ثاناسيس كامبانز
تشهد منطقة الشرق الأوسط حركة دبلوماسية نشطة على أعلى المستويات بين القوى الإقليمية المتنافسة، حيث تأتي هذه الحركة الدبلوماسية بشكل متطابق مع الخطة المرسومة لـ ( الخطة ب) في حال فشل مسار المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران والتي قيدت لفترة وجيزة برنامج طهران النووي. كما وتأتي هذه الاتصالات والاجتماعات أيضا بين الجهات الرئيسية الفاعلة في المنطقة والتي إزدادت وتيرتها بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، إدراكا منها لتراجع دور واشنطن الواضح بالمنطقة.
ولعلّ أبرز مثال على هذا التحوّل في الحراك الدبلوماسي هو الإجتماع الذي عُقد في طهران هذا الأسبوع بين كبار مسؤولي الأمن في إيران والإمارات العربية المتحدة. إذ التقى الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن القومي لدولة الإمارات، مع علي شمخاني، رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، وكذلك مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.
وفي سياق متصل، هنالك أمثلة أخرى للدبلوماسية الإقليمية، حيث بدأ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يوم الإثنين جولة في منطقة الخليج العربي، مع خطط لزيارة سلطنة عُمان والإمارات والبحرين وقطر والكويت، قبل قمة مجلس التعاون الخليجي المرتقبة والتي تأتي مع رأب الصدع بين السعودية وقطر. كذلك عمدت العديد من الحكومات الإقليمية إلى رفع مستوى الاتصالات الدبلوماسية مع حكومة بشار الأسد في سوريا، بينما قامت حكومات أخرى لم تكن راضية عن سياسات وتحركات تركيا المزعزعة للإستقرار في المنطقة بالسعي « لإذابة الجليد» مع أنقرة.
حسب كاتب هذه السطور، فقد عبرت عن تشاؤمي مسبقاً حيال الحوار بين دول الشرق الأوسط وما سيتمخّض عنه من نتائج، نظراً للمصالح المتباينة بشدة التي تفرقهم. فمنتجي النفط الأغنياء لن يكونوا لديهم نفس الأولويات الاقتصادية التي يتمتع بها جيرانهم الأكثر فقراً واعتماداً على المساعدات الخارجية. فالملوك غير مدركين تماماً لماذا يشعر خصومهم غير الملكيين، والذين لايزالون في السلطة، بالحاجة إلى استرضاء الدوائر الانتخابية القوية _ ويخشى الطرفان من السابقة التي أرستها الجمهوريات والثوار والإصلاحيون في جميع أنحاء المنطقة. كما يعبر الثيوقراطيون ( الحكومات الدينية) خشيتهم من جميع أشكال الحكم البديلة، بغض النظر عن طبيعة تلك النظم المحتملة. فضلاً على أن المنافسات الجيوسياسية الدائمة وشبكات التحالفات لا تزال تؤثر على النزاعات المسلحة الممتدة من اليمن إلى بلاد الشام وصولاً إلى ليبيا.
وبموازاة ذلك، تخلت واشنطن بوضوح عن دورها كقوة ضاربة ومحوريّة في المنطقة. لقد كان هنالك مبالغة في ما يُعرف بـ « باكس أمريكانا» أي قوة السلام الأمريكي في بعض الأحيان، وخاصة من قبل أولئك الذين يشعرون بالحنين إلى عصر مُتخيل حيث يفترض أن واشنطن يمكن أن تكون الفانوس السحري القادرة على إيجاد حل للصراعات في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فقد كانت الولايات المتحدة تمثل قوة لها ثقلها في المنطقة، ولعبت دورا أكثر هيمنة من القوى الخارجية الأخرى من خلال إبراز النفوذ عبر التواجد العسكري الضخم لها، فضلاً عن علاقاتها المالية العميقة مع أغنى دول المنطقة، لا سيما دول الخليج العربي. كانت الولايات المتحدة هي الداعية و المشجع للمبادرات الدبلوماسية في الشرق الأوسط الأوسع، حيث كانت سياسات بعض الدول ضد أولويات واشنطن في المنطقة بينما البعض الآخر فجاءت تماشيا مع مصالحها و أولوياتها.
لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة هي التي تقود سياسات الشرق الأوسط بشكل أحادي الجانب أو حتى تحدد مصالح المنطقة. ولكن بفضل تمركزها في كل مكان، من أجل الخير وفي كثير من الأحيان للشر، عملت واشنطن كإطار مرجعي موحد، بما في ذلك بالنسبة للقوى المعارضة للولايات المتحدة، وكمنصة مشتركة في حال رغب اللاعبون الإقليميون في ذلك.
إن هذه المنفعة المحدودة بين الولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط الحليفة قد انتهت، وهو ما يعني أن الحكومات الإقليمية يتعين عليها الآن أن تبحر في لعبة معقدة على صعيدين. فعلى الصعيد الدولي، يتعيّن عليها العمل على تنمية العلاقات مع الولايات المتحدة والصين وروسيا وتحقيق التوازن فيما بينها، و التي جميعها تُؤثّر على الثروات الإقليمية من خلال الأسواق والاستثمار والقوة العسكرية. أمّا على الصعيد الإقليمي، يجب على حكومات الشرق الأوسط أيضا إعادة تقييم مصالحها الخاصة من دون مفهوم خاطئ في بعض الأحيان للمظلة الأمنية الأمريكية أو «عناق الدب»، الذي كان يوفر في الماضي مجالا واسعا للتصعيد المتهور والمخاطر الأخلاقية في المنطقة.
لكل دولة في الشرق الأوسط خصم أو مصدر تهديد يؤرقها ويؤثر على إستقرارها وأمن بلادها . فإسرائيل ترى في البرنامج النووي الإيراني و ترسانة حزب الله إضافة للهيئات الحقوقية الفلسطينية مصدر تهديد وجودي. فيما ترى السعودية و الإمارات في إيران وأذرعها بالمنطقة ولاسيما الحوثيين مصدر تهديد إستراتيجي ، بينما تعتبران قطر والأنشطة الإقليمية لجماعة الإخوان المسلمين أقل خطرا عليهما. أما بالنسبة لـ تركيا فقد حددت في مراحل مختلفة على مدى العقد الماضي المصالح الوطنية الأساسية في كل مكان من القاهرة وسوريا إلى قطر والعراق، حيث تكِنّ الحقد والضغينة ضد الولايات المتحدة وروسيا والمملكة العربية السعودية وغيرها في هذه العملية. وفي الوقت نفسه، صعدت طهران من حدة الصراعات في جميع أنحاء المنطقة واستثمرت في مجموعات متنامية من القوى العميلة التي نافست بنجاح سلطة الدولة، في حين اتهمت خصومها بالمشاركة في مؤامرة أمريكية إسرائيلية واسعة النطاق ضد إيران.
عموماً، هناك تهديدات مشروعة في الشرق الأوسط، ليس أقلها تنظيم ما يُعرف بـ «الدولة الإسلامية»، الذي يواصل العودة من جديد إلى العراق، والذي من المرجح أن يشكل تهديدا خطيرا لجميع الحكومات الإقليمية والمجتمع الدولي في حال عاد للظهور مرة أخرى. وهناك أيضا مصالح متباينة جداً يصعب التوفيق بينها. فتركيا، على سبيل المثال، تنظر إلى «حزب العمال الكردستاني»، على أنه تهديد أمني، في حين تنظر الولايات المتحدة وغيرها إليه على أنه شريك حيوي و محوري في شمال شرق سوريا، حيث كان له دور بارز في الحملة ضد تنظيم ما يُعرف بـ«الدولة الإسلامية» كما و يشكل نداً قوياً ضد نظام الأسد. ومن المرجح أن تستمر قطر في النظر إلى جماعة الإخوان المسلمين على أنها حليف مناسب أيديولوجيا وأداة عمليّة لإبراز سلطتها في جميع أنحاء المنطقة، في حين تنظر الإمارات و السعودية، في الوقت الراهن، إلى جماعة الإخوان المسلمين على أنها تشكل تحديا لشرعيتها السياسية ومصالحها الإقليمية.
إن الحراك الدبلوماسي في الوقت الراهن ما هو إلا بداية تصحيح المسار بعد العقدين الماضيين، عندما أدى التدخل الأمريكي في المنطقة إلى تفاقم الصراعات الإقليمية، وفي الوقت ذاته تمكين القوى الإقليمية _ بل وأجبرت في بعض الحالات _ على التخلي عن المسؤولية في توفير الاستقرار والأمن والحكم في الداخل، إضافة إلى محيطها الإقليمي. على مدى 20 عاما من ذروة التدخل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، كان بمقدور قادة الدول الإقليميين التصعيد وحتى شن الهجوم، بيد أنه في الوقت الراهن وفي ظل تقلص الوجود الأمريكي بالمنطقة، عليهم إغتنام الفرصة والتحلي بالمسؤولية والعمل على تحديد أولوياتهم العليا وإيجاد سبل لتخفيف حدة الخلافات أو التوصل إلى حلول وسط فيما يتعلق بالمسائل الجدليّة.
يتعين على دول الخليج العربي التوصل إلى نوع من التعايش مع إيران في ظل تراجع دور واشنطن في المنطقة، والتي ( إيران) كانت الأكثر وضوحا بين العديد من الجهات الفاعلة الإقليمية التي تستخدم القوة والعنف بالوكالة من أجل تحقيق أهدافها، وخاصة أن كل من إيران وتركيا والإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية وإسرائيل استخدمت القوة العسكرية لإبراز القوة والتدخل في الصراعات الإقليمية. وإلى حدٍّ ما، اعتمدوا جميعا على الولايات المتحدة لضمان عدم خروج تلك الصراعات عن نطاق السيطرة. ولكن من الواضح إن واشنطن لم تعد ترغب أو بالأحرى قادرة على أن تكون بمثابة حارس إقليمي لفضّ النزاعات في الشرق الأوسط.
ستتيح الدبلوماسية الجارية على أعلى المستويات بين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط تحديد الأماكن التي تتشابك فيها أولوياتها، حتى يتمكنوا من البحث عن حلول وسط جوهرية بشأن بعض التهديدات والمصالح الأساسية. هل هم على إستعداد لكبح جماح الميليشيات التابعة لهم؟ هل ستفتح قنوات دبلوماسية لتخفيف حدة الصراع بين الفصائل المتحاربة والحد من استخدام الصواريخ والطائرات المسيرة والاغتيالات عبر الحدود؟ هل يمكن لطهران والرياض أن تجدا مزيجا من الردع والإغراءات التي تجعل الطرفين أكثر اهتماما بالتعاون السياسي والاقتصادي من المواجهة العسكرية؟ ولكن في ظل إستثمار كثير من دول المنطقة في نهج التسليح ستبقى آفاق التعاون و الشراكة ضيقة وضئيلة. ومع عدم قدرة المنطقة على الإعتماد على واشنطن كلاعب دولي ملتزم أو موثوق به، فإن الدبلوماسية تمثل الأمل الوحيد والأنجح لدول المنطقة.
المصدر: وورلد بوليتكس ريفيو