مؤرخ بريطاني يكشف الأخطاء الفادحة وراء اندلاع الحرب الأوكرانية

تونكو فاراداراجان

أرجع الكاتب روبرت جون سيرفيس الغزو الروسي لأوكرانيا إلى خطأين استراتيجيين فادحين. أحدهما بدأ في 10 نوفمبر/تشرين الثاني عندما أبرمت الولايات المتحدة مع أوكرانيا ميثاق الشراكة الاستراتيجية، والذي أكدت فيه دعم الولايات المتحدة لحق كييف لنيل عضوية في حلف شمال الأطلسي. من خلال هذه الاتفاقية باتت أوكرانيا قاب قوسين أو أدنى من الانضمام لحلف شمال الأطلسي، وهو أمر لطالما كان يؤرّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ويصف سرفيس هذه الإتفاقية بقوله ” لقد كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير” . حيث بدأت بعدها مباشرة استعدادات روسية لغزو أوكرانيا.

يعتبر السيد سيرفيس (74 عاما) مؤرخ مخضرم في روسيا، وأستاذ فخري في كلية سانت أنتوني بأكسفورد وزميل في معهد هوفر بجامعة ستانفورد . ألف مجموعة من الكتب عن السيرة الذاتية لكل من لينين وستالين وتروتسكي . أثار العمل الأخير ، الذي نُشر في عام 2009، حفيظة التروتسكيين المتعصبين في جميع أنحاء العالم لقولهم إن بطلهم شارك كثير من الأفكار الأساسية مع لينين وستالين حول “دولة إرهابية ذات حزب واحد، وأيديولوجية واحدة”. ويضيف سيرفيس إنهم ما زالوا يسعون لإدخاله في ويكيبيديا بشكل ” عبثي” .

جاء الإتفاق المبرم في تشرين الثاني /نوفمبر إضافة نوعية للتأكيدات التي تلقتها أوكرانيا في قمة حلف شمال الأطلسي قبل نحو خمسة أشهر بأنه ستقبل عضويتها حالما تستوفي معايير الحلف. كما وصف سيرفيس هذه التحركات بأنها “إدارة فاشلة و مخزية ” من قبل الغرب الذين حفزوا أوكرانيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، سيما أنهم لم يأخذوا بالحسبان ردة فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. حيث أشار سيرفيس :« لم يتم تهيئة الأوكرانيين لأخذ احتياطاتهم في حال تعرضوا للخطر».

 وأضاف سيرفيس :« تعتبر أوكرانيا من القضايا الحيوية بالنسبة لفلاديمير بوتين ، ولا يعرف ما ستكون ردة فعله تجاهها». منذ عام 2007 عندما ألقى الرئيس الروسي خطاباً في مؤتمر ميونخ للسياسة الأمنية عرف الغرب، بحسب تعبير سيرفيس، ” رفض بوتين القاطع انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي”. بعد ذلك تنحى بوتين عن الرئاسة الروسية ليصبح بعدها رئيسا للوزراء لمدة أربع سنوات حيث وصف سيرفيس ذلك بقوله ” كان أخر خطاب حماسي له في أوج قوته”. وعندما أعتلى سُدة الحكم في عام 2012 ، شدّد مرة أخرى على أن ” أنضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي مرفوض جملةً و تفصيلاً”.

تكهن سيرفيس في تموز /يوليو 2021 عبر مقال له عن الغزو الروسي لأوكرانيا . ولخص الأمر بالقول :« إن الأوكرانيين والروس شعب واحد، وقد ذكر بوتين ذلك مرات عديدة من قبل، لكن ليس بغضب واندفاع وعاطفية كما هو الحال اليوم».

إن السبب الكامن وراء رفض بوتين انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي، إضافة إلى سعيه أن تكون في فلك روسيا هو ” عدم قبوله بدولة سلافية على أعتاب روسيا تنتهج الديمقراطية، وما ينتج من تداعيات خطيرة على الشعب الروسي”.

وبحسب سيرفيس فإنه نتيجة للغزو الذي بدأ في 24 شباط /فبراير ” بدأت الولايات المتحدة توحد جهودها، ولكن لا أعتقد بأن الدبلوماسية الأمريكية كانت ناجحة خلال عام 2021″.

الخطأ الثاني

والخطأ  الاستراتيجي الثاني وفقاً لسيرفيس هو استخفاف بوتين بخصومه .” فهو يعمد إلى إذلال الغرب ويراه منحطاً فوضوياً من الناحيتين السياسية والثقافية. كما أنه يعتبر الزعماء الغربيين تنقصهم الكفاءة والخبرة مقارنة به الذي كان في السلطة لمدة 20 عاما “.

ووفقًا لتقديرات بوتين فأن الغزو كان بمثابة “مهمة سهلة” ليس فيما يتعلق بأوكرانيا فقط، ولكن بالغرب أيضاً. لقد كان متفوقاً على دونالد ترامب على مدى 4 سنوات، وكان يظن أن تقاعد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل جعل الغرب في حالة تخبّط. ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن بغزوه لأوكرانيا، حيث وحّد الغرب ضده. حيث يصف سيرفيس، الرئيس الروسي بوتين بأنه ” طائش و ذو تفكير سطحي” ويسخر من تلك الفترة التي تصف بوتين بـ ” الذكي”، وتساءل أي نوع من زعيم روسي  يدفع ”  زعيم ألماني يتخذ قرار كان مستحيلاً عما مضى، وذلك عبر بناء أسلحة لألمانيا”؟

من الواضح أن بوتين “كان يأمل ألا تكون هناك حرب” لأن حشد القوات على الحدود سيؤدي إلى انهيار الحكومة الأوكرانية. لقد حطّ بوتين من شأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي التقى به في باريس في أيلول / ديسمبر عام 2019 ، وذلك بعد مُضي 6 أشهر من توليه لمنصبه. وقام بوتين ” بإجراء محادثات قاسية مع نظيره الأوكراني زيلينسكي الذي خرج منها وعلامات الغضب بارزة على مُحياه”.

ووفقاً لسيرفيس، فإن ما يطمح إليه بوتين هو ” إستعادة أمجاد روسيا كقوة عظمى” بالإضافة إلى أن مجال النفوذ الروسي يتوجب أن يمتد ليشمل أكبر عدد ممكن من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ” وأكثر هذه الدول أهمية بالنسبة له هي أوكرانيا “.

يصف المؤرخ سيرفيس، الرئيس الروسي بأنه ” ليس شيوعياً بل يقف ضد الشيوعية”. وتبعاً لوصف سيرفيس، فإن بوتين يعتبر  الحقبة السوفيتية بمثابة “حاجز “يقف في طريق وصول روسيا لمصاف الدول العظمى، كما يؤمن ” بدولة روسيا الخالدة “وينظر بوتين إلى لينين من منظور “السخرية والازدراء ” ولم يتفوه بأي كلمة يُثني عليه لأنه أوقف التوسع الروسي، في الوقت نفسه كان يمدح و يُطري على ستالين “.

ويعتبر سيرفيس بأن بوتين يرى أن لينين أرتكب خطأ فادحاً عام  1922 عندما ضمّن بالدستور السوفييتي حدوداً لجمهوريات فيدرالية داخل الاتحاد السوفييتي. وتعقيباً على ذلك يقول سيرفيس :« جعل هذا أن تفكك الاتحاد السوفييتي إلى مجموعة من الدول المستقلة عام 1991» . اختلف بوتين وستالين مع بعض بنود مواد الدستور الذي وضعه لينين، فبوتين كان يود دمج جميع هذه الجمهوريات في بوتقة روسيا الكبرى التي تحكمها موسكو.

يقول سيرفيس: « إن بوتين يُبغض الديمقراطية» . وبدلاً من ذلك، يؤمن بحق القيادة في فرض سلطة الدولة على المجتمع. ويعتبر هذا الأمر يصب في مصلحة المواطنين لأنه يُرسي دعائم الأستقرار ويستطيع تكهن ما يحدث في حياتهم. إضافة لإيمان بوتين بدور الشرطة السرية التي تخدم عمل الحكومة . بناء على ذلك، يشير سيرفيس إلى أن العديد من أساليبه “تذكرنا بالحقبة السوفيتية” حتى ولو لم تكن أيديولوجيته كذلك.

وبحسب سيرفيس فإن بوتين يرى نفسه ” المُخلص و المُنقذ” حيث سيوصل روسيا إلى برّ الأمان . إنه يدير حكومته مثل “محكمة على نقيض القياصرة السابقين الذين كانوا أكثر مرونة مع وزرائهم”. وفي حال لم يدخلوا في معترك سياسي مع بوتين فإنه لا يقوم بتصفية من يخالفه أو لا يتبنى رؤيته، و بدلا من ذلك فهو ” يُقيد تحركاتهم و يرهبهم ويعاملهم كطلاب المدارس، و يرهقهم بالأسئلة لكي يبقيهم في حالة توتر وهلع  “. كان بوتين ضابطاً رفيع المستوى بجهاز المخابرات السوفييتي ( KGB) التي تم تغيير تسميتها لاحقا إلى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي ( FSB)، وهي الهيئة الوحيدة من حقبة الاتحاد السوفييتي التي بقيت حية إلى يومنا هذا.

في ظل استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا للأسبوع الثاني على التوالي، لم يُخف سيرفيس تشاؤمه الذي قال إننا على أعتاب حرب طويلة الأمد ستنتهي بإخضاع أوكرانيا، مضيفاً ” سينتصر بوتين بالحرب بعد أن يُدمر أوكرانيا وشعبها لكنه لن يُحقق السلام . فضلاً عن أن احتواء الأوكرانيين أمر يفوق طاقة روسيا في ظل الغضب الذي يسود الشارع الأوكراني ضد هذا الغزو”.

بالنظر إلى التاريخ بحثاً عن مقارنات، رفض بوتين اجتياح السوفييت دولة تشيكوسلوفاكيا عام 1968، مفضلاً بدلاً من ذلك مثال المجر في عام 1956، عندما دخلت الدبابات السوفيتية إلى بودابست لقمع انتفاضة كبرى. يشير سيرفيس: “عندما قمع السوفييت الثورة المجرية، ترتبت على موسكو عبئاً اقتصادياً، إذ كان عليهم دعم المجر بالنفط والغاز . وقد أُرهقت موسكو بهذا العبء الاقتصادي بغية إبقاء المجر في فلكها السياسي، وسينطبق ذلك أيضاً على أوكرانيا. ولكنهم سيكونوا مبغوضين من قبل الشعب الأوكراني، ناهيك عن تحمل عبء استرضاء الشعب المحتل في مرحلة تعاني فيها روسية نفسها من الفقر “.

ويقترح سيرفيس بأنه “يتوجب عزل بوتين من السلطة”. وهذه هي الطريقة الوحيدة لإنهاء معاناة أوكرانيا. مشيراً إلى أن ذلك يتحقق عبر شرطين. أولهما هو حدوث” انقلاب داخل الكرملين “وهو أمر مُستبعد في الوقت الراهن، ولكنه قابل للتحقيق. والشرط الثاني هو قيام” انتفاضة شعبية” كردة فعل ضد تدهور اقتصاد البلاد نتيجة اكلاف الحرب الباهظة، وما قد تنتج عن ذلك من فرض العقوبات الغربيّة.

ولكي يتحقق حدوث ” انقلاب داخل الكرملين” ينبغي أن يكون هناك استياء صريح داخل أروقة المؤسسة الروسية . يعتقد سيرفيس إلى أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وأكاديمية العلوم بقيتا صامتتين حيال الغزو الروسي لأوكرانيا ولم تشجبا الغزو. وحسب سيرفيس فأن ” المؤسسة الروسية ماتزال متماسكة، بيد أن المصالح الشخصية والعامة للنخبة الحاكمة معرضة للخطر. فالعقوبات لن تقتصر فقط على منعهم من السفر إلى منطقة الريفيرا الفرنسية الساحلية أو إرسال أبنائهم إلى كلية إيتون في إنكلترا؛ بل سيتعين عليهم اتباع سياسة بوتين المتهورة، التي ستجبر روسيا على القيام بدوريات في أكبر دولة بأوروبا، حيث الشعب الغاضب والمنتقد لهذا الغزو “.

و بالرجوع للكتب التاريخية مرة أخرى، تم الاستشهاد بقضية رئيس أمن الدولة المخضرم في عهد ستالين، لافرينتي بيريا، حيث كان المرشح الأقوى ليصبح رئيساً للاتحاد السوفيتي بعد وفاة ستالين عام 1953. بيد أن المجلس الأعلى السوفيتي أو ما كان يعرف بالمكتب السياسي للحزب الشيوعي عقد اجتماعاً مع نيكيتا خروتشوف واعتبروا ” بيريا يُشكل خطراً عليهم” . بعد ذلك و بمساعدة الجيش اعتقلوه وحاكموه شكلياً ثم أعدموه. يقول سيرفيس: ” إن الأمر الذي يجعلني أتساءل هو سلاسة وسلمية المجلس الأعلى مع قرارات بيريا والذي لم يكن يقف ضده”. ولكن إعدامه من قبل هذه الهيئة شكّل صدمة ليس فقط للعالم ولكن لبيريا نفسه”.

يتابع سيرفيس : « على غرار حادثة بيريا، من الممكن أن يرى شركاء بوتين في الكرملين على ما يبدو أن المصلحة الوطنية الروسية ومصلحتهم العامة تقتضي الإطاحة ببوتين “. ولكن بوتين أطلع على مصير بيريا وأخذ حذره من أي محاولة قد تنال منه، ووفقاً لسيرفيس فأن ” بوتين شخص قوي وصارم وأوامره الأمنية قاسية للغاية “.

ويضيف سيرفيس إنه كلما طال أمد الحرب زاد احتمال أن تواجه روسيا حركات احتجاجية يصعب احتوائها . “خاصة أن كان بين صفوف الشرطة ذاتها متعاطفين مع الأشخاص الذين من المفترض أن تقوم بقمعهم”.

شهد التاريخ الروسي انتفاضات متعددة أهمها حسبما يذكرها المؤرخ سيرفيس : كان عام 1905 منطلقاً للاحتجاجات التي كادت أن تقع في هذا العام،  ولكنها اخمدت . و في شباط / فبراير عام 1917 حدثت انتفاضة شعبية في روسيا . وفي العام 1930 وما تلاه عمت المدن مظاهرات شعبية واسعة أقلقت ستالين. كذلك كان هنالك احتجاجات في أواخر 1940 بالإضافة إلى حدث وفاة ستالين. وبحلول عام 1962 اندلعت احتجاجات واسعة ضد النظام السوفيتي بسبب ارتفاع أسعار اللحوم، وشهد عام 1989 اضرابات في صفوف عمال مناجم الفحم، مما أدى إلى زعزعة استقرار السياسة السوفيتية.” وفي عام 1991، أدت محاولة انقلاب ضد ميخائيل جورباتشوف إلى حدوث مظاهرة خارج البرلمان، حيث واجه الرئيس الروسي المستقبلي بوريس يلتسين الدبابات السوفيتية.

وفي هذا السياق، يقر سيرفيس بأن المعارضين نجحوا مرتين فقط في الإطاحة بالمؤسسة السياسية، لكنه يقول” إن كانت هناك فوضى سياسية وتذمر للنخب الحاكمة من سياسة الحكومة” كما حدث في عامي 1917 و 1991، ستكون هذه العوامل ذات تأثير قوي للإطاحة بها . ولكن هذا أمر مستبعد ان يحدث في الوقت الراهن.

إن سيرفيس على يقين بأن الأوكرانيين على الرغم من احتلال بلادهم إلا أنهم شعب حر و سيقاومون الروس. لقد أصبح الأوكرانيون أكثر وعياً ووطنية خلال القرن العشرين، وهم شعب لن ينسى ما حدث له عندما كانوا تحت حكم الاتحاد السوفييتي، ولن يقبلوا أن يُعيد التاريخ نفسه . في مطلع عام 1930 ذاقوا مرارة المجاعة في ظل حكم ستالين، عندما مات كثير منهم نتيجة لها . وفي أواخر الأربعينيات مع نهاية الحرب تجرعوا نفس الكأس. لا أعتقد أنهم سيسمحون للتاريخ أن يُعيد نفسه.

ويختتم سيرفيس قوله ” إن غزو روسيا لأوكرانيا ليست مأساة لأوكرانيا وحدها بل إنها تشمل روسيا أيضاً. فالشعب الروسي لا يستحق حاكماً مثل بوتين. علاوة على ذلك، لم يُسعفهم حظهم كثيراً في ظل فترة خضوعهم لحكامهم على مدى 150 عاما الماضية. في الحقيقة ، لقد كان حظهم متعثرا و مشؤوم”.

المصدر: وول ستريت جورنال

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد