بشار عبود
لم ينقض يومٌ واحد على دعوة الولايات المتحدة جميع دول العالم إلى عدم تطبيع علاقاتها مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد واصفة إياه بـ«الديكتاتور الوحشي» حتى جاء الرّد سريعاً وحاسماً من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان معلناً إمكانية لقاءٍ مع الرئيس السوري والبدء رسمياً في عملية ثلاثية روسية، تركية، سورية تفضي إلى هذا الاجتماع المرتقب. اللافت في الأمر أن من يتريّث في الزحف نحو هذا التقارب هو نظام الأسد نفسه على الرغم من أن مثل هذه المصالحة، لو تمت، ستترك فوائد سياسيةٍ واقتصادية جمّى لسلطته المُترهّلة. يعلّل المراقبون هذا التباطؤ في أن نظام الأسد لا يرغب في منح الرئيس التركي هديةً مجّانية له قبيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة في يونيو/حزيران 2023.
القرار الأميركي ضد نظام الأسد والردّ التركي عليه، يضع المعارضة السورية أمام مرحلة مفصلية، إن لم تستفد منها في إعادة تأهيل نفسها، فربّما لن ُتتاح لها مثل هذه الفرصة مرة أخرى. فالاستدارة التركية باتجاه النظام السوري، والتي تنطوي على تحدٍّ صارخ لقرار الإدارة الأميركية، ستعيد إنتاج ليس الأسد بوصفه رئيساً لسوريا فقط وإنما ستسمح، لو تمّت، بإعادة إنتاج النظام الشمولي الذي ميّز سوريا على مدى أكثر من نصف قرن. هذا النظام الذي اعتمد على منظورٍ أحادي إقصائي لشرائح واسعة من المكونات السورية وما اقتضاه ذلك من سلوكٍ عنفي تجاهها.
بالمقابل، لو تمت موافقة المجتمع الدولي على إعادة تأهيل النظام السوري عبر البوابة التركية، ستكون بمثابة الإعلان القطعي لنهاية عقدٍ دموي سوري لم يُثمِر عن تأسيس وطنٍ ديمقراطي ودولة علمانية مدنية تمنح الحقوق المشروعة لجميع المكونات السورية، ولم يرسّخ لثقافةٍ مجتمعية جديدة قائمة على المساواة والعدالة تمنح مكونات الشعب السوري فرصة ممارسة خصوصيتهم والتعبير بلغتهم بحرية ضمن إطار الوطن الواحد، فضلاً عن أن مثل إعادة تدوير هذا النظام سيساهم في كسر وتحطيم أي أمل لشعوب أخرى انتفضت ضد أنظمة مشابهة له، من أجل نيل حريتها وكرامتها.
لقد خضعت سوريا منذ نهاية الخمسينيات لنظام توتاليتاري عززه لاحقاً وصول حزب البعث إلى السلطة، ورسّخه فيما بعد نظام الأسد بشقيه الأب والابن، إذ لم يؤدّ حضور هذا النظام في الحياة السياسية السورية سوى إلى تعطيل الفكر وتجميد بناء الدولة السورية لصالح بناء السلطة فيها. وظنّ نظام الأسد أنه ببناء سلطةٍ قوية، على حساب الوطن والدولة، سيتمكن من امتصاص جميع التحدّيات التي سيواجهها، داخلياً، إقليمياً ودولياً، لا سيما أنه اشتغل بمنهجية دقيقة وحرفية عالية على تصدير نفسه بأنه الوحيد القادر على تطويع أية مشكلة وتحويلها لصالحه في ظل عدم وجود من ينافسه، معتمداً في ذلك على إمساكه البلد بيدٍ من حديد عبر زرع الخوف في صفوف السوريين. وهذا ما أدى لاحقاً، على الرغم من النضالات الفردية، إلى غياب نخبٍ سياسية أو ثقافية جماعية لها تأثير في الواقع السوري. فالمعارضة السورية، بحسب تعبير نائب الرئيس السوري فاروق الشرع عام 2012 «ليست قادرة على قيادة أكثر من مدرسة ابتدائية».
لا بد من الاعتراف بأن نظام الأسد استطاع على امتداد أكثر من نصف قرن تفادي عددٍ كبير من الهزّات التي ألمّت به، بدءاً من أحداث حماه عام 1982 وما تبعها لاحقاً من محاولة انقلاب رفعت الأسد على أخيه المريض حينها، مروراً بحرب الخليج وصولاً إلى مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. فمن استطاع أن ينجو بسلطته من كل هذه المطبات، ظلّ مصرّاً على الاعتقاد بأنه سينجو من غيرها ولو كانت هذه المرّة بحجم ثورة 2011.
لم يتوقّع نظام الأسد أن يدق الربيع العربي أسوار سوريا العالية ولا حتى الاقتراب من نوافذها. فآلة الرعب الرهيبة التي زرعتها أجهزته الأمنية في كل تفاصيل الحياة السورية كفيلةٌ بمنع أي ربيعٍ أن يقترب من سوريا الأسد. لكن حدث ما لم تشتهيه أمانيه واندلعت ثورة 2011، فكان لا بد من مواجهتها. وطالما أنه لا إمكانية لسلطة مستبدة أن تقيم حواراً ديمقراطياً مع شعبها، قرر نظام الأسد، لكونه مستبداً، خوض الصراع حتى نهايته. وهو المسار الذي رسمه رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد آنذاك بالقول: «سنخوض الصراع إلى نهايته». وكانوا أوفياء لهذا الوعد.
لقد اتكأ الأسد في صمود سلطته على عوامل كثيرة منها الوقت، وهو الذي تعلّم كيف يستثمره بحدّه الأقصى، وأيضاً فهمه للعبة مصالح الدول المعنية بالملف السوري وإدراكه سياسات تلك الدول وتوازناتها داخليّاً وإقليميّاً، وحدود صبرها ومدى قوتها وتأثيرها وأيضاً مستوى قدرتها على تحمّل الضغوط المفروضة عليها. فها هو يصل إلى اللحظة التي يُعرب فيها الرئيس التركي بنفسه عن أمله في استثمار التقارب مع نظام الأسد من أجل ترميم البيت الداخلي التركي!
التكويعة الأردوغانية الأخيرة درسٌ لجميع السوريين بامتياز، وبالدرجة الأولى للمعارضات السورية على اختلاف توجهاتها. وهو درسٌ حريّ بها أن تتعلم منه أكثر من كل الدروس التي مرت بها خلال العقد الأخير. وأول ما عليها القيام به اعترافها جدياً بفشلها الاستراتيجي وفهمها الخاطئ للسياسات الدولية والإقليمية التي تتصارع على الجغرافيا السورية. كما عليها الاعتراف بأن الارتهان للخارج والارتماء بحضن الآخرين ستكون نهايته موجعة. عليها الإقرار بقصر نظرها لاستيعاب أن التصريحات الدبلوماسية لمسؤولي القوى الدولية والإقليمية لا يمكن التعويل عليها في بناء وطن.
وإن خطت المعارضات السورية في مسيرة الاعتراف بالفشل تلك، فإنه عليها أن تدرك أن هذا الاعتراف ينطوي عليه خطوات لاحقة يجب أن تبدأ في تغيير السلوك. وعليه، آن الأوان للتفكير جدياً بإيجاد نوعٍ من التنسيق وتوحيد الرؤى بين جميع القوى للاتفاق على الصورة النهائية، ليس فقط لشكل الدولة التي يرغب بها السوريون، وإنما شكل العمل الذي بإمكانه أن يوصلنا إلى هذه الدولة المُشتهاة.
باتت الحاجة ماسة من أجل بناء حوارٍ داخلي بين جميع المعارضات السورية الحالية بلا استثناء. والحوار هنا ليس المقصود منه عقد اجتماعاتٍ سياسية ومؤتمراتٍ يلقي فيها كل طرف حجته ويدافع عنها، أو أن يهاجم فيها كل فريق في المعارضة فريقاً آخر بوصفه المعطّل للعملية السياسية، وإنما العمل على إنشاء تقليدٍ سياسي سوري جديد يجمع السوريين حوله ويمنع عليهم تجاوز القضايا الأساسية التي يتم تحديدها فيه مثل: شكل الحكم، اسم الدولة، شعارها، مرجعيتها القانونية والحقوقية، دور الدين فيها، كتابة الدستور، ومحاكمة المجرمين.
إن تمكّنا من عقد مثل هذا الحوار وتحديد أساس واقعي لمثل هذه المفاهيم وغيرها، سيكون ذلك أول الطريق في العمل السياسي المجدي الذي سيؤسس لوضع استراتيجياتٍ وطنية حقيقية تبتعد عن الخطابات الشعبوية وتساهم في التنازل عن الأنانيات الشخصية لصالح عملٍ وطني صحّي قادر أن يصل بأبنائه إلى دولةٍ ديمقراطية علمانية تستطيع أن تلعب دوراً مثمراً وبنّاءاً داخل سوريا وفي عموم منطقة الشرق الأوسط.
الخطر يكمن بشكلٍ أساسي في نزعة الأنا المريضة التي سيطرت ولا تزال تسيطر على قوى المعارضات السورية. هذه الأنا التي منعت التوصل إلى آلية عملٍ جماعي فيما بينها. تلك الأنا التي كرّست عزلتها وجعلتها لعبة بيد الدول. والنتيجة كما نراها الآن تراكم الفشل وتكريسه مع تعزيزٍ كامل للأزمة التي يعاني منها كل الشعب السوري، فضلاً عن فقدان الثقة، داخلياً وخارجياً، بأي دورٍ يمكن أن تقوم به لمستقبل البلد.
من نافل القول إن الجميع تضرر في سوريا. فمن السقوط الحر للعملة السورية إلى تحجيم دور الرئاسة السورية لأداء مهامٍ وظيفية صغيرة والتلاعب به، فضلاً عن تخريبٍ كامل للمؤسسات السورية، من دون أن ننسى الفقر المدقع الذي وصل إليه المواطن السوري. كل هذا لا بد أن يكون مدعاةً لجميع الأطراف والقوى السورية إلى التفكير الجاد والوطني بعملٍ جماعي يهدف إلى تشكيل كتلةٍ وطنية حقيقية يكون لها ثقلٌ محلي ودولي. لكن علينا الاعتراف أن مثل هذا التكتل لن يتم إلا عبر صهر الاختلافات، بحيث يجد كل طرف منها فيه مكانته دون إقصاءٍ لأي مكوّن أو تهميش لدوره في العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فالساحة السورية أرحب مما نتخيّل، وهي تتسع لكل أبنائها.