الصمت هو أسوأ جزء في عملية الإنقاذ. كل ربع ساعة، يتوقف سائقو الجرافات والرافعات التي تحفر وسط أكوام المنازل المهدمة عن العمل على أمل سماع صرخات الأشخاص العالقين تحتها. لا يوجد طريقة غير ذلك لمعرفة إذا من كان أحد على قيد الحياة تحت الركام. إلى جانب هذا المشهد، يقف أقارب من هم تحت الأنقاض وأصوات صلواتهم ودعواتهم تملأ المكان. مبنى من 14 طابقاً في أضنة لم يتبقى منه إلا الحجارة والركام، تلك المدينة التي يبلغ عدد سكانها 1.8 مليون نسمة في جنوب تركيا. على بعد مئات الكيلومترات، المشهد يعيد نفسه في سوريا.
لم يُعرف إلى الآن حجم الدمار الذي خلفه الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا بقوة 7.8 و 7.5. قال مسؤولون أتراك إن نحو ستة آلاف مبنى، بما في ذلك مجمعاتٍ سكنية مثل تلك الموجودة في أضنة، انهارت نتيجة الزلزال. يُقدر خبير الزلازل أوفجون أحمد إركان أن 180 ألف شخص أو أكثر قد يكونون محاصرين تحت الأنقاض، وجميعهم ماتوا تقريباً. أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حالة الطوارئ في المقاطعات العشر التي ضربتها الزلازل، والتي يقطنها 13 مليون شخص.
على بعد حوالى 100 كيلومتر إلى الجنوب الشرقي من أضنة، كانت المشاهد أكثر دماراً. يلتهم حريقٌ ميناء الإسكندرونة، وهي مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ويبتلع حاوية شحنٍ تلو الأخرى ويملأ الجبال المحيطة بدخانٍ أسود. لا يمكن رؤية رجال الإطفاء في أي مكان، حيث سقطت محطة وقود من حافة منحدر. باتت الخيام البيضاء التي تأوي النازحين بسبب الزلزال تنتشر عبر ضواحي المدن.
إلى الجنوب، تشبه أنطاكيا، المدينة التي يبلغ عدد سكانها 400 ألف نسمة والتي خلّفت أنطاكية القديمة، مدينةً دمرتها أعوامٌ من الحرب. في وسط المدينة، تم تدمير كل المباني تقريباً. ويبدو أن عشرات المنازل الأخرى المتشققة على وشك الانهيار. انتشلت الجثث من تحت الأنقاض ملفوفةً في السجاد أو البطانيات على طول الطريق الرئيسي إلى جانب الجرحى، في انتظار سيارات الإسعاف. المتطوعون وعمال البلدية يوزعون وجبات الطعام على مئات السكان المحليين. رجل بعينين ناعستين، أصيب بجروحٍ بالغة وتمدد على الرصيف، يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة، يصيح شقيقه: «ابق معي. لا يزال لدينا الكثير لنفعله معاً»، فيما تحلّق مروحياتٌ عسكرية في سماء المنطقة.
تبدو فرق الإنقاذ مرتبكة. إلى جانب منزلٍ مهدّم، امرأة مسنة تتوسل الجنود لاستخدام جرافةٍ للعثور على ابنها العالق تحت الركام. تحاول الفرق إزالة الأنقاض بالأيدي، إذ أن المعدات الثقيلة تستخدم للبحث عن ناجين. يقول أحدهم: «ياخالتي، علينا اتخاذ بعض الخيارات الصعبة. هناك أناس يصرخون طلباً للمساعدة تحت المبنى الواقع على الجانب الآخر من الشارع، وربما يكون ابنك مات».
في سوريا، تم الإبلاغ عن 1700 حالة وفاة (حتى ساعة كتابة التقرير) مقسمة تقريباً بين إدلب التي تسيطر عليها المعارضة والمسلحون ومناطق سيطرة الحكومة السورية. في الشمال الغربي ، تقول الأمم المتحدة إن 224 مبنى على الأقل دُمّر وتضرر 325 مبنى آخر. من المرجح أن يكون العدد النهائي أعلى من ذلك بكثير. نزح معظم سكان إدلب من مناطق أخرى في سوريا، ويعيشون في خيامٍ أو منازل مؤقتة، فيما يقول شهود عيان إن الزلزال حطم قرىً بأكملها.
كانت جماعة «الخوذ البيضاء»، وهي مجموعة دفاع مدني تعمل في المحافظة، مستعدةً بشكلٍ جيد، كونها معتادة على هذه السيناريوهات. فلقد أمضت أعواماً في إخراج الناس من الأنقاض بعد الضربات الجوية للقوات السورية والروسية. يقول ناطقٌ باسم المجموعة أنهم يكافحون من أجل إنقاذ العالقين، لكنهم مرهقون للغاية، كون عددهم حوالى 3000 متطوع في منطقةٍ يزيد عدد سكانها عن أربعة ملايين شخص.
من المرجح أن يكون وصول الدعم الخارجي بطيئاً، لأن المنطقة تسيطر عليها جماعات مسلحة ومن الصعب الوصول إليها، وكون تركيا، المنشغلة بآثار الزلزال ذاته، هي شريان الحياة في إدلب. يعتمد نحو 2.7 مليون شخص في المحافظة على المساعدات الدولية المنقولة بالشاحنات عبر الحدود. وتتم عمليات التسليم دون موافقة نظام دمشق بموجب قرار مجلس الأمن الذي تم تمريره لأول مرة في 2014. لكن منذ عام 2020، لم يسمح القرار إلا بالشحنات عبر معبرٍ حدودي واحد هو باب الهوى، جعله الزلزال غير صالحٍ للاستعمال. تم إغلاق المطار القريب من أنطاكيا، أقرب مدينةٍ لباب الهوى، بسبب الأضرار التي لحقت بالمدرج. كما أن الطرق المؤدية إلى الحدود غير سالكة، كما هو الحال بين أنطاكيا وديلوك /عنتاب.
في اليوم التالي للزلزال، أعلنت الأمم المتحدة وقف المساعدات عبر الحدود. وقالت الناطقة باسم وكالة المساعدات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة ماديفي صن سون إنه لم يتضح متى يمكن استئنافها. سيؤدي ذلك إلى إبطاء أي جهودٍ للإغاثة من الزلزال، كما ينذر بنقص الغذاء والدواء والسلع الأساسية الأخرى لملايين الناس.
الوضع ليس أفضل في الأراضي التي يسيطر عليها النظام. يبدو أن حصيلة القتلى الأكبر هي في حلب، ثاني مدن سوريا. لكن هناك أيضاً أضرارٌ واسعة النطاق في حماة، وهي محافظة في الجنوب، واللاذقية المدينة المطلة على الساحل السوري. أيضاً تعني هذه المدينة النظام السوري دون غيرها كونها المعقل التاريخي لعائلة الأسد، وظلت تواليه إلى حدٍ كبير طوال الحرب الأهلية.
لم يكن تصرف النظام السوري مع الأزمات السابقة التي حلت بالبلاد أفضل. عندما اجتاحت حرائق الغابات غرب سوريا عام 2020 وأحرقت أكثر من 30 ألف هكتار من الأراضي، كافحت الدولة لإخمادها. وأثناء ذروة جائحة كورونا، لم يتم معرفة العدد الحقيقي للوفيات والإصابات. أغلب الأرقام التي كانت تُعلن كانت غير دقيقة. كل هذا مرتبط بشكلٍ أساسي بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. كما أن هناك نقصٌ بالإمدادات، وصعوبة في نقلها إلى المناطق المتضررة، إذ تعاني البلاد من شح المحروقات.
تخضع دمشق لعقوباتٍ دولية قاسية، فيما لديها علاقاتٍ جيدة مع عددٍ قليل من الأصدقاء. كما أن النظام معتاد على رفض عروض المساعدة أو سرقة المساعدات الخارجية. وعرضت دولٌ قليلة الدعم، إذ ذكرت روسيا، التي تحتفظ بوجودٍ عسكري في سوريا، أن جنودها سيساعدون في إزالة الأنقاض. أرسلت الإمارات مساعداتٍ إنسانية عبر طائرة شحن، وكذلك فعلت الجزائر ومصر وإيران. لكن قلة من هذه الدول مستعدةٌ وقادرة على إرسال المساعدات اللازمة لتعويض الأضرار الناجمة عن الزلزال. يسود البؤس في كل أنحاء البلاد. البلد الذي مزقته الحرب يواجه اليوم كوراث ومآسي جديدة.
يخيم الحزن في تركيا، يرافقه إحساسٌ بأن أجزاءً من البلاد هُجرت. وتقول الحكومة إنها نشرت 18 ألف من عناصر الدرك وعشرة آلاف شرطيٍ في المناطق المنكوبة. المئات من سيارات الإسعاف وحافلات الشرطة والجيش تتزاحم على الطريق المؤدية إلى أنطاكيا. أعيد انتشار بعض الجنود من المناطق التي تحتلها تركيا في سوريا. لكن يبدو أن جهود الإنقاذ تعتمد في الغالب على المتطوعين الذين تدفقوا على منطقة الزلزال من جميع أنحاء تركيا. يقول رجلٌ يجلس خارج أنقاض منزل والدته في أنطاكيا، في إشارةٍ إلى وكالة الكوارث التركية: «ليس لديهم ما يكفي من المعدات. لا يمكنهم التعامل مع هذا الدمار».
المصدر:ذي إيكونوميست