حسين جمو
منذ 6 فبراير/شباط، تاريخ الزلزال المدمر، تغيرت العديد من الخطط السياسية والأمنية الكبيرة في المنطقة – على الأقل ما يخص تركيا وسوريا – لكن تداعيات الزلزال ما تزال غير حاسمة في تأثيرها السلبي على مستقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يحظى بدعم إقليمي كبير.
على الرغم من ذلك، يبقى أي رهان على فوز أحد الطرفين في الوقت الحالي مقامرةً غير محترفة. فحزب العدالة والتنمية يكاد يستنفد قواه في الحكم الطويل منذ عام 2002 من دون منازع، ولا يعني أنه فقد أوراقه في الاستمرار، فهو الحزب الأكثر تجديداً لنفسه، وغالباً ما يلتهم برامج خصومه عبر تبنيها، سواءً على مستوى الداخل أو السياسة الخارجية. فما كان يريد أن يقوم به حزب الشعب الجمهوري في انفتاح على الدول العربية وسحب الدعم من التنظيمات الإسلامية المرتهنة لحكومة حزب العدالة والتنمية، أصبح دعوة لا قيمة لها مقارنةً بالتغيرات الكبيرة التي قام بها أردوغان على هذا الصعيد، حتى تجاه النظام السوري. إذا ما قارنا بين السياسة الخارجية في العام 2015 و2023، سيبدو وكأن حزب الشعب الجمهوري هو الذي يدير الأمور اليوم! لقد استولى حزب العدالة والتنمية على برنامج خصمه حين وجد أنه حان وقت التغيير. لكن، والحال كذلك، ما الذي بقي لحزب الشعب الجمهوري ليتفوق على أردوغان في المعركة الانتخابية الكبرى المقررة في 14 مايو/أيار؟ هل من ثغرة يمكن أن يخترقها الحزب كنقطة انطلاق وتمايز لتدشين عهد جديد على غرار تجربة الحزب الديمقراطي عام 1950، وحزب العدالة والتنمية عام 2002؟
اهتزاز الثقة
في الأيام القليلة الماضية، تعرضت المعارضة التركية، ممثلةً في الطاولة السداسية، إلى هزة مباغتة من قبل رئيس حزب الخير ميرال أكشنر بإعلانها رفض ترشيح كمال كليجدار أوغلو لخوض الانتخابات الرئاسية. وبعد ثلاثة أيام، تراجعت عن موقفها بشكل مثير للتساؤلات، لكنها أحدثت ضرراً غير قليل في صورة تماسك المعارضة أمام خصم متمرس في ألاعيب السياسة والتأثير على الحشود مثل أردوغان. لم يتوان الرئيس المشترك لحزب الشعوب الديمقراطي مدحت سنجر عن انتقاد ما حدث، ورفض أسلوب «صياغة السياسة خلف الأبواب المغلقة»، وأن ما حدث (انسحاب وعودة أكشنر) هزّ ثقة المجتمع في المعارضة.
وما زال حزب الشعوب الديمقراطي، وفق التقديرات الانتخابية، الطرف المرشح لحسم السباق الانتخابي، لكنه حذِرٌ للغاية حتى الآن في إعلان دعم مفتوح لكليجدار أوغلو، أو رفع لواء المعركة ضد أردوغان، على الرغم من المظالم الهائلة التي لحقت بالحزب على يد السلطة الحالية، والزج بقياداته وكوادره البلدية والسياسية في السجون.
تسلم كليجدار أوغلو قيادة الحزب بعقلية مختلفة ومقاربة لأسلوب بولنت أجاويد حين نأى بنفسه عن الانقلابيين عام 1971 وفاز في انتخابات 1973 بنسبة 42 في المئة. مع ذلك، لم يقدم كليجدار أوغلو طروحات جريئة فيما يخص أزمات تركيا المزمنة.
من غير المرجح أن يمنح حزب الشعوب الديمقراطي انتصاراً مجانياً لتحالف المعارضة، كما حدث في الانتخابات البلدية عام 2019. تحدث سنجر قبل أيام عن الاتفاق على مبادئ وليس مساومات عامة. وقد تأخذ الحماسة محللي الأحزاب إلى فرضية أن القاعدة الانتخابية لحزب الشعوب الديمقراطي مضطرة للتصويت ضد أردوغان في النهاية، وهذه قراءة قاصرة إلى حد كبير لدى مراجعة الرؤية الأوسع لحزب الشعوب. ما الذي يريده الحزب؟ هل يكفي مثالاً ترديد كمال كليجدار أوغلو في خطاب فوزه بالترشح: «نريد السلام ونسعى لجمع كل ألوان تركيا معاً»؟ قد يكون استخدامه مصطلح «ألوان تركيا» مؤشراً إيجابياً ومقدمة لفتح «الصندوق الأسود» للجمهورية منذ عام 1923: القضية الكردية. مع ذلك، يزخر تاريخ تركيا بسياسيين كانت أمامهم فرصة للتغيير وأضاعوها في التردد وعدم الجرأة، وكانت النتيجة غلبة «فائض الحرب على مخزون السلام« بتعبير السياسي والنائب السابق عن حزب الشعوب الديمقراطي، سري ثريا أوندر.
فشل متكرر
الجانب الآخر من حكاية النجاح المتكرر لحزب العدالة والتنمية يكمن في الفشل المتكرر لحزب الشعب الجمهوري في قيادة التغيير. لقد انفرد حزبان من مجموع الأحزاب الحالية في تركيا، هما العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطي، في بناء سياسات قائمة على الاستثمار في الانتقال السكاني الجغرافي. خلال فترة طويلة، من السبعينيات وحتى مطلع القرن الحالي، اعتاشت الأحزاب على قواعد اجتماعية قديمة، غير مدركة لمعاني الانزياح السكاني الكبير من كردستان والأناضول باتجاه الغرب التركي. ونقتبس مجدداً هنا من مرافعة سري ثريا أوندر ضد الاتهامات الموجهة له ولحزبه والتي ترجمها المركزي الكردي للدراسات في مايو/أيار 2022:
«في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كان تعبير “ممارسة السياسة” يرتبط بأشخاص مثل ديميريل وأجاويد وأربكان وتوركيش. لكن هل الواقع كان كذلك؟ بالطبع لا! لقد استقر ملايين المهاجرين من قلب الأناضول على شواطئ المدن الكبرى غربي الأناضول. لقد كان هؤلاء بمثابة قطرات شكلت معاً فيضاناً لم يغير حياتهم فقط، بل قلب الاقتصاد والتركيبة الاجتماعية للمدن وللبلد كله رأساً على عقب. مقاربات هؤلاء الناس هي التي غيّرت البلاد، هؤلاء من صنعوا السياسة الحقيقية».
منذ عام 2002، عمل الحزبان، بجد ومن دون هوادة، على توسيع القاعدة السياسية وسط المهاجرين الجدد إلى المدن الكبرى. وليس هذا سوى مثالٌ على المرونة التي افتقدتها الأحزاب الأخرى. هناك أحزاب لديها نسبة أصوات تتجاوز حزب الشعوب أو مقاربة له، لكنها من دون مجتمع. حزب الشعوب يمثل مجتمعاً، وكذلك حزب العدالة والتنمية، لكن كتلاً سياسية أخرى مثل حزب ميرال أكشنر «الخير» وحزب السعادة وحزب المستقبل (أحمد داوود أوغلو) تُعتبر أحزاباً من دون مجتمع. أما حزب الشعب الجمهوري، فهو في موقع فريد من نوعه وحرج في الوقت نفسه؛ هو أيضاً حزب يمثل مجتمعين معاً: ساحل بحر إيجة وأعالي الأناضول العلوية. لكنه يفتقد للمرونة والمواكبة الاجتماعية والقدرة على تحريك أنصاره وإقناعهم بإحداث تحولات كبيرة تستطيع مجاراة ما يفعله حزب العدالة والتنمية. يقود حزب الشعوب الديمقراطي مجتمعه السياسي إلى اتجاهات جديدة مقنعة، ولم يفقد شيئاً من قاعدته الاجتماعية بل توسع أكثر، وكذلك حزب العدالة والتنمية.
أما حزب الشعب الجمهوري، وعلى الرغم من أنه حزب مجتمع، إلا أنه لم يجرؤ على قيادة مجتمعه بشكل فعّال، وحرص منذ قيادة كمال كليجدار أوغلو للحزب عام 2010 على تلبية ما يتوقعه المجتمع منه. وهذه الخلاصة، التي سنتوسع فيها مقالات قادمة بالاستناد إلى تاريخ حزب الشعب الجمهوري ومسيرته منذ التأسيس، لا تقلل من الدور المهم الذي يلعبه كليجدار أوغلو في محاولة تحرير حزبه من سيطرة «أرغنكون» وبقايا الدول العميقة، أو نجاحه في تصفية إرث دينيز بايكال الذي قاد الحزب من 1992 إلى 2010. وسار بايكال على نهج مبتكر النسخة السائدة من «الكمالية» عصمت إينونو في القيام بوظيفة حارس النظام في موقع المعارضة، وهذا ما قرّب حزب الشعب الجمهوري من أنشطة الدولة العميقة حتى تسلم كليجدار أوغلو قيادة الحزب بعقلية مختلفة ومقاربة لأسلوب بولنت أجاويد حين نأى بنفسه عن الانقلابيين عام 1971 وفاز في انتخابات 1973 بنسبة 42 في المئة. مع ذلك، لم يقدم كليجدار أوغلو طروحات جريئة فيما يخص أزمات تركيا المزمنة إلى درجة أن بإمكان أردوغان استعادة الحديث عن السلام وحل القضية الكردية متى ما قرر ذلك ومن دون منازع حتى الآن.
قد تضم الطاولة السداسية قوىً جديدة، صغيرة وكبيرة، لكن الفوز يتوقف على شخص كليجدار أوغلو. لم يبالغ الصحافي التركي جان دوندار حين وصف صمود الطاولة السداسية بـ«معجرة تحققت بفضل صبر كليجدار أوغلو»، فقد نجح في جمع قوى متنافرة، يمينية ويسارية. وقد تتحول هذه الميزة – المعجزة – إلى نقطة ضعف في مرحلة لاحقة. وربما يرسم كليجدار أوغلو المسار سريعاً بأن يقود تحولاً سياسياً وليس انتقالاً انتخابياً للسلطة، وهذا يتوقف على مدى قدرته على جعل الآخرين يلحقون به وبما يقرره لمستقبل تركيا.
قد يكون مفيداً في هذا السياق الرجوع إلى رأي ونصيحة وجهها زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان إلى كمال كليجدار أوغلو في نوفمبر/تشرين الثاني 2010، أي بعد أقل من خمسة شهور على إطاحة كليجدار ببايكال من قيادة الحزب. نقل محامو أوجلان عنه في هذا الصدد:
«حزب الشعب الجمهوري مرغمٌ على التغيير، وإن لم يتغيروا فسيتضررون هم أيضاً، بل سينتهون ويذهبون، والتغيير لصالحهم. لقد قلتها منذ عام 2000 بأن على الحزب تحديث الكمالية، فذلك هو مخرجهم الوحيد. نحن في بداية الطريق وعليهم أن يدركوا ذلك، فذلك هو حلهم الوحيد. من هنا، أريد تحذير كيليجدار أوغلو؛ فلهم أيضاً منافع من تحديث ودمقرطة الكمالية. إن تحديث الكمالية أمر مهم، وذلك هو ما يجب أن يقوم به حزبه. فإن فعل ذلك، نجا. وإن لم يفعل، سينتهي ويذهب، فهذه فرصته الأخيرة».