بوتين يعدل بوصلة السياسة الخارجية الروسية

ديميتري ترينين

لقد كانت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غالباً تتمحور حول سياسة البلاد الخارجية. ففي الشهر الماضي فقط، أمضى عدة ساعات في مناقشة الشؤون العالمية خلال الاجتماع السنوي لنادي فالداي للحوار في سوتشي. ففي الآونة الأخيرة، أجرى مقابلة مطولة مع التلفزيون الروسي، تتطرق فيها إلى أوكرانيا وبيلاروسيا وحلف الناتو والولايات المتحدة . وبحضور كبار مسؤوليه في وزارة الخارجية ، ألقى بوتين في 18 نوفمبر / تشرين الثاني خطاباً عاماً، بالإضافة لإجراء مناقشات سرية. كان خطابه مُقتضباً إلى حدّ ما، لكنه أثار عدة نقاط جديدة مهمة وخاصة فيما يتعلق بخصوم روسيا : الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو وأوكرانيا. 

قال بوتين للمسؤولين الروس : “كان لتحذيراتنا الأخيرة وقعٌ معين؛ لقد بدأت التوترات في التنامي هناك على أية حال، عليهم (حلف الناتو) أن لا يُصعدوا الموقف وبالتالي حدوث حرب، فنحن بغنى عن خوض حرب أو صراع جديد”.

بوتين لم يقصد تحذيرات دبلوماسية. فالدبلوماسية غائبة أصلاً في علاقات روسيا مع أوكرانيا وحلف الناتو والقوى العظمى في الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا وفرنسا، ومع الولايات المتحدة فيما يتعلق بأوكرانيا، كما لم يعد الكرملين يعتبر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي شريكًا في المفاوضات في هذه المرحلة. وردا على انحياز الأوروبيين إلى كييف ضد موسكو بشأن تنفيذ اتفاقيات مينسك، نشرت وزارة الخارجية مراسلات دبلوماسية بين وزيرها سيرغي لافروف ونظرائه في باريس وبرلين؛ ووفقًا لسيرغي ريابكوف، نائب لافروف، فإن التبادلات الأخيرة بشأن أوكرانيا مع وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية الموفدة فيكتوريا نولاند لم تسفر عن أي نتائج، ووصلت المحادثات بين روسيا والولايات المتحدة في هذا الشأن إلى طريق مسدود. ورد الكرملين أيضاً على طرد الناتو لضباط روس مرتبطين بمهمة موسكو في بروكسل بقطع جميع العلاقات مع الحلف.

إن التحذيرات التي كان الرئيس الروسي يشير إليها على الأرجح هي أنشطة الجيش الروسي . ففي بداية العام، أجرت وزارة الدفاع الروسية مناورات عسكرية ضخمة على كامل الحدود مع أوكرانيا . لقد كانت تحركات القوات الروسية واضحة للعيان، وبعثت رسالة مبطنة مفادها أنها أبعد من مجرد كونها مناورة. وكرر ديمتري كوزاك، مسؤول الكرملين البارز في دونباس والعلاقات مع كييف، تحذير بوتين السابق من مغبة أي محاولة أوكرانية لاستعادة منطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين، على غرار مغامرة الرئيس الجورجي آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي في أوسيتيا الجنوبية في عام 2008 _ والتي في حال قيامها بذلك سيتم التدخل العسكري فيها .

وبالفعل، فإن الأمريكيين أخذوا المناورات العسكرية على محمل الجد . حيث أجرى الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، مشاورات مباشرة مع الجنرال فاليري جيراسيموف، رئيس الأركان العامة الروسية . بعد ذلك ، دعا الرئيس الأمريكي جو بايدن فلاديمير بوتين إلى اجتماع في جنيف أسفر عن استئناف محادثات الاستقرار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وروسيا.

وفي ظلّ كل هذا الحراك الدبلوماسي لم يكن هناك وقف للتصعيد فيما يتعلق بأوكرانيا ومنطقة البحر الأسود، وبشكل عام، أوروبا الشرقية. خلال الصيف ، تحدّت مُدمرة تابعة للبحرية البريطانية روسيا عبر الإبحار في المياه الإقليمية قبالة شبه جزيرة القرم، كما أن أوكرانيا أقرّت تشريعات تُجرّد الروس من صفة مجتمع أصلي كما إنها على وشك إقرار قانون آخر يستهدف الروس هناك، ورأت روسيا في هذه الأعمال الأوكرانية بمثابة خروج كييف رسميا من اتفاقات مينسك. ووفقاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين فإن الأوكرانيين استخدموا في دونباس طائرة مُسيرة تركية لاستهداف القوات الموالية لروسيا؛ كما كثّف حلف الناتو بشكل كبير من وجوده ونشاطه في البحر الأسود ؛ فيما حلّقت القاذفات الاستراتيجية الأمريكية بمهام على مسافة قريبة من 20 كيلومترًا من الحدود الروسية. كذلك توجيه أصابع الاتهام لروسيا لخلقها أزمة الغاز التي خيّمت على أوروبا . علاوة على ذلك، حتى أزمة المهاجرين على حدود بولندا  _ وهي جزء من خطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو لمعاقبة الاتحاد الأوروبي وإجبار قادته على الحوار معه _ تم إلقاء اللوم مباشرة على الكرملين بالوقوف وراء تحريض بيلاروسيا على فعل ذلك. وفي ضوء هذه التهديدات ضد روسيا، رأى بعض السياسيين والمحللين في موسكو بأن « جوهر اتفاق جنيف» أصبح على المحك.

أمام هذه التهديدات لم تقف روسيا مكتوفة الأيدي أمام خصومها . حيث سمحت روسيا لنصف مليون ممن اكتسبوا الجنسية الروسية حديثًا في دونباس بالتصويت في انتخابات سبتمبر / أيلول لمجلس الدوما، كما أضحت منتجات شركات دونباس ضمن قائمة مشتريات الحكومة الروسية، وعمدت روسيا أيضا إلى إيقاف شحنات الفحم إلى أوكرانيا . ونشر كل من الرئيس بوتين والرئيس السابق دميتري ميدفيديف _ الذي يشغل الآن منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي _ مقالات طويلة تنتقد بشدة سياسات السلطات الأوكرانية وخلصت بشكل أساسي إلى أنه لم يعد هناك جدوى من المسار التفاوضي مع كييف بعد الآن. في أعقاب هذه التصريحات من أعلى الهرم في السلطة ، أشارت تقارير في الولايات المتحدة إلى أن روسيا بدأت تحشد قواتها مرة أخرى على الحدود، وأصبح غزوها لأوكرانيا قاب قوسين أو أدنى.

حالياً ، هنالك مخاوف من اندلاع حرب في أوكرانيا. وقد حذّر وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكين الكرملين من محاولة تكرار ما أقدم عليه عام  2014، وأن ذلك سيكلّفه كثيراً. في الواقع ، باتت المخاطر اليوم أعلى بكثير مما كانت عليه قبل أكثر من سبع سنوات. في عام 2014  بعد أن حصل بوتين على تفويض من البرلمان الروسي لاستخدام القوة العسكرية “في أوكرانيا” _ حصر استخدامها الواقعي في شبه جزيرة القرم، بالإضافة إلى دونباس بشكل سري . لكن هذه المرة  _ وحسب تصريحات بوتين _ من المرجح أن يكون النطاق الجغرافي للعمل العسكري الروسي أوسع بكثير. وبالنسبة لأولئك الذين يتكهنون شكل العمل العسكري بالمنطقة يجب أن لا يلتفتوا إلى الفشل في الماضي سواء في أفغانستان أو تشيكوسلوفاكيا أو المجر. ولكن من المنطقي إسناد التكهنّات بناء على نجاح الوجود العسكري الروسي في سوريا، وأن الحرب مع أوكرانيا ستحدث بين ليلة وضحاها.

هل سيتخذ الرئيس بوتين القرار المصيري؟ هل أوكرانيا تمثل “العقبة الخطيرة ” التي سيسعى لإزالتها قبل نهاية فترة حكمه؟ أم أن بوتين مجرد مراوغ؟ بعض الأمور باتت واضحة للعيان. لن تقبل روسيا بانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو بأي شكل من الأشكال أو أن تتحول إلى قاعدة للطائرات الأمريكية على بعد بضعة أميال فقط من الحدود الروسية _ حسب مقارنة دقيقة من قبل زملائي بمعهد كارنيغي في واشنطن _ كما فعلت من قبل واشنطن عندما رفضت ان تصبح كوبا مكانا يسيطر عليه الاتحاد السوفيتي منذ نحو 60 عاماً. سيسعى أي رئيس روسي إلى منع أن يحدث ذلك على مقربة من حدود دولته، باستخدام أي وسيلة لديه.

هناك احتمال آخر يتمثل في عمل عسكري مكثف من قبل القوات الأوكرانية في دونباس، على الرغم من أن ذلك أمرٌ مُستبعد من وجهة نظر الغرب . ما فعله ساكاشفيلي في محاولته استعادة أوسيتيا الجنوبية بالقوة في عام 2008 لم يكن أبدًا ذكيًا للغاية في البداية، ومع ذلك لم يوقفه حليف جورجيا الأقدم. وفي خطابه أمام الدبلوماسيين يوم الخميس، وصف بوتين الدول الغربية بأنها غير موثوقة. على وجه الخصوص، اتهمهم  “بالسطحيّة ” بالنظر إلى الخطوط الحمراء والتحذيرات الروسية،  بغضْ النظر عما قد يقصده بهذه “السطحيّة “.

طلب بوتين من وزير خارجيته سيرغي لافروف أن تحصل  روسيا على “ضمانات جادة طويلة الأمد” في المنطقة الأطلسية. وهو أمر بالغ الصعوبة، حيث لا يوجد الكثير مما يمكن للدبلوماسيين الروس فعله لإعطاء بوتين ما يريد . ومن المرجح أن يحثّ بوتين دبلوماسييه على استغلال ثمار الردع العسكري الذي يقوم به حول أوكرانيا ومنطقة البحر الأسود وأماكن أخرى في منطقة أوروبا الشرقية. وبطبيعة الحال، فإن الرئيس الروسي لا يترك هذه المهمة بالكامل على عاتق الدبلوماسيين. حتى عندما كان يلقي خطابه المتشدد، كان سكرتيره في مجلس الأمن يجري محادثات مع مستشار الأمن القومي الأمريكي حول اجتماع محتمل آخر بين بوتين و بايدن. لن ينجح الردع العسكري الا إذا كان ذلك ينمّ عن تهديدات جدية، وأي محاولة من شأنها اختبار نوايا أو تهديدات الطرف الآخر و التكهن بأنها « عبثيّة» ستؤدي إلى كارثة لا تُحمد عُقباها .

المصدر: مودرن دبلوماسي 

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد