“حصان طروادة لروسيا”.. لماذا لا تزال تركيا في الناتو؟

دوغ باندو

تحتدم الحرب بين أوكرانيا وروسيا، ويخشى أعضاء الناتو في شرق أوروبا من أن يأتي عليهم الدور ليصبحوا في مرمى نيران موسكو. طلبت فنلندا والسويد الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. وتركيا العضو منذ عام 1952، تعاملت مع هذا الطلب كفرصة للبازار، وطالبت ستوكهولم بقمع منتقدي أنقرة من الكرد مقابل الحصول على موافقتها.

لماذا لا تزال تركيا تعتبر حليفاً للولايات المتحدة؟

الرئيس جو بايدن، الذي زار المملكة العربية السعودية للتسول لزيادة إنتاج النفط، يتخذ نهجاً جباناً مماثلاً تجاه تركيا. على الرغم من إعاقة أنقرة لتوسيع الناتو وشرائها سابقاً لنظام الدفاع الجوي الروسي S-400، إلا أن بايدن يدعو إلى السماح ببيع طائرات F-16 لتركيا وتحديثها.

يصرّ بايدن على عدم وجود مقايضة، لكن اقتراحه يأتي بالتزامن مع سحب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اعتراضاته على انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو. في وقت سابق من هذا العام، اقترحت إدارة بايدن بيع صواريخ ورادارات لتركيا،  قيل إن الخطة تواجه “رياحاً معاكسة شديدة” في الكونغرس الذي أصر خلال إدارة ترامب على معاقبة أنقرة لشرائها أنظمة S-400.

عندما انضمت تركيا إلى  الناتو (عام 1952)، كان هناك عدم رضا في واشنطن. كانت الولايات المتحدة تدافع عن أوروبا الغربية التي لا تزال ضعيفة أمام الاتحاد السوفيتي، واعتمدت واشنطن، التي حظيت باهتمام كبير بالأسلحة التقليدية، على تهديد “الانتقام الشامل” بالأسلحة النووية للدفاع عن القارة. علاوة على ذلك، بقيت الحرب الكورية مشتعلة، ولم تنته إلا في العام التالي بعد وفاة الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين.

لم يكن أحد يركّز على نقاط الضعف بالنسبة للديمقراطية في تركيا آنذاك، أو الانقلابات العسكرية اللاحقة. في الواقع، كانت البرتغال دولة ديكتاتورية عندما تم تسميتها كعضو مؤسس في عام 1949، وظلت اليونان عضواً على الرغم من “انقلاب الكولونيلات” ذوي السمعة السيئة عام 1967.

ومع ذلك، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، اندفع الناتو إلى ما وراء الاتحاد الأوروبي للترحيب بحطام الإمبراطورية السوفيتية، معلناً عزم الحلف على تعزيز الإصلاح الديمقراطي.

قبل عقدين من الزمن، كانت تركيا دولة ديمقراطية بشكل محدود، حيث وضع جيشها حدوداً للحكم المدني، و لم يُسمح لأي رئيس وزراء بالتخلي عن الأسس المرتبطة بقيام جمهورية تركيا. كما فرض الجيش علمانية صارمة. ومع ذلك، على مدى العقدين الماضيين، كسر أردوغان سلطة الجيش بوسائل ماكرة، و القليل من الاستقلال الذي كان باقياً في القوات المسلحة اختفى بعد الانقلاب الفاشل في تموز (يوليو) 2016.

في تلك المرحلة، كان أردوغان يتّجه بالفعل إلى الاستبدادية، منتقلاً من مضطهَد إلى مضطهِد. كتب يوري فريدمان: “في العام والنصف الماضيين، فتح المدّعون الحكوميون ما يقرب من 2000 قضية ضد مواطنين أتراك بتهمة إهانة الرئيس التركي من بلدان مختلفة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الترهيب الذي تمارسه الحكومة بحق الصحفيين والناقدين والرقابة على الإنترنت”.

استخدم أردوغان الانقلاب الفاشل مثلما استخدم أدولف هتلر حريق الرايخستاغ عام 1933، كفرصة لمعاقبة المعارضين السياسيين والمنتقدين. تم طرد عشرات الآلاف من الأتراك أو منعهم من السفر أو سجنهم، وتهمة معظمهم لم تتجاوز مجرد انتقاد أردوغان أو وجود علاقة بعيدة مع حركة فتح الله غولن الاجتماعية، التي اتهمها أردوغان بشكل غير مقنع بتدبير الانقلاب. في أعقاب الانقلاب، حوّل أردوغان الحكومة من برلمانية إلى رئاسية، معززاً سلطته. بعد سنوات، استمر النظام في استخدام غولن لتبرير حملة القمع المستمرة، بالتزامن مع انتشار الاعتقاد بين الأتراك بأن الولايات المتحدة متورطة في العملية.

وفقًا لمؤسسة فريدوم هاوس، فقد تراجعت تركيا إلى المركز 32 من أصل 100، وهي مصنفة الآن على أنها “غير حرة”. وأوضحت المنظمة أنه على الرغم من “تمرير بعض الإصلاحات الليبرالية في البداية”، أظهرت حكومة حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس التركي ازدراء متزايداً للحقوق السياسية والحرّيات المدنية، وواصلت حملة قمع واسعة النطاق ضد النقّاد والمعارضين منذ عام 2016. دستورياً أدت التغييرات في عام 2017 إلى تركّز السلطة في يد الرئيس، وإزالة الضوابط والتوازنات الرئيسية”.

من المرجح أن يزداد القمع مع اقتراب الانتخابات البرلمانية والرئاسية في العام المقبل. بالنسبة للاقتصاد، الذي كان ذات يوم القوة السياسية العظيمة لأردوغان، فقد تحطّم، حيث بلغ معدل التضخم السنوي الرسمي 70 في المائة، ويعتقد بعض الاقتصاديين أن المعدل الحقيقي أعلى بكثير.

بالإضافة إلى ذلك، مع تراجع شعبيته وتحدّي شركاء سياسيين سابقون له، لجأ أردوغان إلى القوميين للحصول على الدعم. من غير الواضح ما إذا كان سيقبل بانتخابات حرّة، فلأول مرة في عام 2019 رفض أردوغان قبول نتيجة الانتخابات، مما أجبره على إعادة انتخابات بلدية اسطنبول، وهو ما خسره حزبه بشكل كارثي. في العام المقبل قد يقوم، بكل بساطة، بضمان النتيجة من البداية.

ومع ذلك، فإن القضية الأكبر بالنسبة لواشنطن هي إخلاص أنقرة لحلف الناتو. منذ زمن بعيد، كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تحوّل التحالف عبر الأطلسي إلى الأوروبيين، الذين أظهروا تصميمهم على مواصلة التمسّك بالسياسات الأمريكية حتى بعد إعلان صدمتهم وغضبهم من الغزو الروسي لأوكرانيا. طالما أن واشنطن تعتمد على الناتو، فمن المهم أن يظل الأعضاء ملتزمين بالتحالف الغربي، لكن تركيا ليست مثلهم.

لطالما كانت أنقرة في حالة حرب بشكل أساسي مع قبرص، العضو في الاتحاد الأوروبي، وجارتها اليونان، العضو في الناتو. في عام 1974، غزت تركيا الأولى وأقامت دولة تركية عرقية (الجمهورية التركية لشمال قبرص) المعترف بها من قبل أنقرة فقط. في الآونة الأخيرة، تدخلت حكومة أردوغان في مشاريع البحث عن الطاقة، مدعية امتلاك تلك الموارد من قبل جمهورية شمال قبرص التركية. كما أن الحكومات التركية المتعاقبة رفضت قبول السيادة اليونانية على الجزر المتنازع عليها وغزت المجال الجوي اليوناني بشكل مستمر، مما أدّى إلى مواجهات عسكرية متكررة. تخصص أثينا حصة كبيرة من ناتجها المحلي الإجمالي للجيش أكثر من أمريكا، لكنها تفعل ذلك في الغالب لمواجهة تركيا وليس روسيا.

لقد تبنّى أردوغان سياسة خارجية أكثر عدوانية واستقلالية مما فعل أسلافه. سياسته الخارجية غالباً ما تكون معادية للغرب، واقترح إعادة النظر في معاهدة لوزان لعام 1923، التي رسمت حدود تركيا الحديثة. (هناك الكثير من الحديث عن مؤامرة حول انتهاء الاتفاقية في العام المقبل، لكن ليس لها تاريخ انتهاء). وهو يقود ما يُعرف بالسياسة الخارجية العثمانية، التي يحلم مؤيدوها القوميون بتوسيع نفوذ أنقرة بشكل كبير. العقيدة البحرية أيضاً تتطلع إلى السيطرة على مياه البحر الأبيض المتوسط ​. وقد اشتبكت حكومة أردوغان مع سفن فرنسية وألمانية تسعى إلى فرض حظر أسلحة على القوات الليبية، ومع القوات الكردية السورية (قوات سوريا الديمقراطية) المدعومة من الولايات المتحدة، والتي هزمت “خلافة” الدولة الإسلامية بدعم أمريكي.

والأهم من ذلك هو علاقة أنقرة الوثيقة والمعقّدة بذات الوقت مع روسيا. وهذا أمر منطقي بالنسبة إلى دولة مجاورة لقوة عظمى خاضت معها أكثر من حرب عبر التاريخ. ومع ذلك، فإن لعب دور صديق موسكو يتعارض مع وجودها في حلف الناتو، الذي يعتبر روسيا خصمه العسكري المحتمل والخطير والوحيد اليوم. تشتري تركيا أسلحة روسية، وتمنع عمليات الحلفاء البحرية في البحر الأسود، وتقاوم عقوبات الحلفاء ضد موسكو. هل احد من أعضاء الحلف يعتقد بإمكانية الاعتماد على أنقرة إذا خاض الحلف حرباً مع روسيا؟

بطبيعة الحال، دافع الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ بحزم عن أنقرة  في آذار (مارس)، معلناً “أن قيادة تركيا القوية والتزامها بالأمن الجماعي لحلف الناتو أمران يحظيان بتقدير كبير”. ومع ذلك، بدأت تركيا في الابتعاد عن الغرب بعد أن تولّى أردوغان الحكم. في عام 2003، رفضت الحكومة التركية الجديدة السماح للأمريكيين بشن عملية عسكرية ضد العراق انطلاقاً من تركيا. في وقت مبكر من الصراع السوري، عملت أنقرة مع تنظيم داعش، مما سمح لمقاتليها بالسفر داخل وخارج سوريا، فيما تشن تركيا اليوم حرباً على القوات المدعومة من الولايات المتحدة في سوريا، وتظهر ما وصفته منظمة العفو الدولية بأنه “اعتداء مخجل على حياة المدنيين، وترتكب انتهاكات خطيرة وجرائم حرب، بما في ذلك القتل والهجمات غير القانونية”.

بعد محاولة الانقلاب، قام أردوغان بتطهير الضباط المُفضلين من قبل حلف شمال الأطلسي واستبدالهم بأولئك الذين يميلون إلى “العثمانية”. إنهم مؤهلون للعمل كطابور خامس من نوع ما في أي صراع يعارضه أردوغان أو من يتبعه، ويرفضون المساعدة أو حتى يتصرفون من أجل عرقلة العمليات. قال مصطفى جوربوز من الجامعة الأمريكية ساخرأً إن بعض المحللين قد يرون أن أنقرة “حصان طروادة لروسيا داخل الناتو، وليس العكس”.

يأمل بعض النقاد أن يضطر أردوغان إلى ترك منصبه بسبب ظروفه الصحّية، لكن حتى الآن لم يظهر أي بوادر على إمكانية مغادرته. كما أنه ليس هناك ما يضمن أن خليفته سيتم اختياره ديمقراطياً، أو أن الوضع سيكون أفضل، حيث تشمل الاحتمالات وزيري الداخلية والدفاع، ورئيس المخابرات، الذين قد يكونون أكثر قومية وسلطوية.

في الواقع، هناك القليل من الدعم الشعبي في البلاد للتعاون مع أمريكا. وصلت ذررة المشاعر الإيجابية للأتراك تجاه الولايات المتحدة إلى 20 في المائة فقط. وعلى مدى العقدين الماضيين، انخفض هذا الرقم إلى 9 في المائة. في العام الماضي، وصف ستة من أصل عشرة أتراك الولايات المتحدة بأنها التهديد الأكبر لتركيا، أي ثلاثة أضعاف العدد الذي أشار إلى روسيا. في آذار (مارس)، أظهرت استطلاعات الرأي أن ما يقرب من نصف الأتراك ألقوا باللوم في أي توتر بين روسيا وتركيا على الولايات المتحدة أو الناتو. ما يقرب من 8 في المائة قالوا أوكرانيا، وثلثهم فقط أشاروا إلى روسيا.

يجب على الولايات المتحدة وبقية دول الناتو التوقف عن دعم تركيا. إذا كان التحالف جاداً ، فيجب أن يصر على ولاء الأعضاء للأعضاء الآخرين واستعدادهم للانضمام إلى العمل الجماعي ضد خصم مفترض. إذا انحرف سلوك الحكومة بشكل كبير عن أهداف التحالف، فيجب على الأعضاء الآخرين التفكير في التخلّص من تلك الدولة وصياغة ترتيبات تعاونية أكثر واقعية في المستقبل.

لا ينبغي للولايات المتحدة أن تكون معادية لتركيا بشكل علني. ويجب على أوروبا أن تقيم علاقاتها الخاصة، والتي من المرجح أن تكون أكثر تعقيداً نظراً للعلاقة الاقتصادية الوثيقة والمخاوف المستمرة من تدفق اللاجئين عبر تركيا من الشرق الأوسط. سيؤدي الانفصال أيضاً إلى تحرير الولايات المتحدة من أي شعور بالحاجة لاستيعاب أنقرة من أجل أوروبا. في الوقت ذاته، إن انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو لا يساعد أمريكا، بل يؤدي إلى توسيع نطاق التزامات واشنطن الدفاعية.

على مدى سنوات، جمعت واشنطن حلفاء عسكريين بشكل يشبه اضافة الأصدقاء على الفيسبوك.. مع تركيا، يجب على الولايات المتحدة أن تتحرك في الاتجاه المعاكس. يحتاج حلف الناتو إلى إجراء محادثة جادة حول ما يجب فعله في حال عدم الوثوق بأحد أعضائه. في النهاية، قد يكون اعتبار الأتراك أصدقاء أفضل من اعتبارهم حلفاء.

 

نشر المقال في The American Conservative

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد