المركز الكردي للدراسات
يعيد الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا تشكيل المشهد السياسي في المنطقة على أركانٍ جديدة تبدو لوهلة تجسيداً لانقلابٍ مفاجئ أحدثته الكارثة التي أودت بحياة عشرات الآلاف مع خسائر اقتصادية ضخمة على البنية التحتية وسبل العيش، خاصةً لدى الفئات الفقيرة.
من المبكر الحكم على المسار المقبل للحياة السياسية في تركيا، وما إذا كان تأثيرها سيكون بحجم تداعيات زلزال مرمرة عام 1999 حين أتت الكارثة على طبقةٍ سياسية كاملة هيمنت على عقد التسعينات، وآخرهم بولنت أجاويد. غير أن الزلزال الحالي لن يبقي المشهد الذي كان سائداً في تركيا قبل 6 فبراير/شباط 2023، ويتوقف الأمر على الرواية التي ستنتصر في نهاية الأمر بشأن قصة الزلزال، وهو الجانب الذي التقطته معظم الأطراف السياسية. فحزب العدالة والتنمية بات يتجه إلى تأجيل الانتخابات المقررة في 14 مايو/أيار عاماً كاملاً بحسب مصادر مطلعة على نوايا قيادات الحزب، الأمر الذي لا يترك لأحزاب المعارضة خياراً سوى التمسك بالموعد الحالي المبكر للانتخابات.
على أنقاض الزلزال، تتم إعادة تشكيل مسار السياسة أيضاً، و سيكون فيها رابحون وخاسرون بشكلٍ متطرف. لذلك، انتقل حزب العدالة بكل قوة إلى التيار المعارض للانتخابات في موعدها. وبحسب تصريح نائب رئيس لجنة شؤون الانتخابات في الحزب، علي إحسان يافوز: «ليس لدينا الوقت للحديث عن الانتخابات، نعمل الآن على إنقاذ ما تبقى، الحديث عن الانتخابات في ظل هذه الكارثة إهانة لأرواح الضحايا». وبالمثل، صرح نائب رئيس الوزراء السابق بولنت أرينج: «لا يمكن إجراء الانتخابات في أيار ولا في حزيران، اتقوا الله! ما زالت الجثث تحت الأنقاض، يجب تأجيل الانتخابات فوراً.. الدساتير ليست نصوصاً مقدسة».
على الجانب الآخر، وكعينة للرأي السائد، رفض رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو فكرة التأجيل، ونقل عنه قوله إن «الدستور التركي يسمح بتأجيل الانتخابات في حالة الحرب فقط ونحن لسنا في حرب، يجب تحديد موعد الانتخابات على الفور. الضرر الناتج عن هروبك (يقصد أردوغان) من الانتخابات سيجلب العناء للجميع».
كارثة تفوق طاقة البشر
وفي واقع الأمر، لدعوات التأجيل أو التبكير صلةٌ رئيسية بالموقع السياسي لكل طرف وليس بالوضع الإنساني العام. فلو جرت الانتخابات في موعدها الحالي، تجزم أطراف المعارضة أن أردوغان سينال هزيمةً قاسية، وهو ما لا يستبعده أردوغان وأنصاره بكل الأحوال. ولذلك، قاموا بتغيير خطابهم منذ اليوم الثالث من الزلزال، فأصبح الأردوغانيون من دعاة تأجيل الاستحقاق الانتخابي.
في هذه الحالة، سيحتاج هؤلاء إلى روايةٍ جديدة للزلزال تقلل من سردية المعارضة في تحميل الحكومة مسؤولية العدد الكبير من الضحايا والخسائر الفادحة في البنية التحتية. وهذه السردية هي أن كارثة الزلزال أكبر من أي احتياطاتٍ هندسية أو قدرة بشرية على التقليل من خسائرها. بمعنى أن ما جرى يفوق طاقة البشر على الاستعداد له!
ردد أردوغان للمرة الثانية مقولة أن الزلزال كان «بقوة القنابل الذرية»، وأعقبه بالقول: «أي دولة كانت ستواجه المشاكل التي واجهتنا في ظل مثل هذه الكارثة»، فبدأت معها حملة لصياغة حكاية «العجز البشري» أمام الطبيعة.
رواية القنابل الذرية صدرت أولاً من مسؤول في إدارة الكوارث والطوارئ التركية «آفاد». وحدد المسؤول، وهو مدير عام قسم الزلازل والحد من المخاطر في «آفاد» أورهان تتار الطاقة المنبعثة من الزلزال الأول بما يعادل طاقة 500 قنبلة ذرية، وهو توصيف تم التلاعب به ليدل وكأن الدمار الحاصل كبير لدرجة يعادل تفجير 500 قنبلة ذرية، أو هكذا جرى تقديمه للجمهور، من دون توضيح أن الطاقة التي بلغت سطح الأرض لا تعادل حتى قنبلة ذرية صغيرة واحدة.
من خلال تبني هذا السياق، يراهن أردوغان على مسألتين؛ الأولى تأجيل الانتخابات مدة عام، ثم تصوير الكارثة كقضاءٍ وقدر لتبرير الاستسلام أمامها والتقصير في إرسال فرق الإنقاذ لمناطق لم تصلها أي مساعداتٍ بعد مرور خمسة أيام على الحدث. خلال عام، سيكون الغضب الشعبي خفت حدته، خاصةً بين الكتلة المؤيدة له تاريخياً في مناطق الزلزال. وفي كل الأحوال، لم تنقص منه تأجج الغضب لدى الفئات التي اعتادت على التصويت للمعارضة. وبالتالي، فإن فترة سنة، وفق اعتقاد المؤيدين لتأجيل الانتخابات، تبدو كافيةً لتعديل المزاج المستاء لدى أنصار أردوغان من الاستجابة غير الناجحة للحكومة تجاه الزلزال.
وفي هذا السياق أيضاً، تهتم وسائل إعلام الحكومة التركية بالتقارير الدولية التي تصور الزلزال ككارثةٍ استثنائية، مثل منظمة الصحة العالمية التي اعتبرت في تصريحٍ على لسان مدير الفرع الأوروبي للمنظمة هانس كلوغه أن الزلزال هو «أكبر كارثة طبيعية خلال قرن» تضرب بلدًا واقعًا ضمن منطقتها الأوروبية.
وتلعب الشائعات المتمركزة حول نظريات المؤامرة، وأن جهة ما قامت ببرمجة الزلزال، رواجاً كبيراً في الأوساط الشعبية، خاصة أن المزاج السياسي التركي يرتاب بشدّة، تاريخياً، من دور القوى الخارجية في التآمر ضد تركيا والسعي لتدميرها. وقد اضطر برنامج “هآرب” العلمي الأميركي، وخبراء في العلوم، إلى الرد على الشائعات والأخبار المضللة التي تربط الزلزال بأسباب مفتعلة يقف خلفها البرنامج العلمي الأميركي.
تضخيم النهب
إن محاولة الإفلات من دفع ثمن تداعيات الزلزال، وتفادي تكرار سيناريو زلزال 1999 على الطبقة السياسية الحاكمة يتطلب حفر، أو تعميق، مساراتٍ اجتماعية بعضها متعلق، على سبيل المثال، بتضخيم مسألة النهب واللصوصية تحت أنقاض الأبنية المهدمة، كتقنيةٍ اجتماعية لإخراج الحدث عن السيطرة وإعادة تأكيد دور الدولة (الحكومة) في إدارة الملف وتبديد الشكوك المحيطة بها. ومسألة تضخيم السرقات والنهب تبدو واضحةً في الأماكن التي حدثت فيها العديد من الحالات التي أعلنتها الجهات الأمنية. على سبيل المثال، أدى عدم وصول فرق إنقاذٍ ومساعدات لإيواء المشردين الناجين إلى محاولة البعض البحث تحت الركام عن أغطيةٍ وأي شيء يساعدهم على الصمود في درجات حرارة تحت الصفر في العراء. تم احتساب العديد من هؤلاء على اللصوص الحقيقيين.
توترات تلوح في الأفق
على أن التصور الأولي في أن إبعاد الانتخابات عن الزلزال سيكون في مصلحة حزب العدالة والتنمية، غير مضمون. فهناك العديد من التوترات الاجتماعية تلوح في الأفق قد تؤدي إلى استقطابٍ سياسي حاد على مستوى المجتمع. على سبيل المثال، تكهنت وسائل إعلام وشخصيات سياسية حدوث «تحولٍ ديمغرافي» في المناطق التي ضربتها الزلازل، وسط دمارٍ كبير ونزوح للسكان المحليين. وقال فاروق أكسوي، مراسل قناة «خبر تورك» الإخبارية في تصريحٍ نقلته «بي بي سي عربية» إن السكان المحليين الذين قابلهم في محافظة هاتاي التي ضربها الزلزال على الحدود مع سوريا أعربوا عن قلقهم من إمكانية رحيل السكان من المدينة بشكلٍ نهائي، وأن هذا الرحيل يمكن أن يمهد الطريق أمام الناس لهجرةٍ عكسية من أماكن أخرى إلى المنطقة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى «تغيير تركيبتها» السكانية. والحديث هنا بطبيعة الحال يحمل بعداً طائفياً، إذ أن ولاية هاتاي التي كانت يوماً ما ذات غالبية علوية ساحقة، منطقة تشهد حراكاً ديمغرافياً. وزاد ذلك أكثر مع توافد اللاجئين السوريين إليها منذ عام 2011. ينطبق الأمر ذاته على مرعش التي يقطنها عدد كبير من العلويين، وهي منطقة تعيش توتراً اجتماعياً تاريخياً مع كتلة موالية للسلطة على الدوام تتألف بشكلٍ أساسي من عناصر تركية سنّية. والأمر ذاته ينطبق حتى على عينتاب.
في العموم، منطقة الزلزال مختلطة طائفياً وقومياً. فإضافةً إلى السنة والعلويين في المحافظات المتأثرة بشدة، هناك انقسامٌ قومي أيضاً بين الترك والكرد في مرعش وأديامان (سمسور) وعينتاب (ديلوك) حيث تتراوح نسبة الكرد في هذه المناطق الثلاث بين 30 في المئة إلى 60 في المئة. وولاءهم السياسي مشتتٌ بين حزب الشعوب الديمقراطي وحزب الشعب الجمهوري وحزب العدالة والتنمية. الخلاصة، أنه مقارنة مع مجتمع زلزال مرمرة عام 1999، فإن المنطقة الحالية قابلة لاحتضان توتراتٍ مفاجئة وسريعة وانفعالية، خاصةً إذا ما جرى تمييزٌ في تعويضات الزلزال خلال فترة العام التي يطمح لها حزب العدالة. في هذه المنطقة، من السهل أن تجد نظريات المؤامرة طريقها في المجتمع حتى من دون ان يقف خلفها أحد. وبالتالي، يتطلب الأمر تدخلاً بسيطاً وتجاوزاً بالكاد يمكن ملاحظته من قبل السلطة، حتى يتحول الأمر إلى استقطابٍ اجتماعي خطير.