إلزامية الحجاب.. كيف تعبر النسويات الإيرانيات عن ذواتهن؟(2)

فرهاد حمي

في المادة السالفة، سلّطنا الضوء على فكرة الفصل بين الأمة والدولة نتيجة الاحتجاجات المتتالية على حكم الملالي في طهران. ونظراً لأن الاحتجاج النسوي الأخير بعد مقتل الفتاة الكردية جينا أميني (مهسا) قطع شعرة معاوية بشكلٍ كبير في هذا السياق، فإن السؤال الملّح اليوم: ما هي أشكال التعبير النسوي في إيران فيما يخص إلزامية ارتداء الحجاب؟ وهل كفاح المرأة الإيرانية ينحصر في خانة سياسة الهوية ضد الذكورية الأبوية والأصولية الدينية فحسب، أما يختزن طاقات وقدرات تؤهل المرأة لتجسّد صوت الاضطهاد العام ودمقرطة المجتمع الإيراني؟، كما تشدد المعارضة الإيرانية الشهيرة والحائزة على جائزة نوبل للسلام شيرين عبادي.

غالباً ما تروج دعاية النظام الإيراني ووسائل الإعلام الغربية تلك الصورة النمطية التي تأطّر النسوية الإيرانية داخل ثنائيات محددة: العلمانيات النسويات الساخطات على إلزامية الحجاب مقابل الأصوليات الإسلاميات اللاتي يلبسن «الشادور» ويدافعنّ عن الحجاب بالضد من الثقافة الامبريالية الغربية والنزعة الاستهلاكية الفاحشة. هذا التقسيم الاختزالي عكسه الانثربولوجي الإيراني شهرام خسرو على جيل ما بعد الألفية في إيران في كتابه «الجيل الثالث في الجمهورية الإسلامية الإيرانية». واستنتج شهرام بأن الجمهورية الإسلامية تقسم الشباب والشابات إلى فئتين: الفئة المتجانسة، وهي عبارة عن «جيشٍ مؤلف من عشرين مليوناً» مكرّسٍ للثورة الإسلامية وأهدافها. والفئة الأخرى عبارة عن المستهلكين الغربيين الذين يشكلون تهديداً للمجتمع الثوري الإسلامي. طبقاً لذلك، تقوم السلطات الإيرانية بتجريم العديد من السلوكيات المتأثرة بـ«الغزو الثقافي الغربي»، وفي مقدمتها المظهر العام وفرض الحجاب.

فعلياً، وقبل حادثة مقتل جينا أميني (مهسا)، أعلنت السلطات الإيرانية في أغسطس/آب الماضي أنها ستتخذ إجراءاتٍ صارمة ضد ما تعتبرها انتهاكاتٍ لقواعد الحجاب (من إظهار الشعر وصولاً إلى وضع المكياج المخل). كما شددت على أنها ستبدأ في استخدام تقنية التعرف على الوجه في الأماكن العامة، من خلال شرطة الأخلاق، لفرض قواعد اللباس على النساء.

بيد أنّ هذه الإجراءات التعسفية لم تكن وليدة الأشهر الماضية فقط، بل تصاعدت عقب إعادة انتخاب أحمدي نجاد إلى منصب الرئاسة عبر انتخابات مزورة عام 2009. شكّل هذا التحول طياً نهائياً لصفحة من الإصلاحات المتواضعة خلال رئاسة كل من هاشم رفسنجاني ومحمد خاتمي، الأمر الذي فجر احتجاجات «الحركة الخضراء» التي قُمعت بوحشية، وكانت للمرأة فيها حضورٌ قوي.

وصف نجاد، حينذاك، النسوية الإيرانية بأنها تشكّل «تهديداً للأمن القومي». وهي ذريعة استغلتها السلطات الحاكمة لتثوير سياسة القبضة الأمنية على المجتمع، إذ تم إغلاق المنظمات النسائية غير الحكومية، واعتقلت عدد من الناشطات النسويات، وألغيت جملة من الحقوق المدنية التي نالتها المرأة الإيرانية نتيجة كفاح «حركة المليون توقيع ضد القوانين التمييزية حيال المرأة»، التي دعت إلى المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء فيما يتعلق بالزواج وقانون الميراث والقانون الجنائي والطلاق.

وعقب احتواء «الحركة الخضراء»، تم نفي العديد من الأسماء البارزة في الحركة النسوية الإيرانية مثل شيرين عبادي والصحافية الكردية المعروفة بارفين أردلان، التي حصلت على «جائزة أولف بالمه» عام 2007، ونوشين أحمدي، وسوزان تهماسيبي وأخريات، غالبيتهن كنّ محسوبات على التيار العلماني المدني.

وعلى خلفية تسيّد البؤس المشهد السياسي، احتل جسد المرأة موقع الرمز للاحتجاج والقمع الشمولي في آن معاً. وأضحت بعض أشكال التعبير النسوي تتسم بردود فردية صاخبة، وتثير معها سجالات متباينة داخل المجتمع الإيراني، لم تتسق في أغلب الأحيان مع الإجماع التحرري العام في إيران، بحسب النقاد.

الكشف كفعل احتجاجي

تعد حالة الممثلة والمغنية الإيرانية الشابة غولشيفته فراهاني، والتي تعيش في فرنسا حالياً، نموذجاً لافتاً لانقسام الإيرانيين بحدة حول العالم، إذ أحدثت فراهاني ضجةً كبيرة داخل إيران وخارجها بعدما نُشرت لها صورٌ عارية على غلاف مجلة «مدام فيغارو» التابعة لجريدة « لو فيغارو»  الفرنسية عام 2012. كما ظهرت عارية أيضاً في فيلم قصير بالأبيض والأسود من تأليف جان بابتيست موندينو بعنوان «الأجسام والأرواح». وعلى إثر ذلك، مُنعت فراهاني من دخول الأراضي الإيرانية.

أدت تلك الصور إلى رفع منسوب الاستقطاب في المجتمع الإيراني، إذ احتفل البعض بتصرفاتها، واعتبروها بمثابة شجاعةً كبيرة وتحدياً حازماً لتفكيك المحرمات القديمة والمقدسة، وبالتالي الثورية. وأدانها آخرون باعتبارها انتهازية، فاحشة، غير أخلاقية، ومضرّة بقضية الحرية في إيران.

ثمة آراء متزنة رفضت الانصياع إلى هذا التقسيم الحاد وجادلت بأنه لا يوجد تجمعٌ بشري ثقافياً، يخلو من اللباقة الرسمية، من أجل أن يكون الإنسان مقبولاً بمظهره في الفضاء العام. وقد تكون طريقة عرض الجسد من خلال قطعة قماش تلف حول الفخذ أو قد تمتد لتغطي الجسد بالكامل عبر الحجاب. لكن الملابس تصبح إشكالية عندما تهدد أبوية السلطة الحاكمة. لذا، فإن السؤال الذي طُرح آنذاك: ما الذي يعنيه كشف الجسد أو خصلة من الشعر لدى السلطة الحاكمة في إيران؟

لخص هذا الفريق إجابته حيال هذه الإشكالية بما مفاده: عندما يصبح الجسد موضوعاً عارياً، ينكر بحكم الأمر الواقع مشروعية الدولة الحاكمة التي تتخذ من نوعية الملابس شرعيةً لوجودها. وكذلك يُظهر ردة فعل عنف الدولة الدينية الأصولية بأنه غير شرعي وعاري تماماً. وبدورها، فسرت فراهاني تصرفاتها بأنها مسعىً لنزع صفة التسليع والقداسة على جسد المرأة، موجهةً كلامها إلى السلطة الإيرانية بالقول :«انظروا، هل يشكل جسدي تهديداً لكم؟ ولماذا يجب حصر جسد النساء في الحجاب فقط؟».

انتقدت بعض الناقدات النسويات موجة النيوليبرالية المتفشية بين شرائح عديدة لا سيما المغنيات الإيرانيات الشابات في الداخل والمنفى، من خلال أعمال تتحاشى الفعل السياسي لكنها تتحدى فكرة إلزامية الحجاب، من خلال أساليب مستنسخة من حركة «فيمن» الغربية المتطرفة. عموماً، إن معادلة الكشف المتطرف مع «التحرير» أو حتى «التحدي» هي معادلة خاطئة في المجتمع الإيراني، إذ تكافح الكثير من النسوة المحجبات في إيران من أجل حرياتهن، أو يعانين في زنزانات الجمهورية الإسلامية، وهو أمر تعيه كثير من الناشطات الإيرانيات في حراكهن الأخير، مثل الإيرانية الأميركية المحجبة هدى كاتبي، التي تفرّق بين سياق حرق الحجاب كرمزٍ للقمع الحكومي في إيران، وحرقه في الهند وحظره في فرنسا مثلًا من قبل متطرفين معادين للمسلمين.

ومع ذلك، لا يمكن وصف صور فراهاني باعتبارها فاحشة ومخلة بالآداب العامة في التحليل النهائي، قياساً بالقسوة الوحشية لأي من تشكيلات الدولة الأصولية. وإن كانت ثمة فاحشة ينبغي شجبها، فهي تلك السجون تحت الأرض في الجمهورية الإسلامية مثل «كهرزاك» و«هردشت» و«إيفين»، التي يمارس فيها الاغتصاب والتعذيب وانتهاكات أخرى غير مشروعة، على غرار أحداث فيلم «موسم وحيد القرن»، للمخرج الكردي الإيراني بهمان قوبادي.

الأصولية الدينية والليبرالية الزائفة

بمعزل عن نموذج التحدي المتطرف، ثمة امرأتين اليوم تشتركان في اسم معصومة، تلخصان بطريقة ما مصير الجمهورية الإسلامية. أحدهما معصومة ابتكار، والثانية معصومة علي نجاد. الأولى تمثل إيديولوجيا الأصولية الدينية الشيعية، فيما تسوق الثانية بضاعة الليبرالية النسوية الفردية.

تعود شهرة معصومة ابتكار، التي تروج للنسوية الأصولية الحاكمة في طهران، إلى دورها في احتجاز الرهائن الأميركيين 1979-1981، إذ كانت متحدثة بإسم الطلاب الذين احتجزوا الرهائن في السفارة الأميركية، وعُرفت حينذاك بإسم «أخت ميري». شغلت منصب نائبة الرئيس لشؤون المرأة والأسرة في عهد حسن روحاني، مستفيدةً من سجلها الإجرامي في قضية الرهائن. ومن المعلوم، وتحت ستار هذه القضية على وجه الخصوص، شن آية الله الخميني حملةً شاملة من أجل القضاء على جميع المنافسين الشرعيين ضد إرهابه الاستبدادي في أعقاب الثورة الإيرانية.

تحرص معصومة ابتكار الظهور في المحافل الدولية والدبلوماسية والإعلامية، وهي تتحدث باللغة الانكليزية مرتديةً الملابس المغطى بالكامل. وتبتغي من وراء ذلك نشر رسالة نظام الملالي من خلال استراتيجية خطاب «القوة الناعمة». اليوم، تمثل معصومة النسويات الإسلاميات اللواتي يدافعنّ عن إلزامية الحجاب، ويخلطنّ طهارة العقيدة الإسلاموية والقوموية مع عفة المرأة المتجسدة في ارتداء الحجاب، بحيث تُلزم المرأة أن تبقى على الدوام مصانة ضد ما يسمى «الانحلال الاخلاقي الغربي».

في مقلبٍ آخر، جعلت الشابة معصومة علي نجاد اسمها أكثر قبولاً للذوق الأميركي من خلال استبدال هويتها الشخصية إلى «مسيح علي نجاد»، بعدما غادرت إيران عام 2009 صوب الولايات المتحدة، وشقّت طريقها لالتقاط صورتها مع وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو. تنظر مسيح في مسألة خلع الحجاب على أنها بمثابة نهاية للنظام الإيراني برمته. وتُعارض بشدة أي مفاوضات مع طهران بشأن برنامجها النووي. اليوم، تقدم مسيح نفسها أمام وسائل الإعلام الغربية والحكومات الغربية بأنها إحدى المتحدثات بإسم حركة الاحتجاج التي تهز إيران منذ وفاة الشابة جينا أميني (مهسا).

تعتبر بعض الأكاديميات الإيرانيات مسيح علي نجاد والفنانة الإيرانية–البريطانية نازانين بنيادي، التي كانت تجري قبل أيام لقاءاتٍ مع الإدارة الأميركية في واشنطن بإسم الانتفاضة النسوية الحالية، شخصياتٍ انتهازية يتم استغلالها لخدمة المكائد الأميركية ضد إيران، وبأنهن يقلّدن النسوية الليبرالية الزائفة على غرار حركة «مي تو» الغربية.

تؤشّر معصومة نجاد ومعصومة ابتكار إلى النكبات المربكة للجمهورية الإسلامية ومعارضتها: متعصبتان تلخصان النهاية المسدودة لدولة ما بعد الاستعمار. تغطي إحداهما نفسها بإحكام كما لو كان مصير الجمهورية الإسلامية بأكملها معلقاً على خصلة واحدة من شعرها، في حين تلقى  الأخرى وشاحها في أول صندوق قمامة يصادفها بمجرد هبوطها في مطارٍ أوروبي، وتدعو اليوم المجتمع الدولي إلى التدخل في الشؤون الإيرانية بأي شكلٍ ممكن، كما أن لا مشكلة لديها في تلاقي وجهة نظرها مع خطاب التيارات اليمينية المتطرفة في الغرب. وهي بذلك تعكس رؤية طيف من المعارضة الإيرانية التي تزعم احتكارها صوت الشارع الإيراني البديل لنظام الملالي، على غرار مريم رجوي ونجل شاه إيران السابق رضا بهلوي وأمثالهما.

وبالمثل، تعكس معصومة ابتكار ومعصومة نجاد قسوة رؤيتين متعارضتين: الجمهورية الإسلامية الحاكمة من جهة، والولايات المتحدة وأتباعها الذين يحاولون الإطاحة بها من جهةٍ أخرى. أحداهما متعصبة وضيقة الأفق، والأخرى انتهازية ومبتذلة. كلاهما لا يمثلان شيئاً سوى ضغينة متطابقة، وهما وجهان لنفس مشروع بناء «الدولة الفاسدة».

وبينهما، يقف ملايين الرجال والنساء باحثين عن كرامتهم الشخصية والوطنية بعد مقتل جينا أميني (مهسا) التي ألهمت النسويات المنتفضات في وجه شتى أشكال القمع الديني والطبقي والقومي والجنسي، وفتحت آفاقاً جديدة أمام الأمة الإيرانية لتحرير ذاتها من براثن الدولة الأصولية الدينية التي تكرس أدوات الحداثة الرأسمالية، تحت شعار «المرأة- الحياة- الحرية» وهو موضوع سنناقشه في مادتنا المقبلة.

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد