“غرفة الذاكرة”.. لوحات فنية على ركام “آمد”

كارلوتا غال

عشرات من التوابيت المزركشة بألوان زاهية عليها الأحرف الأولى لأسماء مدنيين كرد فقدوا حياتهم تم وضعها على أسوار قلعة قديمة، فيما غطت الشوارع لافتات تحمل أسماء ضحايا آخرين، بالإضافة إلى كومة ضخمة من الأحذية البلاستيكية تذكّر بالآلاف الذين قتلوا أو سجنوا خلال عقود من الصراع. هذه المشاهد تجسدت في لوحات فنية وذلك في معرض اقيم في مدينة آمد ( ديار بكر) ذات الغالبية الكردية في تركيا.

كان المنظمون للمعرض يأملون أن تكون رسالة المعرض بمثابة دافع للنهوض بالمنطقة التي دمّرتها حرب الاستنزاف، ولكن جرت الأمور خلافاً للتوقعات، فقد تعرّض المعرض لانتقادات لاذعة من قبل الأتراك والكرد على حدٍ سواء، وأغلقته الحكومة قبل موعده، في إشارة لمدى حساسية موضوع الكرد في تركيا.

ورداً على ما حدث، فقد أوضح الفنان أحمد غونيشتيكين بأنه:« كفنان كردي، أردت أن أظهر للرأي العام حقائق عن معاناة الكرد، وأردتهم أن يعيشوا التجربة بشكل واقعي».

شهدت شوارع مدينة آمد حربا ضروسا بين القوات التركية والمقاتلين الكرد عام 2015، أدت إلى خراب حي سور التاريخي. منذ ذلك الحين، فرضت على المدينة إجراءات مشددة، حيث زجّت السلطات التركية بالسياسيين والنشطاء الكرد في السجون.

كانت تأمل الغرفة التجارية في المدينة، التي نظمت المعرض، في أن يحوّل المعرض مدينة آمد لمكان جذب للزوار من كافة المناطق. اختار المنظمون السيد غونيشتيكين لشهرته العالمية، ولأن عمله الفني يكّرم الأقلية الكردية في البلاد. كما أن علاقته الجيدة منذ فترة طويلة مع أشخاص مقربين من الحزب الحاكم في تركيا تسهّل من مهمته أيضاً.

تضمن العرض الذي جاء بعنوان “غرفة الذاكرة” مزيجاً من الرسم والمنسوجات والنحت ومقاطع فيديو تعكس الفن السياسي وتذكّر بمعاناة الكرد والأقليات الأخرى طوال عقود من القمع في ظل الحكم التركي.

لم تكن الضجة حول المعرض متعلقة بجودة المحتوى بقدر ما كانت انعكاساً لمدى الاستقطاب في تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان.

عندما وصل إلى السلطة منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، حضّ أردوغان على المزيد من الحريات الثقافية للكرد، وخاصة في وسائل الإعلام والصحافة، وفي عام 2013  دعم عملية السلام مع المقاتلين الكرد. ولكن بعد انهيار إتفاق السلام عام 2015 ، أمر شخصياً بقصف المدن الكردية وقمع بشكل عنيف السياسيين والنشطاء الكرد.

الاستجابة للمعرض الفني الذي افتتح في تشرين الأول/أكتوبر فاقت التوقعات من نواحٍ عديدة: إفتتاح حافل بالمشاهير وحشود كبيرة وفنادق مكتظة. لكنها في نفس الوقت أحدثت أيضاً عاصفة من الإنتقادات من جميع الاتجاهات، بما في ذلك من وزير الداخلية التركي سليمان صويلو.

اعتبر صويلو أن المعرض يعبّر عن التعاطف مع الإرهابيين، وهو مصطلح تستخدمه الحكومة بشكل متزايد لوصف خصومها السياسيين. وأشار إلى أنه تم استخدام السيد غونيشتيكين في ذلك. وأضاف وزير الداخلية : “هذه هي المرة الأولى التي أشهد فيها استخدام الفن لدعم الإرهاب”.

لدى السيد غونيشتيكين العديد من الأصدقاء الذين تبوؤا سابقاً مناصب وزارية أو مستشارين للسيد أردوغان. هذه العلاقات، إلى جانب نجاحه التجاري والمالي، منحته الجرأة للقيام بما لا يستطيع الفنانون الكرد الآخرون بذلك. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتعرض لانتقادات لاذعة وغالباً ما كان يتغاضى عنها.

تعكس الكثير من أعماله الفنية تجربته الشخصية، لكنه اتّجه مؤخراً إلى إقامة معارض ذات رسائل سياسية لها وقعها في الرأي العام.

ترعرع السيد غونيشتيكين في بلدة باطمان المجاورة ثم إنتقل إلى آمد، حيث نشأ على يد زوجة أب أرمنية كانت يتيمة بسبب الإبادة الجماعية. قال إنه تأثر بالحرفيين متعددي الأعراق في طفولته بالحي الذي يقطنه، إضافة لتأثره بسنوات قضاها في التجوال بين القرى الكردية والاستماع إلى روايات أهلها، ناهيك عن تأثره بالروائي الشهير يشار كمال.

وقبيل تنظيم معرضه الأخير، قال إن حدثين هامين لا يزالان يشغلان ذاكرته. الأول كان مقتل 34 كردياً في عام 2011 عندما قصفت طائرات عسكرية تركية مجموعة من المهربين عبر الحدود من العراق بالقرب من قرية روبوسكي. و الحدث الآخر هو المعارك بين المقاتلين الكرد وقوات الحكومة التركية في المدينة القديمة في آمد عام 2015.

في المدينة جدار من اللافتات دوّنت عليه أسماء الضحايا الذين اختفوا أو لم يتم التأكد من وفاتهم. كما تم إنشاء لوحة أخرى من الحطام الذي تم انتشاله من أنقاض المنازل المدمرة في المدينة القديمة، وتم طلاءه باللون الرمادي وثُبّت على الحائط.

أظهرت مقاطع الفيديو تعرُّض اللغة الكردية للإندثار نتيجة لحظرها من قبل تركيا لسنوات عديدة. حيث في إحدى هذه المقاطع، ينطق الممثلون الحروف الكردية التي لا مثيل لها في الأبجدية التركية. وفي مقطع آخر، قام رجلان بضرب الحروف المكتوبة بالطباشير على السبورة بأشرطة جلدية حتى تختفي.

السيد غونيشتيكين ليس الفنان المعاصر الوحيد الذي تناول هذه الموضوعات، لكن معرضه كان إلى حد بعيد أكبر وأبرز معرض في آمد يتطرق إلى تاريخ هذا الصراع.

إمتد هذا الصراع _ الذي تمّ تصويره في المعرض الفني _ بين حزب العُمّال الكُردستاني و الدولة التركية لأكثر من ثلاثة عقود وخلّف ما يقدر بنحو 40 ألف قتيل، معظمهم من الكرد .

يتشابه برنامج حزب الشعوب الديمقراطي السياسي الموالي للكرد _ وهو حزب سياسي مُرخص بشكل قانوني في تركيا _ بشكل كبير مع حزب العمال الكردستاني، وتم اتهامه بالإرهاب لعلاقاته مع المقاتلين الكرد. وقد عزلت السلطات التركية العديد من نواب الحزب المنتخبين عن مناصبهم وسجنتهم مع عشرات الصحفيين والنشطاء .

كان التحول السياسي الأخير في تركيا واضحاً عند افتتاح المعرض. تم انشاء تحالف يضم أحزاب المعارضة التركية _ الذي تم تشكيله منذ حوالي ثلاث سنوات للإطاحة بأردوغان _ مع حزب الشعوب الديمقراطي بهدف توحيد قوتهم وأصواتهم قبيل انتخابات عام 2023.

وكان أبرز الضيوف في الافتتاح شخصيات بارزة، مثل أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية اسطنبول والمرشح المتوقع للرئاسة، ومدحت سنجار، زعيم حزب الشعوب الديمقراطي. فيما لم يحضر المسؤولون الحكوميون المعرض .

عبّر شباب كرد عن سخطهم على المعرض من خلال إلقاء تابوت معدني من الأسوار، وذلك في تعبير عن استيائهم من عدم إظهار المعرض جميع من فقدوا حياتهم خلال الصراع.

وقد شهدت وسائل التواصل الاجتماعي سيلاً من الإنتقادات. تعرّض لها حساب السيد غونيشتيكين على إنستغرام حيث يتابعه أكثر من مليون شخص، اضافة إلى حسابات شخصيات اجتماعية قامت بالتقاط صور سيلفي أمام النصب التذكارية للمعاناة، والضيوف الذين رقصوا في حفل الافتتاح.

بالنسبة للبعض فإن بغضهم للسيد غونيشتيكين سببه علاقاته مع سلطة الرئيس التركي أردوغان والحزب الحاكم .

قال أحد الفنانين المحليين إن إقامة مثل هذا المعرض كان من المستحيل بالنسبة لمعظم الفنانين الكرد. وقد سُجن الكثير منهم في تركيا بسبب إدلائهم بتعليقات سياسية. كما إن جميع أعمال الفنانين المعاصرين الكرد في تركيا تخضع للرقابة.

قال بعض سكان مدينة آمد  إنهم لا يحتاجون إلى “غرفة ذاكرة” لأنهم ما زالوا يعانون من اضطهاد الحكومة التركية لهم.

قال نصرت (30 عاما)  يعمل حلّاق لم يُفصح سوى عن اسمه الأول لاعتبارات أمنيّة : ” لقد عشنا على أرض الواقع ما يحاول المعرض التعبير عنه، فجرحنا لازال جديدا لم يندمل، ما الهدف من تذكيرنا بمأساتنا؟”

لكن في الوقت نفسه، شهد المعرض حماساً من قبل الكثيرين من زائريه على مدى شهرين، حيث كان يكتظّ بالزوار في عطلات نهاية الأسبوع.

قالت بينار تشيليك، 38 عاماً، مدرسة من أنقرة “كنت أتجول بحرقة قلب، هذا الفنان قد نشأ في ثقافتنا وذكّرنا بالقضايا التي كنا نحاول التستر عليها أو التغاضي عنها”.

قال الكثيرون إنهم لم يفهموا مغزى العمل بشكل كامل، بيد إنهم تعرفوا على الصورة الكردية والاستخدام التقليدي للألوان الزاهية في حضارتهم.

على الأسوار، نظرت المرأة الكردية، يلدز داغ، إلى التوابيت متعددة الألوان ونطقت بكلمة واحدة: “الاضطهاد”.

وأضافت: “نشعر بالحزن لرؤية هذا المشهد المحزن، بيد أنه من المفيد التذكير بما حصل لأننا لن نسمح بأن يتكرر ذلك مجدداً”.

المصدر: نيويورك تايمز

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد