نزاع بين ضفتي الأطلسي.. الرأسمالية تعيد تنظيم نفسها بذخيرة «الدولة الأمة»

المركز الكردي للدراسات 
كثيراً ما يطرح تساؤل على هامش العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية عن حدود التحالف الاستراتيجي بين الجانبين، وإلى أي مدى يمكن الأخذ بجدية الخلافات التي تظهر بين الجانبين في ملفاتٍ أمنية واقتصادية.
تأتي في صدارة الملفات الخلافية، القراءة المتباينة بين الطرفين ما يتعلق بعملية تنظيم الرأسمالية. وظهرت هذه المشكلة على السطح خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترامب من خلال رسوم التعرفة الجمركية الباهظة على سلعٍ أوروبية خدمة لشعار «أميركا أولاً». وأعتقد الأوروبيون أنهم تجاوزوا هذا التحدي الترامبي مع وصول جو بايدن إلى سدة الرئاسة، إلا أن الأخير خيّب أمل الأوروبيين في هذا الجانب منذ أغسطس/آب 2022 بإقراره قانون «خفض التضخم» في ذروة الوحدة بين ضفتي الأطلسي ضد الغزو الروسي لأوكرانيا.
يرى الأوروبيون أن القانون الأميركي يشكل تهديداً مدمراً لقطاع الصناعة الأوروبية، خاصةً في مجال التكنولوجيا. وهذا «التوتر الصناعي» بين الجانبين يبدو حاداً على الجهة الأوروبية، بينما يمضي الأميركيون في مسارهم دون تهدئةٍ جادة لمخاوف حلفائهم على الضفة الأخرى من الأطلسي.
ما هو قانون خفض التضخم؟ 
في 17 أغسطس/آب 2022، وقّع بايدن على خطّته الضخمة للمناخ والصحة وأصدرها قانوناً نافذاً بقيمةٍ تزيد على 430 مليار دولار.
ويهدف القانون إلى محاربة تغير المناخ وخفض أسعار الأدوية التي تصرف بوصفة طبية وخفض انبعاث الغازات المحلية المسببة للاحتباس الحراري. كما سيساعد أيضاً على محاربة التضخم من خلال خفض العجز الاتحادي.
والنصّ، الذي يعرف باسم «قانون خفض التضخّم»، وصفه البيت الأبيض بأنّه أكبر التزامٍ بالحدّ من التغيّر المناخي في تاريخ الولايات المتحدة، وأنّه يحدث تغييراتٍ طال انتظارها على صعيد تسعير الأدوية، ويجعل النظام الضريبي أكثر إنصافاً مع فرض ضريبة جديدة بنسبة 15 في المئة كحدٍّ أدنى على كل شركةٍ تجني أرباحاً تتخطى مليار دولار أميركي.
يرصد القانون 370 مليار دولار للبيئة و64 مليار دولار للصحة، وسيتيح لنظام الضمان الصحّي «ميديكير» لأول مرة التفاوض مباشرةً على أسعار بعض الأدوية مع المختبرات للحصول على أسعارٍ أكثر تنافسيّة.
وللقانون أبعادٌ دولية «نبيلة» نظرياً. فعلى سبيل المثال، تمثل البلدان النامية أكثر من نصف الانبعاثات السنوية الضارة بالمناخ. وحتى إذا نفّذت الولايات المتحدة والدول المتقدمة الأخرى التعهدات التي التزمت بها بشأن خفض الانبعاثات، فإن العالم سيظل متأخراً عن أهداف المناخ العالمية. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن الدول النامية لا تستطيع الوصول إلى العديد من التقنيات اللازمة لإزالة الكربون. وبالتالي، سيجعل قانون خفض التضخم معظم هذه التقنيات – مثل المفاعلات النووية المقاومة للانصهار والهيدروجين النظيف – أرخص محلياً. ومن أجل ثني منحنى الانبعاثات العالمية، يقترح الخبير في شؤون المناخ والأستاذ في جامعة كولومبيا SAGATOM SAHA في مقال نشره في دورية «فورين أفيرز» على الولايات المتحدة الالتزام بتصدير هذه الابتكارات (وفق قانون مكافحة التضخم) لخفض تكلفة انتقال الدول النامية إلى الطاقة النظيفة.
تريد الولايات المتحدة تصحيح أخطائها السابقة في الاستثمار التقني والتي استفادت منها الشركات الأوروبية والصينية ودول صناعية نامية مثل الهند والبرازيل. على سبيل المثال، وحتى يمكن فهم الزاوية الأميركية بخصوص القانون، وقبل الانتقال إلى عرض المخاوف الأوروبية، فإن الولايات المتحدة كانت، تاريخياً، غير ناجحة في إنشاء أسواق محلية للابتكارات التكنولوجية التي تساعد في تمويلها، وفق تعبير الباحث SAGATOM SAHA. فالعديد من تقنيات الطاقة النظيفة التي ساعدت الولايات المتحدة في إنشائها، مثل الألواح الشمسية، تم تسويقها في نهاية المطاف من قبل الشركات الأجنبية المستفيدة من البحث والتطوير الممول من الولايات المتحدة. نتيجةً لذلك، صدّرت الصين إلى الولايات المتحدة نفس التقنيات التي أوجدتها المعرفة التقنية الأميركية.
لوهلة، تبدو الخطة الأميركية ذات أبعادٍ إيجابية عالمياً، خاصةً للدول النامية المحتاجة إلى الحصول على تقنياتٍ جاهزة بأسعار في المتناول. إلا أن جهود الدول الكبرى في مواكبة التحول نحو الطاقة النظيفة و«التقنيات الخضراء» ضمن تحولٍ شامل وتدريجي نحو مصادر ربحية جديدة ونظيفة بيئياً، تعيد في الوقت نفسه تشكيل خريطة الرأسمالية على أسسٍ جديدة. ووفق ما تظهره الخطة الأميركية الضخمة بخصوص خفض التضخم ومكافحة التغير المناخي عبر التحول إلى «الصناعة النظيفة»، فإن مصادر الإنتاج الرأسمالي في العالم تتعرض لانزياحاتٍ قسرية، وهنا تكمن مشكلة أوروبا مع الولايات المتحدة.
على سبيل المثال، استهدف مسؤولو ولاية أوهايو الأميركية شركاتٍ في ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا خلال  الأشهر الأربعة الماضية، بحسب ما أوردته صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية في تقريرٍ نشرته بتاريخ 24 يناير/كانون الثاني الماضي، مستشهدةً بتصريحٍ لمسؤولٍ اقتصادي أميركي.
وتخشى أوروبا أن يصب القانون برمته في صالح الشركات الأميركية بشكلٍ غير عادل. وعلى هذا الأساس، قاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حملةً أوروبية لوقف هذا الاستنزاف التكنولوجي المتوقع للصناعات الأوروبية.
في 22 من الشهر الماضي، حاول المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الفرنسي طي صفحة خلافاتهما، وأعلنا في باريس وحدة «المحرك الفرنسي-الألماني» ليصبح رائداً في إعادة تأسيس أوروبا.
وتحذر فرنسا من «تراجع التصنيع» ما لم يستجب الاتحاد الأوروبي بقوةٍ وبتمويلٍ كبير للخطة الأميركية الضخمة لدعم الطاقات المتجددة.
وخلال المؤتمر الصحفي المشترك، قال شولتس إنه يشارك ماكرون الأهداف الرامية للقيام بالاستثمارات اللازمة لتصبح أوروبا «قطباً عالمياً لتقنيات المستقبل» وأول طرف محايد مناخيًا في العالم. وفي 18 من الشهر الماضي، حذر المستشار الألماني، خلال كلمته في منتدى دافوس من أن السياسة الحمائية للولايات المتحدة «تعوق المنافسة والابتكار وتضر بحماية المناخ».
وقبل القمة الألمانية الفرنسية، كسب ماكرون إلى جانبه رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، في برشلونة، إذ دعا الزعيمان إلى ردٍ أوروبي استباقي على الإعانات في خطة المناخ التي قدمها بايدن.
وقال رئيس الحكومة الإسباني «نرحب بدخول الولايات المتحدة مرحلة التحول إلى الطاقة الخضراء، لكن علينا التوصل إلى اتفاق حتى لا يترجم هذا الالتزام بالتحول الى الطاقة الخضراء إلى تراجع التصنيع في أوروبا».
ويريد الرئيس الفرنسي أن يتخذ الاتحاد الأوروبي تحركاً بالحجم نفسه لمنع انتقال الشركات الأوروبية التي ستجتذبها المساعدات الأميركية.
لكن النهج الفرنسي الحاد في مواجهة الخلخلة الأميركية للاستقرار الرأسمالي المديد بين ضفتي الأطلسي يثير شكوك جهاتٍ أوروبية عديدة، إذ كتب المفوضون في الاتحاد الاوروبي فالديس دومبروفسكيس وفرانس تيمرمانس ومارغريته فيستاجر في مقالٍ افتتاحي بصحيفة «فاينانشال تايمز» في 26 من الشهر الماضي، إن من شأن رد فعل «الشيء بالشيء» بالنسبة لقانون المناخ وخفض التضخم الأميركي أن يتسبب في إلحاق ضررٍ ذاتي اقتصادي كبير بالاتحاد الأوروبي، على الرغم من إقرار المفوضين أن القانون الأميركي «يحث على إعادة نقل الصناعة إلى الولايات المتحدة، ما يحتمل أن يضع القاعدة الصناعية للاتحاد الأوروبي الخاصة بالتقنيات النظيفة في وضعٍ غير مواتٍ للمنافسة».

صدامٌ على أسسٍ رأسمالية

الصدام بين جناحي الرأسمالية التاريخية: الولايات المتحدة وأوروبا، بلغ نقطة اللاعودة. لكنه صدامٌ على أسسٍ رأسمالية أيضاً عبر – وهنا المفارقة – التقليل من جوهر الرأسمالية نفسها، وهي الأسواق الحرة و نبذ النزعة الحمائية للمنتجات الوطنية، إذ كشف الاتحاد الأوروبي في الأول من فبراير/شباط الجاري النقاب عن خارطة طريق لكيفية تخطيطه للحفاظ على تنافسية صناعاته، مع محاولة التكتل اللحاق بالولايات المتحدة والصين اللتين تقدمان إعاناتٍ ضخمة للتكنولوجيات الخضراء المحلية. وإذا ما وضعنا النموذج الرأسمالي الفكري في قوالب التطور الرأسمالي نفسه، فإن الحمائية المتبادلة بين الولايات المتحدة وأوروبا، حالياً، تستند إلى ذخيرة «الدولة الأمة» في الاقتصاد الوطني، وإنْ كان على مستوى قاري أوسع، من حيث المفهوم، بالنسبة إلى أوروبا.

وطبقاً لاقتراحٍ على الطاولة، فإن المفوضية الأوروبية ترغب في استخدام خطتها الصناعية للاتفاق الأخضر لتعزيز الدعم الوطني للشركات من خلال المعونات الاستثمارية والائتمانات الضريبية، مع الاستفادة أيضاً من الصناديق الأوروبية المشتركة لضمان مشروعاتٍ مهمة تتضمن قطاعاتٍ مثل الهيدروجين والحوسبة الكمية، طبقا لما ذكرته وكالة «بلومبرغ» للأنباء.
والخطة، التي سيناقشها زعماء دول الاتحاد الأوروبي الـ27، هي بمثابة ردٍ على قانون تقليص التضخم، وتتضمن حوالى 500 مليار يورو في صورة إنفاقٍ جديد وإعفاءاتٍ ضريبية على مدى عقدٍ من الزمن.
ولاقت خطة المفوضية ردوداً متباينة في التكتل الأوروبي، إذ يخشى البعض من أن الدعم سيساعد فقط الدول الغنية، مثل ألمانيا، التي لديها قدرة مالية على الاستثمار في الشركات المحلية.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في بيان: «لدينا فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة في الجيل، لتأمين الريادة الصناعية للاتحاد الأوروبي».
يبعث هذا التنافس الشرس بين جانبي الأطلسي على التفاؤل بالنسبة إلى منظري الاقتصاد الجديد صديق البيئة. وفي هذا الإطار، يقول مدير وكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول في تصريحٍ صحافي إن قانون المناخ الأميركي سيحفّز موجةً من تطوير الطاقة النظيفة والتكنولوجيا الجديدة لتقييد انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، وتكثيف الضغط على أوروبا للمضي قدما في هذا الاتجاه.
وأضاف في احتفاليةٍ استضافها مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك: «نحن ندخل عصراً صناعياً جديداً – عصر تصنيع تكنولوجيا الطاقة النظيفة».
لكن، من هو قائد هذا العصر الجديد حتى الآن؟ 
هنا، تختفي أوروبا من الصورة. هي قوية لكنها ليست في المقدمة. يقول بيرول: «الصين هي الآن، إلى حد بعيد، القائد في سباق التصنيع هذا. على الرغم من ذلك، فإن الولايات المتحدة تريد التنافس عبر قانون خفض التضخم».

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد