الحزب الواحد غالباً في منشأةٍ اقتصادية يملكها حزبي. كما يمكن أن يترجم هذا في الزواج. ومن جهةٍ أخرى، يشعر من اختلط بسياسيين أتراك أنه من الصعب على أحدهم أن تجمعه مائدة طعام أوكأس شاي أوعلاقة اجتماعية عادية مع فردٍ من حزب آخر.
لذلك عندما فاز الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس في الانتخابات البرلمانية عام 1950 وأزاح حزب الشعب الجمهوري بزعامة عصمت إينونو من كرسي السلطة، كان هناك مطالبٌ ثقافية- دينية، لا برامج سياسية فحسب، مثل إعادة آذان الصلاة باللغة العربية الذي فُرض باللغة التركية وإعادة فتح مساجد أغلقت بعد عام 1923. كانت نتيجة تلك الانتخابات مفاجأة حتى للمنتصرين الأعضاء في حزبٍ لايتجاوز عمره أصابع اليد الواحدة هزموا حزباً بقي في السلطة لسبعة وعشرون عاماً يُعتبر حزب «المحرِر والمؤسِس» ويرأسه خليفته ومعاونه في يوم توقيع معاهدة لوزان التي ولدت من رحمها بعد ثلاثة شهور الجمهورية التركية. وكان الحامل الاجتماعي لحزب مندريس أتراك من الريف وتجار وفئات وطسى وفقيرة في بلدات صغيرة ومن القسم الآسيوي لاسطنبول، على عكس الحزب الآخر الذي تركّز مؤيدوه في القسم الأوروبي والأحياء الغنية للمدن الكبرى من عائلات الضباط وإداريي الدولة والمتعلمين والمثقفين الذي تبنوا النمط الثقافي والاجتماعي الغربي. وعملياً، هزمت فئة بسيطة في الحزب الديمقراطي نخبة حزب الشعب الجمهوري، وهو الأمر الذي تكرر في 1954 و1957.
لجأت هذه النخبة التي صنعتها جمهورية مصطفى كمال إلى أسلوب الانقلاب العسكري حينما فشلت في مواجهة مندريس في صناديق الاقتراع، فتم لها ذلك في 27 مايو/أيار 1960 وشنق مندريس بناءً عليه. وعلى الرغم من سماحها بعودة حكم البرلمان والأحزاب، إلا أنها أسست مجلس الأمن القومي الذي حكم من خلاله الجيش والدولة العميقة من وراء ستار البرلمان، وهو ما تكرر في 1973 بعد عامين من الانقلاب وفي 1987 بعد انقلاب 1980. وفي انقلاب 1997، لم تلجأ إلى الحكم العسكري المباشر كما في الانقلابات الثلاثة السابقة، بل اكتفت النخبة العسكرية بإنذارٍ إلى رئيس الوزراء الإسلامي نجم الدين أربكان يحتوي مطالب متعددة وضعته في زاوية الاستقالة. وحينما أتى حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عبر انتخابات 2002، تكررت تجربة مندريس بين 1950 و1960 لجهة وجود مجتمع ضد مجتمع. أي، إسلاميون ضد عسكر وقضاة ونخبة أكاديمية وإعلامية علمانية. ضم مجتمع حزب العدالة والتنمية رأسمالية برجوازية جديدة أتت من مثلث مدن منطقة الأناضول الكبرى، أي ملاطية- قيصري- قونية، معظم أفرادها اغتنوا من عجينة مالية جلبها عمالٌ أقاموا في ألمانيا الغربية بين الخمسينات والسبعينات ثم استثمروا أموالهم في التجارة والصناعة. وبذلك، ضم هذا المجتمع متعلمين وأكاديميين ومثقفين وفئات وسطى وفقيرة في القسم الآسيوي من اسطنبول أو أنقرة، كما أتى الكثير منهم من منطقة الأناضول.
واليوم قبل أسابيع من الانتخابات، تقف تركيا في وضع يشبه ذلك الذي ساد في 1950 و2002 لجهة اهتزاز كرسي حكم الرئيس رجب طيب أردوغان بفعل الأزمة الاقتصادية وتزعزع وضع تركيا في حلف الناتو، وعدم قدرة أردوغان على الاستمرار في لعبة ما بعد محاولة انقلاب 2016 حينما بدأ بالرقص على حبلي الكرملين والبيت الأبيض. كما بات هناك مجتمعٌ تركي مضاد يضم تحالفاً حزبياً عريضاً يمتد من حزب الشعب الجمهوري إلى حزب الجيد، المنشق عن حزب الحركة القومية، إلى حزبين لوزيري خارجية سابقين لأردوغان هما أحمد داود أوغلو وعلي باباجان، إضافة إلى اسلاميي حزب الرفاه الذي أنشأه أربكان. ومؤخراً، ألمح حزب الشعوب الديمقراطية، وهو الحزب الأقوى في الوسط الاجتماعي الكردي الذي يشكّل خُمس السكان، إلى إمكانية دعم زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، منافس أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة. أما أردوغان، فيدعمه حزب الحركة القومية ذو الميول القومية الطورانية، فيما تأتي قومية مصطفى كمال ضمن جغرافية جمهورية عام 1923، التي من الواضح أنها ليست أكثر من تجربة قرن من الفشل بحكم الانقسام المجتمعي العميق بين العلمانيين والإسلاميين. وهي فاشلة كذلك لأنها لا يمكن إقامة دولة قومية أحادية في مجتمعٍ متعدد القوميات، وهو ما تبينه الثورات الكردية الأربع ضد أنقرة في 1925 و1930 و1937 و1984.