فرهاد حمي
في الأسابيع التي تلت الثورة الإيرانية عام 1979، وبعد أول إعدامات المعارضين على أيدي الميليشيات الإسلامية التابعة للخميني، خرجت تظاهرة للنساء في 8 مارس/آذار بصيحات “يسقط الخميني” رداً على إلزامية ارتداء الحجاب. في تلك الأثناء، اتُهم الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشيل فوكو بمساندة مشروع الخميني على نحوٍ أعمى، خاصةً أن فوكو دافع في حواره مع صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن موقف الخميني وأعوانه تجاه المرأة والأقليات ومعاداة السامية بالقول إنه ” ليس لديهم نظام الحقيقة كما لدينا في الغرب“، أي لا ينبغي قياس الحدث والحكم عليه وفق المعايير الغربية. علاوةً على أن فوكو كان يرفض فكرة التحرر وفق القيم العالمية المشتركة، مفضلاً الرقص على إيقاع خصوصية المجتمعات وقيمها المختلفة.
لاحقاً، خابت كل رهانات فوكو على إتيان الثورة الإيرانية بـ”شيء مغاير تماماً “، إذ تبدلت هوية جلادي”سافاك” بقاطعي الأيادي لدى الخميني. وبقيت ركائز الدولة- الأمة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية تحفظ ذاتها بمنوالٍ صارم بمعزل عن الإرادة الشعبية الجامعة. والمتغير الوحيد الواضح تمثّل بإقحام الأصولية الدينية الرجعية، عقيدة قومية جديدة، انسجاماً مع موجة ما بعد الحداثة والنسبية الثقافية، بخلاف قومية الشاه العلمانية المتشددة. وبذلك، صان نظام الملالي مقومات الحداثة الرأسمالية الثلاثة: الدولة الأمة، التنمية الصناعية المدمرة، ومراكمة الرأسمال للنخب الحاكمة والتجار.
لا نبتغي من وراء استحضار مواقف فوكو بشأن الثورة الإيرانية إبراز سقطات الفيلسوف المتنور وتعاطفه مع الأصولية الرجعية في إيران كما جرت العادة، بل ما نحاول إبرازه على نحوٍ خاص، تزامناً مع الانتفاضة النسوية الإيرانية الحالية، ذلك الوجه الأصولي الرجعي الذي ينعش ذاته من خلال مقومات الحداثة الرأسمالية وميراث الدول الاستعمارية وما بعد الاستعمارية. لا سيما أن فوكو الذي كان ينشد التحرر الاجتماعي من موقعٍ مختلف عن الحداثة الغربية، أضحى في الوقت نفسه ضحيةً لذات الأدوات والتقنيات والاستراتيجيات التي تكرس الهيمنة والخضوع والقمع، لكن هذه المرة من بوابة الأصولية الدينية وترويض الجنسانية.
وتجسّد التناقض الجوهري الذي أثار حفيظة فوكو، عبر سلسلةٍ من المقالات عن الثورة الإيرانية، بتلك الثنائية التاريخية بشأن مصير الفرس وفكرة التحرر قائلاً: ” في فجر التاريخ، ابتكروا الدولة والإدارة وأمدوا الإسلام بوصفاتها، واستعملت الامبراطورية العربية الإسلامية هيئاتها الإدارية، إلا أنهم اشتقوا مذهباً من ذلك الإسلام، نابعاً من صميم الشعب ولا يمكن اختزاله عبر القرون في سلطة الدولة. لكن سرعان ما تدارك فوكو هفوته وحماسه الشديد لتاريخية هذا المذهب الثوري الاجتماعي، خاصةً بعد أن تحول إلى مذهب الدولة والسلطة في القرن السابع عشر مع السلالة الصفوية، وترسّخت الفجوة بين التنوع الاجتماعي والأسرة الحاكمة والمذهب الشيعي الصفوي. وعلى الرغم من ذلك، كان فوكو متأرجحاً بين الاندفاعية التحررية الروحانية إبان الثورة والفاشية الدينية السلطوية التي تربّعت على العرش. أي أنه لم يوضّح على وجه الدقة أن الأصولية الدينية سرقت صرخة الانتفاضة الديمقراطية الشعبية، وتلبّست عباءة دولة الشاه واكسسوارات السلطة المعاصرة، وفكّت شرعية الدولة عن إرادة الأمة، وما تبقى، كان عبارةً عن أدوات العنف العاري في وجه حق الأمة.
إن ما يثير الدهشة في قراءة فوكو للثورة الإيرانية هو أن الفيلسوف الفرنسي الذي كرّس حياته المهنية بغية تفكيك بنيان السلطة وتشريح استراتيجياتها وخطاباتها في عصر الحداثة الكلاسيكية والعلمانية المتطرفة، بالضد من إرادة الأمة المفترضة، ومن ثم وسع عبر أبحاثه المتأخرة علاقة شرعية الحكم والسلطة من خلال ضبط الجنسانية، لم يدرك حجم التطابق بين الدولة الأمة في الغرب التي سخّرت التحرر الجنسي من أجل تدعيم شرعيتها في الحكم، من خلال احتكار سياسة الموت/الحياة حيال السكان. وبين مشروع الخميني الأصولي القمعي القاضي بترويض جسد المرأة. هاتان الرؤيتان المختلفتان في التحليل النهائي وجهان لعملةٍ واحدة، حيث تخاض معركة شرعية الحكم على تأطير جسد المرأة وقوننته ومعاقبته، سواءً بطابعه المستور أو المكشوف. تارة عبر اغتصاب المرأة وسحقها في السجون، وتارة أخرى عبر ترويضها وتسليعها من خلال مراكمة رأس المال.
والغريب أن فوكو، الذي لفت انتباه العالم إلى توغل تقنيات السلطة حتى أدق مسامات جسد الأفراد والمجتمعات في عصر ما بعد الحداثة بما في ذلك قدراتها الهائلة لضبط الجنسانية على نحوٍ مكثف، أخفق مجدداً في ربط سلطة الحداثة الرأسمالية المتأخرة في الغرب مع النزعات الأصولية في العالم. ومن المعلوم أن هذا التحول قدّم ميزةً كبيرة لأجهزة الدولة الأمة ما بعد الاستعمار في الشرق الأوسط، وأمدّها بذخيرة من الأدوات الإيديولوجية والوسائل التكنولوجية لتتحكم بالجنسانية في كل شاردة وواردة. وكانت الأصولية الرجعية الدينية في إيران، والتي خرجت من لدن النسبية الثقافية والخطاب المعادي للإمبريالية الغربية، من بين أكثر الأطراف المنتفعة من هذا الانقلاب ما بعد الحداثوي.
فاليوم، يبدو من الاستحالة ضبط خصلة شعر المرأة وقمع جسدها في إيران من دون احتكار الملالي أجهزة الإيديولوجيا والثقافة والعنف ومؤسسات السجون المترامية والقوانين والفتاوى التي تحبس روح الأفراد وأجسادهم، وصولاً إلى نهب ثروة الأمة من التنمية العشوائية التي تضخّم بيروقراطية الدولة وميلشياتها السرطانية. أي أن مقومات الحداثة الرأسمالية هذه، انتعشت بفعل الأصولية الدينية بمنوالٍ مضاعف. وهي ليست على الخلاف البنيوي مع تركة الاستعمار وما بعد الاستعمار، ولا حتى مع الإمبريالية الغربية الحالية كما يزعم الرأي التقليدي السائد.
المفارقة الأخرى التي شوّهت رؤية فوكو حيال الثورة الإيرانية تكمن في الخلط بين فعل الاقتدار، المبني على قدرة الأمة بكل تنوعاتها الاجتماعية، وفعل المتسلط والمندفع صوب احتكار الدولة وأجهزتها التسلطية التي كانت من نتاج الاستعمار، وخلّدتها أنظمة ما بعد الاستعمار. ولدى الإشارة إلى هذا التناقض، فإن القصد هو أن شرعية بنية الدول المصطنعة في المنطقة لم تكن نابعة من إرادة الأمة بالمطلق، بل نتاج المنظومة الاستعمارية والدول ما بعد الاستعمارية، والتي فُرضت قسراً على التنوع الإيراني والمجتمعات والأمم في المنطقة بإسم الدولة الأمة المتجانسة. ومن دون تبيان هذا الفارق، تصبح غالبية التحليلات عرضة للتحريف والتشويه.
حرصت الفيلسوفة الألمانية المشهورة حنا آرندت على إبراز هذا التميّز على الدوام في مؤلفاتها، لا سيما لجهة تباين طبيعة مؤسسات الفضاء العام من أجل ممارسة السياسة وتداول المصير العام عبر المؤسسات المحلية وشبه الاستقلال الذاتي، عن فعل التسلط واحتكار الدولة المركزية وأجهزتها العنفية. تبعاً لهذا الطرح، لم يتردد نظام الملالي في الاصطفاف على الفور مع تاريخ إيران السلطوي، سواءً بطابعه الحديث أو التقليدي، بخلاف النزعة التحررية لدى الأمة الإيرانية. وكانت هذه هفوةٌ منهجية قاتلة في قراءة فوكو للثورة الإيرانية. كما برهنت احتجاجات الأمة الإيرانية منذ 43 عاماً صحة هذا الرأي.
تصدع بين الأمة وشرعية الدولة
وعلى الرغم من ذلك، يحسب لفوكو اليوم معادلته الشهيرة بشأن جدلية السلطة والمقاومة التي تتلخص في العبارة الآتية:» كلما ترسّخت السلطة داخل الجسد الاجتماعي، تزايد طردياً فعل المقاومة المضادة». في هذه المساحة على وجه الخصوص، زعزعت حادثة وفاة الشابة الكردية جينا أميني( مهسا)التي اعتقلتها شرطة الأخلاق في طهران رمزية سلطة الملالي القائمة على ضبط جسد المرأة منذ 43 عاماً. وشكّل شعار” المرأة- الحياة- الحرية” المستوحى من أطروحات عبد الله أوجلان والنضال النسوي الكردي، شرخاً هائلاً بين صرخة الأمة في مواجهة الدولة الأصولية التي تحتكر عبر العنف سلطة الحياة البيولوجية والروحية والحقوق الفردية والاجتماعية.
وبصرف النظر عن مآل الاحتجاجات النسوية في إيران، فإن اندفاع الاحتجاجات المتوالية قطعت، منهجياً وعملياً، حق الأمة وإرادتها عن الدولة التسلطية غير الشرعية وتجذّرت هذه العملية منذ الاحتجاجات الشعبية لـ”الحركة الخضراء” عام 2009 التي سحبت أهلية النظام السياسي والانتخابات المزيفة والبرلمان الكاريكاتوري، بينما حطمت الانتفاضة الإيرانية عام 2017 شرعية النموذج التنموي الفاسد، في حين هدمت حادثة مقتل جينا أميني أسوار الجهاز الإيديولوجي القمعي الأصولي. وتالياً، أضحت الأمة الإيرانية في مواجهة العنف العاري لدى الدولة المصطنعة الشاذة. وأخيراً، أصبح الملك عارياً حتى من ورقة التوت التي تغطي عورته.
تلقى هذا التعري، الذي تخفّى تاريخياً من خلال رمز الحجاب والكشف في إيران بغية فرض شرعية الدولة والحكم، ردة فعلٍ مقاومٍ ورافضٍ من قبل الإيرانيات. عندما قام رضا شاه (الذي حكم إيران من عام 1925 حتى عام 1941 ) بحظر نمط “الحجاب” في إيران الذي اعتبره غير لائقٍ لرؤيته الحداثوية، مكثت حينها النسوة في المنازل ولم يظهرنّ في الأماكن العامة حتى وفاتهنّ لأن الظهور في الأماكن العامة يعني عدم ارتداء ملابسهن المعتادة. أما الخميني، أعاد فرض ارتداء الحجاب في على الإيرانيات المتحررات بعد عقودٍ طويلة منسية نشأت خلالها أجيالٌ من النساء غريبة تماماً عن هذا النوع من الحجاب يعلق المفكر الإيراني حميد دباشي على هذا التناقض التاريخي بالقول إن الشاه والخميني: ” خاضا معاركهما المصيرية على موقع أجساد أمهاتنا وبناتنا، وأمسى الحجاب أو الكشف، على هذا النحو، مسألة تتعلق بسياسات الدولة والمعتقدات الإيديولوجية والقوانين العشوائية، لتوليد واستدامة شرعية الدولة على الهيئات المكشوفة أو المغطاة للرعايا كمواطنين”.
إن النساء الإيرانيات محاصراتٍ اليوم نتيجة علاقات الانتاج والنزعة النيوليبرالية التي تشجعهن على مغادرة بيوتهن للعمل أو الدراسة. ولكن من ناحية أخرى، تنظر الإيديولوجية الأصولية الإسلامية إلى أن مكانهن في المنزل. لذلك، يُفرض ارتداء الحجاب حتى تظهر النساء أنهن عندما يغادرن منزل أزواجهن أو آبائهن، فإنهن دائماً تحت السيطرة، سيطرة الدولة وسيطرة الله. فالحجاب يعمل كسجن محمول للنساء. وليس من السهل أن تكون امرأة أسيرة لهذا التناقض.
غير أنّ التناقض يولّد عادة مساحةً للاحتجاج والرفض والمقاومة. وتمثّل صرخة الإيرانيات المنتفضات اليوم دعوة الحق والحياة ضد القوانين القمعية. وإذا كان النصر دائماً من نصيب الأصوليين الإسلاميين في معاركهم السابقة ضد الأمة، إلا أنهم خسروا تماماً حرب كسب قلوب وعقول أمة لها ذاكرة تفوق بكثير الخيال المحدود لعصابة من رجال الدين تتربع على أجهزة عنف الدولة.
والسؤال الأكثر إلحاحاً اليوم في ظل الانتفاضة النسوية الإيرانية: ما هي أشكال وطرق التعبير النضال النسوي في إيران؟ وتحت أي مفاهيم وإيديولوجيات تخاض معركة الحق والحياة والحرية؟ سنترك الإجابة على هذا السؤال في المادة المقبلة.