فرهاد حمي
في كتابه “يجب الدفاع عن المجتمع” أراد المفكر الفرنسي ميشيل فوكو أن يأخذ زاوية مختلفة لقراءة النظام الدولي، وعلى وجه الخصوص، من خلال مسببات ظهور مفهوم السيادة الشرعية للدول القومية المعاصرة. فهذا المفهوم حسب فوكو لم يكن ينتمي إلى الطرح القانوني لمبدأ السيادة تاريخياً وسياسياً، وإنما مرتبط بصورة مباشرة بالحرب والصراع والاستراتيجية. بالعموم، يشكل منطق القوة وتشكيل السلطة في الحروب أسس النظام الدولي الحديث، تارة يأخذ شكل صراع الطبقات والحروب الأهلية، وتارة أخرى، يسخر نظرية الأعراق والعنصرية.
يبدو أن بوتين الذي يشن غزواً أو اغتصاباً على أوكرانيا على حد تعبير سلافوي جيجك في مقالة له مؤخراً، لا يستلهم استراتيجيته الحربية التوسّعية من ستالين أو لينين، وإنما يغويه مسيرة الامبراطور الروسي الشهير، بطرس الأكبر، باني روسيا الحديثة عبر منطق التوسع والقوة. على غراره، أراد بوتين منذ احتلال جورجيا والقرم أن يعكس معادلة القوة في وجه الطرح القانوني والميثاق الدولي مستفيداً من ازدواجية المعايير لدى الغرب في التعامل مع القانون الدولي. ظهر جلياً رمزية هذه المقاربة، عندما أعلن بوتين الحرب على أوكرانيا قبل أيام، تزامناً مع السجالات التي كانت تدور في أروقة مجلس الأمن الدولي حول وجوب الالتزام الروسي بالمعايير الدولية، من جهة نزع فتيل الحرب وتبني الحلول الدبلوماسية والسلمية.
تاريخياً، ثمة قول مأثور للمنظر العسكري البروسي- الألماني، كارل فون كلاوزفيتز، كان يُطبّع الثقافة الحربية الغربية، مفاده أن ” الحرب ليست سوى استمرار للسياسة مع مزيج من وسائل أخرى”. بيد أن جيل من الديمقراطيين في أمريكا، والمسيحيين الأوروبيين، والديمقراطيين الاجتماعيين – سعوا إلى تجاهل هذه الحقيقة. بسبب الخوف من عنف الحرب، وبحثوا عبثاً عن بدائل لشن الحرب. عندما أمر فلاديمير بوتين بضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، رد باراك أوباما بفرض عقوبات اقتصادية. عندما تدخل بوتين في الحرب الأهلية السورية، حاولوا إلقاء الخطب الساخطة والمنددة، وعندما أصبح واضحاً أن بوتين يعتزم توغلًا عسكرياً أكبر وأكبر في أوكرانيا، اختار جو بايدن وفريقه للأمن القومي بالتنسيق مع الكتلة الأوروبية فرض العقوبات مرة أخرى. لكن لماذا لم يتعلم الغرب من الدرس السوري في كشف حقيقة بوتين كما تقول جريدة الغارديان البريطانية؟
ونشرت الغارديان تعليقاً على لسان هيئة التحرير، بأن الأزمة السورية قدمت دروساً مهمة للغرب حيال تصرفات بوتين. فعلى الرغم من تجاهل بقية دول العالم لما يجري في سوريا، فإنه لا تزال هناك جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية ترتكب من قبل نظام ديكتاتوري تدعمه روسيا.
رغم جهود الأمم المتحدة نزع ترسانة سوريا من الأسلحة الكيماوية في عام 2014، بيد أن الأسد واصل قصف المدن والبلدات بشكل مخيف، واليوم تحولت سوريا إلى ولاية روسية من جميع الجوانب بإستثناء اسمها. ففي الوقت الراهن، كما تشير الغارديان، تعتبر سوريا قاعدة كبيرة للتواجد الروسي والإيراني على تخوم أوروبا، وفي حال سقوط أوكرانيا أيضاً، فإن ميزان القوى ستميل كفته باتجاه الشرق، وخاصة في ظل اعتماد معظم الدول الأوروبية على الغاز الروسي. حيث انطلقت شرارة حالة عدم الاستقرار الحالي على مستوى العالم، من بوابة دمشق.
لاحقاً، تشجّعت روسيا أكثر من ذي قبل، إذ دعمها في ذلك أيضاً أسعار النفط المرتفعة، لتصبح على أتم الاستعداد لمواجهة حلف شمال الأطلسي، وهو واقع لم يكن عليه قبل عدة سنوات عندما كان جيشها ومعداتها البالية لا تقارن بالدبابات الغربية. ففي الوقت التي لجأت الدول الغربية إلى التقليل من عدد جيوشها وذلك عبر الإعتماد على الأجهزة الإلكترونية الحديثة والفضائية لخوض الحروب القادمة، كانت روسيا تقوم بتطوير قوتها العسكرية والتي بدأت تُظهرها في أوكرانيا. وعلى ما يبدو فقد أصبح بحوزة روسيا أسلحة فتاكة سواء من ناحية العدة أو العتاد، بحيث ستُفشِل أي حرب الكترونية تجاريها.
إن كان المثال السوري يكشف نوايا بوتين وأهدافه المحورية، غير أنه يميط اللثام أيضاً عن النفاق لدى حلف الناتو والمعسكر الغربي وذلك على ذات قواعد اللعبة، سيما من جهة انتهاك المعايير الدولية في سوريا. كلنا نتذكر التصريحات المتتالية من حلف الناتو التي كانت تدعم الغزو التركي لاحتلال مدينة عفرين السورية تحت مزاعم” تفاهم المخاوف الأمنية” كما تقول الصين اليوم بالضبط في موقفها الداعم للغزو الروسي في أوكرانيا.
يانيس فاروفاكيس، الاقتصاد اليوناني الشهير، أشار في مقابلة متلفزة -تعليقاً على الغزو الروسي- بأن اللوم يقع بالكامل على فلاديمير بوتين في اتخاذ هذه الخطوة. ولكن في الوقت نفسه، يجب إدانة حلف الناتو لقيامه بتهيئة الظروف التي أدت إلى دفع بوتين بغزو أوكرانيا، وهو ما أشار إليه الرئيس الاوكراني زيلينسكي ايضاً بأن الغرب ترك بلاده لوحده في مواجهة الغزو الروسي.
بطبيعة الحال، يندفع المعسكر الغربي بفرض بعض العقوبات على عدد قليل من البنوك ورؤوس الأموال، وهي من المؤكد غير قادرة أن تقهر بوتين الذي لا يفهم سوى بمنطق القوة. سيما أن خط غاز “نورد ستريم 1” والذي يغذي الصناعة الالمانية بنحو 40% وقد يشكل مصدر الخوف ربما الوحيد لدى بوتين، لا يندرج ضمن حزمة العقوبات الغربية والالمانية.
في حين، أوصى المفكر السلوفيني، سلافوي جيجك، بأن يقوم المجتمع الدولي بعملية الإخصاء ضد روسيا التي تحاول اغتصاب اوكرانيا، وذلك بتجاهلهم وتهميشهم قدر الإمكان، مع التأكد من أنه بعد ذلك، لن يكون لهم أي نفوذ على المستوى الدولي.
مهما يكن، فإن حرب بوتين هي الطريقة الوحيدة لإنهاء السيادة الاوكرانية القائمة، وتشكيل سيادة جديدة، وإذا نجح في ذلك، فستقع المسؤولية بشكل كبير على عاتق القادة الغربيين الذين نسوا قول الضابط البروسي- الألماني الشهير، كارل كلاوزفيتز، بحجة أنهم تمنوا أن تكون الحرب بعيداً عن ديارهم وحساباتهم المباشرة، رغم أنهم من حرضوا من خلال توسع الناتو بطريقة ما لدفع أوكرانيا صوب هذه الكارثة المريعة التي تعصف بالقارة الأوروبية، القارة التي كانت موعودة حسب مزاعم الاتحاد الاوروبي بأن الحرب لن تعود إلى أراضيها مجدداً.