شمّر الجزيرة.. إضاءة تاريخية على سياسات القبيلة

حسين جمو *

شهدت الخريطة السكانية الحالية في منطقة الجزيرة (السورية والعراقية) وبادية الشام، عاصفةً قبلية قادمة من الجنوب بدءاً من عام 1750. فمنذ هذا التاريخ، بدأ اسم قبائل جديدة تتقدم باتجاه وادي نهر الفرات يطفو على السطح، أبرزها شمّر وعنزة، من جنوب العراق وحتى مشارف حلب. وحين حل العام 1800، بدأت هاتان القبيلتان، بفروعهما العديدة الضخمة، في تغيير موازين القوى العشائرية في المنطقة، إلى جانب قبائل أخرى ذات تواجد أقدم بكثير، مثل البقارة وفروع زبيد العديدة على ضفتي الفرات. إن دراسة تأثير تقدم القبائل النجدية إلى الشمال، في القرن الثامن عشر، لا يقل تأثيراً، من الناحية السكانية، عن الزحف العربي نحو الامبراطوريتين الساسانية والرومانية مطلع القرن الثامن الميلادي. وبقولٍ آخر، تعتبر أكبر موجة بشرية تتحرك بشكل جماعي خلال فترة قصيرة منذ الموجة الأولى في القرن الثامن الميلادي.

ولأن هذه السطور ترصد أدوار قبيلة شمّر بشكل خاص، التي توفي زعيمها التاريخي للفرع السوري حميدي دهام الجربا مؤخراً، فلا يعني ذلك تهميش أدوار تكتلات قبلية أخرى موازية. غير أن الحديث عن شمّر لا يمكن أن ينجح من دون سردٍ مواز لفروع قبيلة عنزة حتى مطلع القرن العشرين، لأنه خلال القرن العشرين صدّت قبائل عربية وكردية عديدة تمدد شمر وعنزة شمال سوريا والعراق.

تقاسمت قبيلتا العُبيد، في الجزيرة، والموالي، في البادية، السيادة على المنطقتين حتى مطلع القرن الثامن عشر. فكان توغل شمر وعنزة في المنطقتين رهنٌ بإزاحة كل منهما هاتين القوتين الضاربتين والمعتمدتين من السلطات العثمانية في مراقبة المناطق الواسعة غير الحضرية لدواعٍ أمنية. وتزامن هذا التبدل في «القوى العظمى البدوية» مع اختلالٍ سياسي في علاقة السلطة مع القبائل السائدة.

وفقاً لروايات عشائرية، فإن أمير الموالي فياض الحياري أبي ريشة كان نصب عموداً وسط صحراء الحماد دعاه بـ«عمود الحمى» حرّم به على العشائر النجدية المتحفزة للقدوم نحو بادية الشام أن تتخطّاه وتقترب من نفوذها في تلك البادية. وهناك إجماع في هذه الروايات بأن عشائر عنزة هي التي أزالت «عمود الحمى» جنوب بادية الحماد وتقدمت في مضارب أمير الموالي الذي كان يلقب ب«أمير العرب». وبها، سحقت عنزة السلطة التاريخية للموالي على بادية الشام الممتدة منذ القرن الرابع عشر الميلادي مع حقبة المماليك في الشام ومصر. والموالي، قبيلة غير سلالية، تضم خليطاً من الأفراد الهاربين من قبائلهم، فيهم عرب وتركمان وكرد. لكن رأس القبيلة في آل الفضل كان من شمّر، بحسب إفادة الراحل حميدي دهام الجربا.

في الفترة ذاتها، قامت قبيلة شمّر بانقلابٍ مماثل لموازين القوى في المنطقة الممتدة على الضفة اليسرى لنهر الفرات ويمين دجلة، إذ حطمت السلطة التاريخية لعشائر العبيد على تلك البقاع نهائياً. وانتهى بذلك المجد الذي صنعه «آل الشاوي» الذين توارث زعماؤهم لقب «باب العرب» باعترافٍ رسمي من ولاة بغداد. مع نهاية هاتين القوتين، الموالي (أمراء العرب) على الضفة اليمنى من الفرات والعُبيد (باب العرب) على الضفة اليسرى من الفرات، بدأت دورة بدوية جديدة في الصراع على المراعي والمياه وسياسة أمنية جديدة اقتضت المدن اتباعها تجاه الموجة السكانية الجديدة على أطرافها. وفي الحالتين، تغلب شمّر على العبيد وعنزة على الموالي، فيما كانت السلطة في بغداد طرفاً غير مباشر في النزاع لصالح الوافدين الجدد.

لم تكن «شمّر الجربا» وجدت مستقراً لها منتصف القرن الثامن عشر حتى اتجهت تدريجياً صوب الفرات قادمةً من شمالي الجزيرة العربية. وبدأت زوبع، وهي من الفروع القوية في شمّر، بالتنقل في مساحةٍ غير واسعة على الضفة اليمنى للفرات باتجاه بغداد. وباتت تُحسب على العشائر الأنبارية وتقاسمت السيادة فيما بعد مع الدليم على غرب بغداد.

بعد أن كانت بلدة عانة ورثة لشيوخ الموالي آل أبي ريشة، بأمر من باشوات بغداد على مدى عشرات السنين، آلت لاحقاً إلى شمّر بسبب موقفٍ ثمّنه والي بغداد داوود باشا كثيراً، إذ «وقفت بعض العشائر العربية وقفة قوية وجريئة إلى جانب داوود باشا (والي بغداد من 1817 – 1831) خلال حربه مع إيران، مثل شمّر الجربا بقيادة شيخها صفوق، الذي وجه سنة 1820 هجماتٍ ناجحة على قوات إيران.. وكان من الطبيعي أن يكافئ الوزير هذه العشيرة التي أبدت شجاعةً وإخلاصاً في قتال إيران. ولذلك، أقطع الباشا عانة وما يتبعها من قرى لصفوق، شيخ شمر الجربا» (عبدالعزيز نوار – داوود باشا والي بغداد – ص 106).

لم تكن معركة شمر الجربا ضد الإيرانيين كبيرة، إذ خاضتها ضد فلول الجيش الإيراني شمال شرق بغداد ولاحقتها إلى أطراف ديالى سنة 1821. وعلى الرغم من تعظيم المرويات العشائرية هذه الموقعة، فإن قلّة من المراجع التي تناولت تلك الحقبة تطرقت إلى ذلك بإسهاب، ومن أكثرهاً تفصيلاً بضعة سطورٍ في «مطالع السعود في أخبار الوالي داوود» نقلها عباس العزاوي في كتابه الموسوعي «العراق بين احتلالين»: «ولما نصر صفوق أقطعه الوزير عانة وما يتبعها من القرى.. فعادى أعداءه ووالى أولياءه».

إن اختيار والي بغداد بلدة عانة إقطاعاً لشيخ شمّر لا يخلو من دهاءٍ في معرفة خصومات العشائر. اعتادت قبيلة عنزة المجيء إلى أنحاء الفرات سنوياً قادمة من نجد بحثاً عن المراعي في الصيف، فيما كانت عانة واحدةً من نقاط عبورهم. ولم يكن هناك من يضاهي شمّر قوةً لأداء دور السد القبلي أمام عنزة. إلا أنه سرعان ما تم سحب هذه المنحة من شيخ شمر عام 1842 بضغطٍ من والي الموصل الذي أراد ضم عانة إلى ولايته، في حين تم تعويض الشيخ صفوق الجربا بأراضٍ على نهر الدجيل شمال بغداد، لتنتهي بذلك رئاسة شمّر على درة الأنبار: عانة.

بحلول عام 1805، قضت شمّر الجربا على قوة العبيد وحلّت محلها في السيادة على معظم القسم الشمالي من بلاد الرافدين، لتتقلص العُبيد تدريجياً إلى قوةٍ صغيرة عاجزة عن شن الغارات أو حماية المساحات الواسعة التي كانت تحت نفوذها، لينتهى بها الحال إلى الاستقرار في الحويجة جنوب كركوك وخسارتها نهائياً قاعدتها الرئيسية في السهول الواسعة المحيطة بجبل سنجار.

على أنه في 1816، حدثت وقعة عشائرية كبرى كانت الدولة، ممثلةً بوالي بغداد سعيد باشا، طرفاً فيها. إذ تحالف جيش السلطة مع عشائر العُبيد والظفير والرولة وعقيل تحت قيادة شيخ المنتفق حمود الثامر. وعلى الجبهة المقابلة، كانت شمّر، بقيادة فارس الجربا، والخزاعل، بقيادة سلمان المحسن، ومعهما عشائر زبيد. انتصر جيش بغداد وحلفائه في هذه المعركة، وتجمعت كافة التناقضات الاجتماعية والسياسية في هذه الحرب على امتداد العراق. غير أن العُبيد، على الرغم من وجودها في الجبهة المنتصرة، لم تنجح في استعادة نفوذها السابق. في هذه المعركة الكبرى، قتل بنيّة الجربا، أشهر فرسان قبيلة شمّر وأكثرهم صيتاً في الشجاعة. وترك مقتل بنيّة حزناً ممتداً لدى أبناء شمّر بسبب ما قيل أنه قُتل غدراً على يدي شيخ المنتفق ناصر الأشقر آل السعدون الذي قام بتعليق رأسه على باب خيمته أياماً. ويمكن اعتبار واقعة قتل بنيّة الجربا إيذاناً بمرحلة جديدة في سيرة قبيلة شمّر وبمثابة غصّة تاريخية ممتدة إلى اليوم. كما أنها أثّرت على مساحة تحركات القبيلة بأن بات الجسم الرئيسي منها ملتزماً بالبقاع الممتدة شمالي الفرات كما هو اليوم، والانفصال عن فروع شمر في الفرات الأوسط.

بعد عام فقط، 1817، تسلم داوود باشا الحكم في بغداد وانقلب على تحالفات سلفه، فتقرب من شمّر وساعدها في تثبيت «فتوحاتها». وجمعت صداقةٌ كلاً من داوود باشا حاكم بغداد وصفوق الجربا مع مولانا خالد الشهرزوري النقشبندي.

منح إزاحة العبيد وتشتيتهم على أيدي شمّر مجالاً لتوسع الدليم شمال وشرق الفرات. إلا أن ميل الدليم إلى الاستقرار، مدفوعاً بنمط إنتاجها الاقتصادي، ساهم في أن تبقى، بثقلها الرئيسي، ملتصقةً بضفتي الفرات، وعدم توغلها كثيراً في مراعي الأسياد الجدد في المنطقة شمالاً: قبيلة شمّر.

في عام 1822، شهد العراق وقعة عشائرية كبرى بين شمّر وعنزة على مرحلتين، إذ دفع القحط قبيلة العمارات من عنزة إلى الانتقال من الشامية إلى الجزيرة بقيادة أحد أبناء الهذّال، فتصدت لهم شمّر في معركة بصالة، وجرت فيها الحادثة الشهيرة حين استولى رجال من شمّر على هودج حصة ابنة الهذّال وساقوها أسيرة. وفي الثانية، وصلت إمدادات من كل فروع عنزة، بقيادة دريعي الشعلان زعيم الرولة، وجرت معركة قرب تلعفر انتصرت فيها عنزة وأسروا ابنة أحد شيوخ الجربا. وهكذا، انتقلت معارك القبيلتين بكل ثقلها من الجزيرة العربية إلى الجزيرة الفراتية. وفي هذه الفترة، كثرت الجِمال في الشام والعراق، إذ كانت القبائل الوافدة من نجد وحائل تعتمد في اقتصادها على الإبل، فيما اعتُبرت معظم قبائل الجزيرة الفراتية حتى ذلك التاريخ من القبائل الغنامة. وفي موازين القوى البدوية، تكون السيادة دائماً لاقتصاد الإبل.

قبل ظهور البنى العشائرية الأخيرة في الأنبار والجزيرة (الدليم، عنزة، شمّر) تكونت معادلة القوى من عناصر مختلفة:

ارتبط التنافس على باشوية بغداد، التي استأثر بها المماليك نحو ثمانية عقود (1749 – 1831)، على الكرد البابانيين في السليمانية وعشائر المنتفق في البصرة وقبيلة العبيد السنية تحت زعامة آل الشاوي، في المناطق الممتدة بين تكريت والموصل وكركوك، إضافةً إلى عشيرة العقيل التي تجاور العُبيد، وتخصصت مهمتها كفرقةٍ عسكرية غير نظامية تحت الطلب لحساب ولاة بغداد، فضلاً عن العمل بالأجر لحماية القوافل التجارية. ولعبت العقيل دوراً بارزاً في هزيمة سليمان الشاوي، أمير العبيد، في هجومه على بغداد سنة 1786 على الرغم من انتصار الأخير على جيش والي بغداد في الفلوجة. ولولا تصدي العقيل له في الكاظمية قرب بغداد «لأُخِذ الوالي سليمان باشاً أسيراً» (عثمان بن سند البصري – مختصر مطالع السعود في أخبار الوالي داوود).

وحتى تولي داوود باشا المملوكي باشوية بغداد سنة 1817، ارتبط ذكر منطقة غرب العراق بمحاولات آل سعود توسيع حكمهم بحيث تكون حدودهم الشمالية نهر الفرات. وبات هذا الطموح شعاراً سياسياً للدعوة الوهابية في فترةٍ من الفترات. ولجأت الكثير من عشائر نجد إلى تغيير معاقلها التاريخية والهجرة إلى العراق.

في هذه الفترة، تدهورت قوة المدن بشكلٍ سريع وتصاعد نفوذ القبائل في أنحاء العراق، وباتت تهدد الحكم في بغداد. وحلل حنا بطاطو في كتابه «الطبقات الاجتماعية..» هذه الظاهرة باقتدار فيما يخص ضعف المدن وصعود البداوة:

«إن وجود عشائر قوية كان يعني، في القاعدة، وجود مدن ضعيفة بالتلازم. وعلى العكس، فإن نمو المدن كان يعني تراجع العشائر. وهكذا في الفترة بين القرنين الـ13 والـ18.. كانت هنالك حقيقة واحدة أكدت نفسها تكراراً، ألا وهي الضعف الشديد الذي أصاب المدن. وكان الأمر الملازم بالضرورة هو تقدم سلطة العشيرة».

ولتفسير عوامل هذا الانحطاط في قوة المدن، لا بد من التطرق إلى الأوضاع الصحية والكوارث الطبيعية. إذ لعبت الأوبئة والفيضانات دوراً أساسياً في توغل زعامات القبائل بنفوذها في بغداد، وأفرغت جهود الوالي المملوكي القوي سليمان أبوليلة من مضمونها، بعد أن كانت القبائل الكبرى في معظم أنحاء بلاد الرافدين رضخت له خلال فترة حكمه بين عامي 1749- 1762.

حدث تغيرٌ سكاني مهم في بغداد إثر وباء الطاعون سنة 1772. فهنالك إشاراتٍ غير منتظمة في سرديات، لكن ذات دلالة، أن التركيبة السكانية والإدارية لبغداد طرأ عليها تغير بدخول البدو والكرد إلى الإدارة المدنية والسياسية. أدى ذلك إلى حدوث فراغٍ إداري وعلمي، فلم يبق في بغداد سوى قلة ممن كانوا في مناصبهم. وكذلك كانت الحال بالنسبة إلى علماء الدين، إذ قضى غالبيتهم أو هجروا من دون عودة، ومنهم صبغة الله الكردي الذي قيل فيه إنه أخذ عنه جميع من عاصره من علماء العراق، فلا تجد إجازة علمية عراقية إلا تتصل به وتنتهي إلى آبائه.

وينقل رسول الكركوكلي، صاحب «دوحة الوزراء»:

«بعد حادثة الطاعون رجع الأهلون كل إلى مكانه، وأن المدينة ظاهراً انتظمت أمورها لكنها لم تتكامل وبقيت في حالة تشوش. لأن الذين كان يعول عليهم في الإدارة وحسن النظام ماتوا ولم يبق من يقوم بشؤون الحكومة من أهل الكفاءة، وولي الأمور من لم يكن أهلاً للقيام، فانحلت أمور الديوان فاضطر إلى ترغيب الأكراد والعربان سكان البوادي. ولقلة خبرتهم بالإدارة تشوشت الأمور وانحلّت».

لاحقاً، مع مطلع القرن العشرين، سيكون نمو المدن من جديد المظهر الأهم لانحسار العشيرة كمرجعية اجتماعية ومعارضة سياسية. وكان على العشائر أن تظهر بصيغة أخرى، أمام هيبة المدينة، عبر شيوخها وليس بنادقها وسيوفها.

يٌعد عبدالكريم الجربا، الشيخ الأكثر شهرة في تاريخ قبيلة شمّر. وهو الذي يتناقل العرب سيرته من الفرات إلى الحجاز. وكان من أواخر شيوخ العرب الأسطوريين الذين نجد ملامح لصفاتهم في خيالات المستشرقين. ويعتبر عبدالكريم أبرز شيخ عربي على الإطلاق في زمنه. وكانت لخصاله الحميدة دوراً في ضخ جرعة إضافية من الأخلاق على حروب البدو. وهو شاعر فذ له قصائد معروفة منها «الكحيلة»، وهي عن فرسه التي طلب الوالي شراءها.

بلغت شمّر تحت قيادته من القوة والنفوذ درجةً مكّنها من تحدي السلطات الإقليمية ممثلةً بوالي بغداد مدحت باشا، الشهير بأنه «أبو الدستور العثماني». فقبض على الشيخ عبدالكريم وأمر بإعدامه شنقاً على جسر الموصل عام 1871، وهو المكان نفسه الذي أعدم فيه الشيخ عبدالسلام بارزاني في 1914.

شمّر ضد سايكس بيكو

مع انهيار الدولة العثمانية، ظهرت الحدود الدولية الجديدة لتقطع الطريق تدريجياً على حركة تنقل القبائل الكبيرة. أدت هذه الصيغة من الدولة الحديثة إلى ما يشبه تقليص فروقات القوة بين العشائر التي باتت جميعها خاضعةً للدولة. ولم تعد عشائر الدليم في الأنبار، بعد الآن، مهددةً كما في السابق بغزوات شمّر من الشمال وعنزة نجد من الجنوب. وساهم انتشار الأسلحة الفردية الحديثة في نسف معادلات القوة السابقة. ويمكن تحديد عام 1946 نهاية لأسطورة الكثرة العددية للعشائر في العراق، إذ تغلبت عشيرة البومتيوت الصغيرة، المدعومة من الحكومة والمسلّحة بأسلحةٍ حديثة، بشكلٍ ساحق على الآلاف من رجال شمّر، في معركةٍ جرت على أطراف الموصل وكان صداها مدويّاً.

بدأت بريطانيا البحث عن حلفاء فور تمكّنها من قمع ثورة العشرين عام 1920 في الفرات الأوسط وجنوب العراق، فأنشأت قواتٍ بدویة لدى شیوخ العشائر الموالیة لها باسم «البیرق». وتألف كل بیرق من قوة لا تقل عن 200 من الهجانة، على أن یكون قائد البیرق بریطانیاً ویعاونه عراقيون كضباطٍ من أقارب الشیخ. فتألف في جهة الغرب من بغداد، في منازل شیخ الدلیم، بيرقٌ بقیادة الكابتن ولیم یعاونه المیجر خلف ابن عم الشیخ علي السلیمان شیخ الدلیم. وفي الموصل، شُكّل بیرقٌ لشیخ شمر دهام الهادي، إلا أنه لم یكتب له النجاح. وبعد تشكیل الحكومة العراقیة الأولى عام 1921، شُكّل بیرقٌ لشیخ شمر الآخر، عجیل الیاور، الذي رفض أن یكون بیرقه بإمرة ضابط بریطاني، فاختارت الحكومة عبد الجبار الراوي قائداً لهذا البیرق «في 20 فبراير/شباط 1922» (عمار يوسف عبدالله – مسألة عشائر الحدود العراقیة – السوریة). وحين اندلع النزاع داخل بيت الجربا بين دهام الهادي وعجيل الياور، ساندت بريطانيا الأخير وشنّت غارة جوية على مسلحين كان يقودهم دهام الهادي قادمةً من الجزيرة (السورية) باتجاه العراق في تحدٍ للحدود التي قسّمت قبيلته. فبقي الفرع السوري من شمّر معزولاً في منطقة صغيرة ويتطلع إلى حيازة القوة البشرية الكبيرة للقبيلة جنوب الموصل. إلا أن تلك الجهود لم تتكلل بالنجاح بسبب مكانة عجيل الياور السياسية في خريطة العراق الجديد، إذ بات من المقربين من الملك فيصل وحصل على مكانةٍ مرموقة في المجتمع السياسي. وتمثلت مكانته، كشخصيةٍ عراقية مهمة، حين دعته الحكومة البريطانية عام 1937 بصفته الشخصية لحضور احتفالات تتويج الملك جورج السادس والد الملكة إليزابيث الثانية.

تعرض الفرع السوري لشمّر إلى تحدياتٍ وجودية في حربٍ طاحنة مع قبيلة البقارة في الأربعينيات من القرن العشرين، وهي الحرب التي أزاحت شمّر إلى زاويةٍ صغيرة في الجزيرة. وكان يمكن أن تصبح الأمور أسوأ لو لم تكن قبائل كردية طرفاً في الحرب نفسها، تتقدمها الكيكان. فانعزلت شمّر في موقعها الحالي في منطقة تماس بين الكرد والعرب، فيما كانت عنزة تعيش مجدها السياسي بكل فروعها: الفدعان في الرقة وحلب، والحسنة في حماة، والرولة من بادية تدمر إلى مشارف دمشق. وحاول دهام الهادي الحصول على دورٍ سياسي له بموالاة الكتلة الوطنية في دمشق والعمل ضد حركة استقلال الجزيرة تحت زعامة حاجو آغا الكردي. وبعد مرور ما يقرب من قرنٍ على هذه الاصطفافات، تعلّم الجميع دروساً في التاريخ أخيراً، وبعضها مفيد للغاية، فكان اللقاء الكردي العربي- الشمّري في الجزيرة تحت عنوان «الإدارة الذاتية».

 

*كاتب كردي من سوريا. له العديد من الدراسات والأبحاث السياسية والاجتماعية. صدر له “التكايا المسلّحة – التاريخ السياسي للطريقة النقشبندية الكردية” و”الأنبار.. من حروب المراعي إلى طريق الحرير”.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد