واشنطن وأنقرة.. ملفات خلافية تتراكم وتقلل احتمال غزو تركي

المركز الكردي للدراسات

أصبحت العلاقات التركية-الأميركية أكثر توتراً من أي وقت مضى. وبرز هذا التوتر بشكلٍ واضح في لقاء وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ونظيره الأميركي أنطوني بلينكين لأول مرة في العاصمة واشنطن. وعلى الرغم من حرص الطرفين على عدم إبراز الخلافات العميقة في العلاقات بينهما، إلا أن البيان الختامي الباهت الذي افتقر لقراراتٍ ونتائج واضحة يؤكد على أن أمام «الآلية الاستراتيجية التركية-الأميركية» مسارٌ طويل لقطعه من أجل عودة الثقة بين الطرفين.
من المعروف أنه منذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض منذ عامين، يتجنّب كبار رموز الإدارة الأميركية الاجتماع مع نظرائهم الأتراك في واشنطن أو أنقرة، وهو ما يشرح حماس جاويش أوغلو في التوجّه إلى واشنطن كأول سياسيٍ تركي يزور العاصمة الأميركية في عهد بايدن. لكن المتابعين لنتائج الاجتماع وسياسة البلدين، يؤكدون على عودة جاويش أغلو من الاجتماع خالي الوفاض بنسبةٍ كبيرة.

العلاقات التركية-الأميركية الراهنة

تضمّن جدول أعمال لقاء الوزيرين نقاشاتٍ في ملفّاتٍ بالغة الصعوبة. فأُسس التحالف بين الجانبين تراجعت إلى أدنى حد، فيما وصل انعدام الثقة بينهما إلى مستويات غير مسبوقة، كما تشوب وجهات نظر الطرفين بشأن كيفية إعادة العلاقات إلى مسارها خلافاتٍ خطيرة. لذلك، لم يكن من الممكن توقّع نتائج كبيرة من اجتماع جاويش أوغلو-بلينكين سوى التصريحات البروتوكولية والصورة الجماعية السابقة.
يمكن اختصار أبرز الخلافات السياسية بين أنقرة وواشنطن بأنها ناتجة عن:

– اقتناء تركيا منظومة إس-400 للدفاع الجوي، روسية الصنع.

– دعم واشنطن حلفائها في قوات سوريا الديمقراطية.

– توترات ثنائية نتيجة مواقف واشنطن الأخيرة الداعمة لليونان وقبرص في شرق المتوسط.

وعلى الرغم من ذلك، شهدت العلاقات تحسّناً جزئياً في الآونة الأخيرة حين برزت تركيا كلاعبٍ إقليمي مهم خلال الحرب الروسية-الأوكرانية، وهو الدافع الأساسي لموافقة بايدن على بيع الأسلحة الأميركية لأنقرة.
ترى الصحافية التركية المتمرّسة في السياسة الخارجية بارجينج ينانج أنه منذ تولّي بايدن الحكم باتت إدارته حريصة على إرسال رسائل إلى أنقرة مفادها بأن تركيا لم تعد تتمتع بتلك الأهمية الاستراتيجية بالنسبة لواشنطن كما كانت سابقاً.
وتستدل ينيناج على ذلك من تراجع الاتصالات على المستوى الرفيع بشكلٍ كبير جداً. ذلك أن لقاء بلينكين ونظيره التركي العام الماضي في نيويورك بدلاً من واشنطن يعد مؤشراً على تلك البرودة. وواصل الجانب التركي الضغط من أجل استمرار الاتصالات والحصول على لقاءاتٍ، وإن على المستوى الوزاري، من أجل التأكيد على قدرة أنقرة في إدارة العلاقات المتدهورة وتصحيحها.
يسعى الرئيس التركي المثقل بالأزمة الاقتصادية ومخاطر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية إلى تصويب العلاقات مع واشنطن والظهور أمام الرأي العام التركي كزعيمٍ مرغوب من قبل الشرق والغرب على حدٍ سواء. وقال الناطق بإسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين إن بلاده «تأمل في إقامة علاقة متساوية وشفافة مع الولايات المتحدة»، في إشارةٍ إلى إمكانية إيجاد أجندةٍ مشتركة وتعاون مع واشنطن.
حرص بايدن على الاحتفاظ بمسافةٍ مناسبة من تركيا. فهو لم يزر تركيا مطلقاً، كما أنّه لم يستقبل نظيره التركي في البيت الأبيض، ما يمثّل سابقة في تاريخ العلاقات التركية – الأميركية. وأكثر من ذلك، جاء الاتصال الأول بين الجانبين بعد أشهر من وصول بايدن إلى البيت الأبيض، حينما هاتف أردوغان مُعلِماً إياه بقراره الاعتراف بالإبادة الجماعية الأرمنية، التي تعد من أكثر الملفات إثارةً لحساسية أنقرة.
لكن في الوقت ذاته، لم تنسَ واشنطن أهمّية تركيا الاستراتيجية التي تنامت بشكلٍ كبير مع اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية. فوجد الرئيس الأميركي، الذي لطالما انتقد نظيره التركي خلال حملته الانتخابية بسبب «ديكتاتوريّته في الداخل وسياساته العدائية في الخارج»، نفسه مضطراً إلى الحفاظ على الحد الأدنى من وحدة الصف الأطلسي في أكبر اختبارٍ للحلف منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
لكن يبدو أن الرئيس الأميركي، الذي يولي اهتماماً أكبر لانطباعاته ومشاعره، لا يكنّ لأردوغان المودّة. وبالتالي، لن يقدم على خطواتٍ تصب في مصلحته خلال الانتخابات المقبلة، مع التركيز على وجود قرارٍ أميركي بالوقوف على الحياد فيما يخص الانتخابات التركية وعدم التدخل لا إيجاباً لصالح أردوغان ولا سلباً ضده.
تسعى الولايات المتحدة، التي تحاول الحؤول دون انفصال تركيا التام عن الغرب، إلى المحافظة على علاقاتٍ قائمة على تفاهمٍ إداري مصلحي، خاصة أن تركيا حازت تقدير المجتمع الدولي من خلال تبني سياسة الحياد بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في البداية، لكنها لم تستطع الحفاظ على المواقف المتوازنة التي أظهرتها في الأشهر الأولى من الأزمة. إذ أدى سعي أردوغان وراء المكاسب الأيديولوجية إلى خساراتٍ كبيرة في السياسة الداخلية، ما نتج عنه دخول البلاد في أزمةٍ اقتصادية حادة بسبب السياسات الخاطئة، وأجبره على التقرّب من روسيا، وتبنّي خطاب مناهض للغرب.

أولاً- صفقة مقاتلات إف-16 وانضمام السويد وفنلندا إلى «الناتو»

قبيل زيارة جاويش أوغلو، اتّبعت أنقرة تكتيكاً قائماً على إبراز مسألة بيع مقاتلات إف-16 لتركيا من قبل الولايات المتحدة في طليعة جدول الأعمال، ما سمح لها بتغطية القضايا الخلافية الكبيرة بين الجانبين.
وفي ظل أجواء الانتخابات السائدة في تركيا، اختارت أنقرة، التي حاولت تحويل زيارة وزيرة خارجيتها إلى فرصة بالنسبة لملف إف-16، عدم إظهار أي رد فعلٍ على تزويد واشنطن اليونان بمقاتلات إف-35 الأحدث، كاسرةً بذلك التوازن القائم بين الجارتين اللدودتين في بحر إيجه.
صحيح أن أنقرة أعلنت عدم إمكانية التزامها بالعقوبات الأميركية أحادية الجانب المفروضة على روسيا، لكنّها في الوقت ذاته لم تنس انتقاد موسكو في العديد من الملفات، وعلى رأسها الحرب الأوكرانية في محاولةٍ لمسك العصا من المنتصف. في المقابل، امتنعت عن الإدلاء بتصريحاتٍ قوية بشأن دعم الولايات المتحدة وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية في سوريا. كما تجنّب الجانبان الحديث عن مصير صواريخ إس-400 القابعة في المستودعات التركية حتى الآن.
وبعد استبعاد تركيا من برنامج إنتاج مقاتلات إف-35 الحديثة، لم تتخذ الأخيرة زمام المبادرة تلقائياً لجهة شراء طائرات إف-16 جديدة، بل تحرّكت بناءً على رسائل أميركية أشارت إلى أن «إدارة بايدن ستنظر بإيجابية في حال ورود طلب من تركيا لشراء مقاتلات إف-16»، لتتقدم أنقرة بطلب شراء 40 مقاتلة من طراز «إف-16 بلوك»، وقطع لتحديث 80 مقاتلة من نوع إف-16 التقليدية.
ساهمت أنقرة في برنامج إنتاج إف-35 بقيمة 1.4 مليار دولار قبل أن يتم استبعادها، بالإضافة إلى قيامها بدفع ثمن طائرتين من نوع إف-35. ويبدو الاقتراح الأميركي محاولةً لحرمان أنقرة من اللعب على «المظالم المالية لتركيا» واتّهام الولايات المتحدة والغرب في محاولةٍ لتبرير تقاربها مع موسكو.
أضْفَت التصريحات بخصوص نظرة الإدارة الأميركية الإيجابية لصفقة البيع جواً من التفاؤل الحذر. كما خلق هجوم روسيا على أوكرانيا فرصةً سانحة، لا سيما فيما يتعلق بضبط المزاج المعادي لتركيا في الكونغرس الأميركي. فإغلاق تركيا مضيق البوسفور في وقت مبكّر جداً، وبروز مسيّرات «بيرقدار» في الأيام الأولى من الحرب لصالح أوكرانيا، وتأييد أنقرة لكييف، ووساطتها في عملية إخراج الحبوب الأوكرانية، وغيرها من الأسباب، ساهمت في تخفيف الانتقادات الأميركية للرئيس التركي. إذ غابت التصريحات التي تتحدّث عن الحريات في تركيا، كما لم يتم التركيز على مسألة صواريخ إس-400، وتراجعت الاتّهامات بشأن تسهيل تركيا لحركة مرور الجهاديين إلى سوريا.
في المقابل، استفاد التيار المناهض لتركيا في الكونغرس من خطوات أنقرة التي سهّلت من عملية إراحة روسيا اقتصادياً عبر تشكيل جسر تواصلٍ لموسكو مع العالم الخارجي، ومنع توسّع حلف الناتو من خلال رفض انضمام السويد وفنلندا للحلف. وبالتالي، واصل ضغوطاته وانتقاداته لأنقرة.
يحتاج بايدن اليوم إلى بذل جهودٍ مضاعفة من أجل إقناع المتشددين في الكونغرس المعارضين للصفقة وإقناعهم بضرورة إتمامها. كان السناتور الديمقراطي ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ روبرت مينينديز شدد مراراً وتكراراً على رفضه إتمام تلك الصفقة.
لذا، جاءت زيارة جاويش أوغلو إلى واشنطن لحضّ إدارة بايدن على محاولة إقناع الكونغرس بإتمام صفقة شراء إف-16 البالغة قيمتها 20 مليار دولار، خاصةً أن أنقرة تعتبر الصفقة مهمة للغاية لصورة حكومتها المتأهبة لخوض السباق الانتخابي، بالإضافة إلى مخاوفها الجادة من اختلال توازن القوى مع جارتها اليونان.
وليس الكونغرس وحده من استفاد من تعارض التكتيكات التركية مع حلف الناتو. إذ تحرّك رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس بسرعةٍ نحو الولايات المتحدة طالباً من الكونغرس رفض إتمام صفقة بيع إف-35 إلى تركيا، مقابل بيعها لبلاده، الأمر الذي دفع الرئيس التركي لتهديد اليونان «بغزوها على حين غرة».
إذاً، لا يحتاج معارضو تركيا الكثير من الجهد من أجل إقناع الكونغرس بعدم الموافقة على صفقة تزويد أنقرة بمقاتلات إف-16. إذ يكفي إرسال بريدٍ إلكتروني إلى أعضاء الكونغرس يتضمن نوبات غضب أردوغان المعادية للغرب اليومية، والتصريحات الصادرة عن وزير داخليّته سليمان صويلو.
وعلى الرغم من تأكيد الوزيرين عدم وجود رابطٍ بين الملفّين، إلا أن المصادر التركية تؤكد أن بلينكن أبلغ نظيره التركي أن «الكونغرس سينظر بإيجابيةٍ أكثر إلى الصفقة في حال موافقة تركيا على انضمام الدولتين الى الحلف».
في حوارٍ مع «النهار العربي»، تؤكد مديرة برنامج تركيا في معهد الشرق الأوسط في الولايات المتحدة غونول تول، نقلاً عن مصادر في الخارجية الأميركية «عدم وجود تأكيدٍ أميركي لصفقة البيع حتى وإن وافقت تركيا على انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو»، مضيفةً أنه «بحسب المصادر، حتى إذا قبلت تركيا غداً الانضمام فإن من غير الممكن أن تنجح في الحصول على موافقة الكونغرس على صفقة الطائرات قبل الانتخابات» المعلنة في 14 من مايو/أيار المقبل.
وتكشف تول بناء على المعلومات التي حصلت عليها من مصادر في الكونغرس والخارجية أنه «على الرغم من موافقة إدارة بايدن على صفقة البيع، إلا أنها لم تتقدم بطلبٍ رسمي إلى الكونغرس للموافقة على الصفقة، كما أنها لم تجرِ أي حوارٍ مع الأعضاء الرافضين للصفقة، وأنها تنتظر موافقة تركيا على انضمام الدولتين إلى الناتو من أجل الشروع في حوارٍ جدي بهدف إقناع المشرّعين الرافضين القبول بصفقة البيع».
وتشير تول إلى «مسارٍ طويل تحتاج الصفقة إلى قطعه في أروقة الكونغرس قبل إتمام عملية الموافقة، التي تبدو صعبة للغاية في ظل معارضة شخصيات وازنة مثل مينينديز من الديموقراطيين وآخرين من الجمهوريين لعملية البيع».
وتضيف: «مينينديز مثلاً يضع حزمة من الشروط من أجل الموافقة على صفقة البيع، تضم إلى جانب الموافقة على انضمام الدولتين الاسكندينافيتين إلى الناتو، مواضيع متعلّقة بالحريات وحقوق الإنسان وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين في السجون التركية، والتعهّد بعدم غزو سوريا، وعدم استخدام هذه الطائرات ضد اليونان، والعلاقة مع روسيا وموضوع نظام الدفاع الجوي التركي، وغيرها».
في المقابل، تعتقد تول بأن «تركيا ستوافق في النهاية على انضمام الدولتين الاسكندنافيتين إلى الناتو، لكن الرئيس التركي سيحاول تأجيل هذه الموافقة إلى ما بعد الانتخابات، مراعاةً لصورته في الداخل التركي وخشية من رد فعل موسكو، التي تسانده في سباقه الانتخابي اقتصادياً».

ثانياً- التطبيع مع دمشق والحرب على «قسد»

لم تعد سوريا أولوية بالنسبة إلى الولايات المتّحدة، التي تركّز جل اهتمامها اليوم على الحرب الأوكرانية، فيما يبدو اهتمام واشنطن بالشرق الأوسط وبسوريا بشكل خاص دون المراتب الأولى، بعد أوكرانيا وبكين والداخل الأميركي.
في المقابل، لا تزال سوريا أولى أولويات تركيا وأحد أبرز محددات مآل سياساتها الاقليمية بالإضافة إلى الورقة الانتخابية الرئيسية لكل من الموالاة والمعارضة على حد سواء. وخلافاً لواشنطن، فإن أنقرة لم تعد مهتمة بمطالبة الأسد «بإصلاح نظامه» على غرار واشنطن. لقد باتت أولوية أنقرة في سوريا اليوم محاربة وحدات حماية الشعب وإعادة اللاجئين السوريين. هذه هي القضايا التي يمكن أن تعمل أنقرة ودمشق بشأنها والتي قد تودي إلى منفعةٍ متبادلة أو على الأقل تسهم في التقليل من احتمالية الصراع عبر تجنّب الاحتكاك غير الضروري.
يعتبر اجتماع 28 ديسمبر/كانون الأول بين وزراء دفاع كل من تركيا وسوريا وروسيا الخطوة الأولى في عمليةٍ طويلة وشاقة. في الصيف، بدأت الاستخبارات التركية والسورية بالتخطيط لمواصلة الاتصالات الثنائية. في بداية الشتاء، بعد تفجير شارع الاستقلال في اسطنبول، رفعت أنقرة من حدة خطابها الداخلي. وبالتالي، بات من المهم الحصول على رواياتٍ وإنجازات يتم إخبارها للناخب التركي المستاء من الحالة الاقتصادية والمعيشية المتردية في البلاد، وهو ما يعتبر سبباً آخر للحماس التركي لعقد اجتماع وزراء الدفاع.
ومنذ ذلك الحين، يناقش المسؤولون الأتراك والسوريون موعد ومكان اجتماع وزراء الخارجية قبل القمة الرئاسية. لكن، لا تزال كل من دمشق وأنقرة تحاولان إدارة مسار التطبيع الطويل وفقاً لأجندتهما الخاصة، بعيداً عن جدول عملٍ مشترك أو خريطة طريقٍ واضحة.
من الواضح أن الجانب التركي يريد عقد القمة بسرعةٍ لتحقيق مكاسب انتخابية، فيما تبدو دمشق، المدركة لهذه الحقيقة، حريصةً على استغلال الظرف الانتخابي وحاجة أردوغان الملحّة إلى تحقيق إنجازٍ على المسار السوري من أجل الحصول على أكبر قدرٍ ممكن من التنازلات. بمعنى آخر، تمنح رغبة أردوغان بعقد القمة قبل الانتخابات الأسد قوة تأثيرٍ وضغط من خلال تأخير انعقاد هذه القمة.
وفي مقابل الرغبة الروسية بإنجاز التطبيع، فإن الجانب الأميركي لا يبدو متشدداً في موقفه الرافض لتطبيع الدول، المجاورة منها بشكلٍ خاص، مع دمشق. وفي هذا السياق، يقول السفير التركي الأسبق في واشنطن نامق تان في حديثٍ إلى «النهار العربي»: «لا شك في أن الجانب الأميركي طرح هذه القضية (تطبيع أنقرة مع دمشق) على جدول الأعمال»، مشيراً إلى أن الأهم ليس الطرح، الذي يُعتبر حتمياً، وإنما أسلوبه، أي بمعنى «بأي جُملٍ وأي طريقةٍ عبّر الجانب الأميركي عن معارضته التطبيع».
وعلى الرغم من تكرار الولايات المتحدة موقفها الرافض للتطبيع مع دمشق، إلا أن التكهّنات بكون هذا الرفض تكتيكياً لخدمة أهدافٍ تفاوضية تتزايد مع مبادرات التطبيع أو فتح قنوات الاتصال الدبلوماسي مع دمشق من قبل حلفاء واشنطن في المنطقة وخارجها.
وتبدو الخشية الأميركية من التطبيع التركي في الدرجة الأولى من أن يؤدي ذلك إلى تحفيز العديد من الدول الغربية، بما فيها المنضوي تحت مظلة حلف الناتو، للتحدث إلى دمشق مرة أخرى، ما يجعل من المحاولات الأميركية لحصار الأسد والضغط عليه أكثر صعوبة.
وبالمثل، فإن الاختلاف الأميركي-التركي في الملف السوري ينعكس على الموقف من الإدارة الذاتية وقواتها العسكرية المتمثلة بقوات سوريا الديمقراطية أيضاً.
وبالأمس، جدد كالين تهديداته للإدارة الذاتية قائلاً إن «الضغط الروسي من أجل السلام لا يعني تخلّي تركيا عن خيار إطلاق حملة (عسكرية) جديدة (في شمال سوريا)»، مضيفاً أنه «من الممكن القيام بعملية برية في أي وقت اعتماداً على مستوى التهديدات التي نتلقاها». وجاءت تصريحات كالين بعد يومين من إعلان الأسد أن المحادثات المستقبلية مع أنقرة يجب أن تهدف إلى «إنهاء الاحتلال» من قبل تركيا لأجزاء من سوريا.
لكن هذه التهديدات لا تزال تقابل بالرفض من الجانب الأميركي الذي بات يستعمل لغةً أكثر حدية من أجل إبراز موقفه المعارض لأي تحركٍ عسكري تركي في شمال سوريا.
وفي نهاية العام الماضي، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية بشكلٍ واضح رفضها أي عمليةٍ عسكرية تركية تستهدف وحدات حماية الشعب في لهجةٍ أكثر صرامة من الخارجية الأميركية التي أعربت عن قلقها من التقارير التي تتحدث عن نية تركيا الإقدام على عمليةٍ عسكرية جديدة. وتكشف تول لـ«النهار العربي» عن «معارضة القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM)، وهي الوحدة العسكرية الأميركية الشريكة لقوات سوريا الديموقراطية، بشدة للعملية العسكرية التركية، مقابل موقف أكثر مرونة من القيادات العسكرية الأخرى داخل البنتاغون كما هو الحال بالنسبة للقيادة العسكرية الأميركية في أوروبا (EUCOM) مثلاً، المعنية بمناطق أوروبا وروسيا وإسرائيل والشراكة مع حلف الناتو. وموقف هذا الجناح، نابعٌ من مصالحه المفروضة عليه بحكم مهامه. لكن حتى الآن، فإن موقف جناح القيادة المركزية الأميركية هو الطاغي على قرار البنتاغون».
وإلى جانب الرفض الأميركي، يرى الباحث في شؤون الشرق الأوسط آرون لوند من مركز «سينتشري إنترناشيونال» في نيويورك أن »العمل العسكري التركي أحادي الجانب ضد وحدات حماية الشعب أصبح أقل احتمالاً. لكن لدى أنقرة خيارات عسكرية وغير عسكرية أخرى ضد وحدات حماية الشعب، منها التعاون مع دمشق على سبيل المثال»، مستبعداً إمكان دخول أنقرة في مواجهة مباشرة مع واشنطن في هذا الصدد.
من الواضح أن الموقف الأميركي الرافض للعملية العسكرية التركية، كان وراء تفادي كلا الطرفين إثارة الملف خلال اجتماع وزراء الخارجية في واشنطن قبل أيام.
وما يزيد من تكهّنات استبعاد عملية عسكرية تركية في سوريا خلال الأشهر المقبلة، تفادي أردوغان، الراغب في إتمام صفقة مقاتلات إف-16، إثارة أي رد فعلٍ أميركي على أبواب الانتخابات، خشية أن تؤدي بعض التهديدات الأميركية المحتملة وفرضها عقوباتٍ اقتصادية أو سياسية بحق أنقرة إلى تخويف الناخب التركي وتغيير مزاجه، ما يعني إقصائه ليس فقط عن الرئاسة التركية، بل أيضاً من الحياة السياسية التركية بشكل عام.
ويبقى احتمال تحرّكٍ عسكري تركي محدود ضد قوات سوريا الديمقراطية خارج مناطق نفوذ واشنطن في شمال سوريا قائماً، مع احتمالية أن تكون كوباني الهدف التالي لرمزيّتها بالنسبة إلى الكرد من جهة ووقوعها على الحدود التركية السورية مباشرةً، وبالتالي سهولة دعم المعركة تركيّاً وتأمين الإمداد اللوجستي والعسكري لها.

خلاصة

لا تزال واشنطن غير راضيةٍ عن تطبيع الدول الإقليمية وحتى الغربية مع دمشق، لكنّها لا تجد نفسها ملزمة بإثارة التوتّرات مع حلفائها في المنطقة تنفيذاً لرؤيتها حيال النظام السوري المأزوم سياسياً واقتصادياً. وبالتالي، من المتوقع أن تشهد الفترة القادمة انضمام تركيا إلى الإمارات ومن بعدها دولاً خليجية وإقليمية أخرى على مسار التطبيع.
ومع التسليم في خلق الحرب الأوكرانية فرصاً سانحة لأنقرة لتعود إلى ممارسة دورها وثقلها الإقليميين، إلا أن غياب القواسم المشتركة بين تركيا وحلفائها الغربيين ينذر بمعاودة تصاعد التوترات بعد انتهاء الحرب أو التوصل إلى اتفاقٍ للسلام بين الطرفين الروسي والأوكراني.
من المحتمل أن توافق أنقرة في النهاية على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، مع سعي أردوغان لتأجيل هذه الموافقة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية.
يستحيل حصول أنقرة على دفعة من صفقة مقاتلات إف 16 قبل موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية. كما أنه من المستبعد نجاح إدارة بايدن في الحصول على موافقة الكونغرس على الصفقة قبل الانتخابات التركية.
لا يحتاج معارضو تركيا إلى بذل الكثير من الجهد من أجل اقناع الكونغرس على عدم الموافقة على صفقة تزويد أنقرة بمقاتلات اف-16، إذ يكفي إرسال بريدٍ إلكتروني إلى أعضاء الكونغرس يتضمن نوبات غضب أردوغان المعادية للغرب اليومية، والتصريحات الصادرة عن وزير داخليّته سليمان صويلو.
تبدو اليونان، التي تحظى بدعمٍ كبير من جاليات الروم واليونان والقبارصة والأرمن في تركيا، أكثر المعارضين لخطوة تزويد أنقرة بالمقاتلات الأميركية. وبالتالي قد يكون من المفيد التواصل مع الحكومة اليونانية من جهةٍ ومجموعات الضغط اليونانية-الأرمنية في الولايات المتحدة لمخاطبة الكونغرس بحزمةٍ تتضمن مخاوف كافة الأطراف من تركيا والمطالب التي تضمن أمن وسلامة هذه الأطراف قبل حصول أنقرة على ورقة المقاتلات الحربية.
تبدو المؤسسة العسكرية الأميركية، إلى جانب تيارٍ وازن في الكونغرس، أكبر المعارضين للعملية العسكرية التركية ضد قوات سوريا الديمقراطية. وتبرز القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM) كتيارٍ أكثر تشدداً مقارنةً بالمواقف المرنة للقيادات العسكرية الأخرى داخل وزارة الدفاع الأميركية، كما هو الحال بالنسبة إلى القيادة العسكرية الأميركية في أوروبا (EUCOM) مثلاً.
من المستبعد انخراط الأسد في عملية تطبيعٍ سريعة وحاسمة قبل الانتخابات التركية على الرغم من الضغوط الروسية، وفي ظل تكهّناتٍ بمحاولة دمشق إطالة أمد المفاوضات إلى حين اقتراب موعد الانتخابات، وبالتالي زيادة الضغوط على الرئيس التركي المستعجل لعقد قمة رئاسية مع الأسد قبل ذلك الموعد. يمنح حماس الرئيس التركي الأسد المزيد من أوراق القوة وأدوات الضغط من أجل الحصول على تنازلاتٍ أكبر من الرئيس التركي الأقوى ميدانياً لكن الأضعف سياسياً مقابل دمشق خلال فترة الحملات الانتخابية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد