حسين جمو
لطالما عرف تنظيم داعش كيفية التحرك المريح ضمن الفراغ الذي تخلقه التناقضات الإقليمية والاجتماعية، ليعزز من امتداد حضوره التدميري في سوريا والعراق. فإن مكاسبه تلك، جاءت حصيلة عملية حسابية في عالم السياسة: حصيلة مجموع التناقضات الصفرية بين القوى الرسمية المتنافسة.
أغفلت معظم المحاولات التعريفية لتنظيم داعش، الدور البارز لـ”الفراغ التدميري” الذي تبنته معظم دول المنطقة، فهذا النوع من الفراغ هو أن يصل الاختلاف بين طرفين حداً، بحيث لا يسمح أي منهما للآخر بملء الفراغ في منطقة معينة، وهذه كانت لحظة داعش التاريخية. فلم يكتفي التنظيم بذلك، بل ابتكر تكتيكاً فعالاً للغاية بهدف الحفاظ على مساحة “الفراغ” وتوسيعها، فبدأ على الفور بتأدية خدمات إقليمية، قد لا تكون هذه المهام تنفيذاً لتكليفات من دول إقليمية، إلا أنّ هذا النوع من التحرك في تأدية المهام نيابة عن دولة تشعر بقيود دولية لتنفيذ المهمة بنفسها، قد منح التنظيم فرصة البقاء أربع سنوات على مساحة واسعة تصعب إدارتها حتى من قبل الدول الرسمية.
ضمن هذا التكتيك نال التنظيم، الاعتراف الضمني من تركيا، وما كان لذلك أن يحدث لولا الخدمة الذهبية التي قدمها التنظيم عبر هجوم على الحواضر الكردية بشكل وحشي. بالغ التنظيم في تقديم الخدمات لتركيا وقوى إقليمية، وهذه الخدمات لم تكن دائماً تخدم تعزيز مواقع التنظيم، وأصبحت السبب في حشد تحالف دولي واسع لردع هذا التشكيل العسكري الذي حولته خدماته الإقليمية لتركيا من تنظيم ذو استراتيجية عنفية مستقلة، كما صوّر نفسه، إلى متطوع مرتزق استراتيجي في اللعبة الإقليمية.
منذ مطلع آب أغسطس 2014، أطلق التنظيم حملة عسكرية وحشية استهدفت أولاً حاضرة الإيزيديين شنكال، ثم حاول التقدم صوب عاصمة إقليم كردستان، ولاحقاً اجتاح مناطق كردية في سوريا بدءاً من كوباني ومن ثم محاولات تطويق منطقة الجزيرة.
لم يكن هذا التمدد الداعشي صوب الحضور الكردي، من كركوك إلى كوباني، ضرورة لتنظيم يهمه قدر الإمكان إطالة وجوده، وليس من المرجح أن أياً من قيادات التنظيم سكنه الوهم أن دولتهم التي أعلنوها لديها فرصة للبقاء أكثر من بضع سنين في أحسن الأحوال، لكن لم عجّل التنظيم نهايته من تلقاء نفسه؟ ما الذي دفعه إلى إجبار “المجتمع الدولي” على التحرك ضده وهو – أي المجتمع الدولي – كان مكتفياً بمراقبته من بعيد، بينما يقوم التنظيم باستهداف جنود الجيشين العراقي والسوري ويعلق رؤوس الجنود القتلى في الشوارع العامة؟ الإجابة الأقرب للتفسير لا يخرج عن أمرين: إما مبالغة لدى التنظيم في تأدية خدمات تطوعية للاستفادة من المساحة التركية في تزويد التنظيم بالمقاتلين عبر الحدود المفتوحة أمام المتطوعين القادمين من أنحاء العالم، وإما وجود اختراق تركي مباشر لقيادة التنظيم. لاحقاً، بعد غزوتي شنكال وكوباني، تراجع الاحتمال الأول مع تقدم فرضية تحكم تركيا بكل أو جزء من قيادة تنظيم داعش.
في كل الأحوال، ما قام به تنظيم داعش بتوجيهه قواته ضد الكرد من كركوك إلى كوباني، حقق وظيفة مباشرة للأمن القومي التركي، وكذلك أدى وظيفة للطروحات القومية الإسلامية العربية، النسخة السائدة لدى المعارضتين السنّيتين في سوريا والعراق، رغم أن المجموعات المزعومة بتمثيلها للعرب السنّة في البلدين قد تعرضت لتهميش وضربات من التنظيم ذاته، لكن لا يمكن إغفال أن هذه المعارضة احتفت بصمت بفظائع تنظيم داعش في كوباني وشنكال والرقة، خاصة حين كان الضحايا من المقاتلين الكرد أو العرب الشيّعة.
من تبنى قرار السبي؟
يمكن التعمق أكثر في خلاصة كتبها الصحفي فراس كيلاني عبر تحقيق صحفي عن سيرة زعيم داعش الجديد بعد مقتل أبو بكر البغدادي. فقد تتبع أصول عبدالله قرداش، الذي عرف عنه بأنه من أصول تركمانية عراقية، ليظهر فجأة بمزاعم أنه من سلالة آل البيت. والتحقيق الصحفي لم يخرج بإجابة قاطعة، فالاحتمالان لهما سند، غير أنه من اللافت أن مادة صحفية تتطرق للمرة الأولى إلى الجدل الداخلي في الدائرة القيادية لداعش خلال غزو منطقة شنكال الإيزيدية في آب/ أغسطس 2014 حين اتخذ التنظيم القرار الوحشي الأول من نوعه منذ نهاية عصر الامبراطوريات القروسطية وصولاً إلى مطلع القرن العشرين، وهو السبي. فقد انقسم التنظيم إلى تيارين، الأول رفض فكرة السبي، وكان يمثله الدواعش العراقيون، بحسب التحقيق الصحفي لفراس كيلاني، والثاني كان يدعو إلى سبي الإيزيديات والمسيحيات في سهل نينوى.
اللافت أن رأس حربة التيار الثاني الأكثر تطرفاً، وكان يقوده المدعو عبدالله قرداش حسب شهادات من داخل التنظيم، وكان أتباع قرداش من قيادات الجناح السوري للتنظيم. فاختار البغدادي حلاً وسطاً وهو منع سبي المسيحيات وإجازة سبي الإيزيديات، والأرجح أن هذه كانت غاية قرداش وغاية الجهة الدولية التي يخدمها، إذا كان فعلاً يعمل حينها لحساب دولة، وهذه الدولة لن تكون سوى تركيا.
لقد قاد قرداش التنظيم إلى حتفه بهذا القرار، أي السبي، وأتبعه بقرار لا يقل فداحة عن سابقه وهو غزو مدينة كوباني. أي مخطِط هاوي يعلم أن هاتين الخطوتين تعني قرار إعدام ذاتي، وهو ما حدث فعلاً. لا أحد يمكنه التكهن كم كان التنظيم سيستمر في عدد السنوات وهو يبني نموذجه المتطرف في مناطق سنية في سوريا والعراق لو أنه تجنّب غزو شنكال وكوباني. وعليه، عند هذه النقطة يمكن رسم خط فاصل بين القرار الاستقلالي للتنظيم (حتى صيف 2014) وبين تنفيذه أجندة الأمن القومي التركي وبقايا النسخة البعثية العراقية. فقد هاجم التنظيم بالتحديد المناطق الكردستانية خارج إقليم كردستان أو ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها، وقام – لفترة شهور – بإعادة رسم حدود كردستان العراق هناك إلى زمن صدام حسين عام 1991.
السؤال المكرر للمرة الثانية في هذه السطور: لماذا وجّه التنظيم استراتيجيته التوسعية على نحو مفاجئ نحو الكرد، ولم يكتفي بما لديه من مناطق شاسعة لم يكن ينازعه فيها أحد، بما في ذلك الموصل؟ لماذا اتخذ التنظيم قرار الانتحار وهو يعلم أن هجومه على الكرد وتهديده عاصمة إقليم كردستان العراق، سيؤدي إلى تدخل دولي نظراً لاختلاف الظروف التاريخية والاجتماعية – وفق الرؤية الدولية – بين الموصل والرقة وبين كوباني وشنكال وأربيل؟
بناء على هذا القرار التوسعي تجاه الكرد تم إعلان تشكيل التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وهذا التحالف هو الذي شكل الغطاء التمويلي والعسكري الجوي لتدمير التنظيم وإنهاء أوهامه في الخلافة، وذلك بالتعاون مع قوى محلية أبرزها، قوات سوريا الديمقراطية. لا يمكن الدفاع عن أي تفسير يعتبر أنّ خطوة داعش قد اتخذت بناء على قرار مستقل، كما لا يمكن اعتباره سوء تقدير في التخطيط، لأن أصغر مجموعة سياسية هاوية في الشرق الأوسط تدرك التداعيات مسبقاً. إذاً، كيف يمكن قراءة هذا التوجه المنفصل عن بديهيات الحسابات السياسية؟
كان لافتاً في واحدة من خطابات أبو محمد العدناني، الناطق باسم داعش، تعليقه على هزيمة التنظيم في كوباني بعد صمود مجموعة صغيرة من المقاتلين الكرد حتى النهاية، قبل أن يتدخل التحالف الدولي. فقد قال العدناني الذي قتل لاحقاً في غارة أميركية: “خرجنا منها لكننا تركناها لهم خراباً“. الوقوف عند هذا التشفي الذي بات “ترينداً” في تعليقات الكراهية المستهدفة للكرد يقود إلى سؤال آخر: هل هناك حركة ذات أهداف سياسية في العالم تدمر نفسها من أجل إلحاق ضرر بالخصم؟ قد يصح ذلك في حالة الأفراد عبر العمليات الانتحارية، أما أن تتبع حركة مسلحة عنفية ذات أيديولوجيا توسعية، مثل داعش، هذا المبدأ الشوارعي، فهذا يعني أنها لم تعد تعمل لحسابها، بل لحساب آخرين كانوا سعداء بتنبؤ سقوط كوباني خلال 24 ساعة.
استغلال التناقضات
كما في العمليات السابقة الموجهة ضد الكرد، لا تخرج الهجمات الأخيرة في كركوك ومخمور من هذا الإطار التوكيلي. والموكلون باتوا كثراً. وقد لا يكون التوكيل إصدار أمر للتنظيم بتنفيذ هجمات. يكفي إفساح المجال أمامه لشن هجمات عبر سحب نقاط عسكرية، والتخفيف من نقاط التماس معه لمنحه مساحة مناورة لشن الهجمات ضد خصم معين. في بعض الحالات قد لا يكون تنظيم داعش هو منفذ الهجمات كافة، مثل سقوط صواريخ كاتيوشا على معسكر للبيشمركة على أطراف كركوك. ظاهرياً، التنظيم يشن هجمات، غير أنّ هناك من يتسلل عبر داعش، ويضيف جرعة إضافية من الصواريخ والكمائن.
بالنسبة لإقليم كردستان العراق، من غير الصائب قراءة الهجمات الأخيرة على البيشمركة بعيداً عن التحالفات الانتخابية الجاري العمل عليها لتشكيل الحكومة في بغداد، ومن غير الصائب استبعاد تصريحات الجبهة التركمانية بضرورة منحها مكاناً في خريطة الانتشار العسكري في المناطق المتنازع عليها. هل هناك أطراف عراقية وإقليمية ترى أن الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وضعا سقفاً عالياً لمشاركتهما في دعم أي حكومة في بغداد؟ هل هي رسالة تحذير تركية من أي صفقة متوقعة بين الصدر والأحزاب الكردية بعودة البيشمركة إلى كركوك وتعيين محافظ من الكرد كما كان قبل استفتاء الاستقلال؟ هل الاتفاق النفطي المعلّق بين أربيل وبغداد له صلة بخلفية هذا التوتر؟ في كل الأحوال، وفي ظل إصرار المهاجمين على حرق منازل الكرد في قرية لهيبان، هل وصلت الرسالة للأحزاب الكردية من أنّ قواتهم ليست مؤهلة للتعامل مع هذا النوع من المواجهات (وربما لا تريد المواجهة كما حدث في شنكال) وبالتالي الأفضل لهم عدم رفع سقف مطالبهم بما يتجاوز الخطوط الحمراء للقوى الموجهة للرسائل؟
إنّ داعش تنظيمٌ لا حظّ له في الاستمرار والبقاء، حتى على شكل خلايا، في حال لم تكن هناك تناقضات عميقة بين القوى السياسية الرئيسية. متى ما تصاعدت التناقضات بين الخصوم يحضر تنظيم داعش بنفسه ليتحرك في الهامش الذي يسمح به الخصوم ليستأنف لعبته مجدداً، وفرصته في ذلك سانحة، سواء في العراق أو سوريا، ذلك أن التناقضات المحلية حين تخرج عن حدود الحوار، ويبدي أحد الأطراف تعنتاً في قراءة الواقع، فإنه يتبنى خيار الاستثمار في أي شيء يضر خصمه، وقد انعكس ذلك جلياً في سلوك النظام السوري وإعلامه تجاه الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية من خلال التشفي بتعرض الكرد لغزوات تركية متتالية، ومحاولة استثمار الاحتلال التركي لإخضاع الإدارة الذاتية والعودة بسوريا إلى ما قبل 2011.