د. آزاد أحمد علي
بعد انتهاء مدة إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي ترافقت لأول مرة في تاريخ أمريكا بحركة عسكرية وما يشبه أعمال عصيان حتى تم تسليم السلطة الى إدارة جو بايدن المنتخبة، شكّلت عملية إخراج السلطة من مخالب ترامب وأنصاره الشعبويين، مهمة حساسة مازالت تداعياتها تتفاعل في الداخل الأمريكي.
وبعد أن تسلم وزير خارجية أمريكا الحالي أنتوني بلنكين مهامه في وزارة الخارجية، وفي الوقت الذي كانت أوضاع العالم قد عصفت بها تغريدات ترامب، كان من المفترض أن يعمل الطاقم الجديد على إعادة ترتيب الملفات العالمية الحساسة والاستراتيجية لترتيب الأوضاع الى سابق عهدها (كما صرحوا فيما بعد)، لكن انشغل قسم من طاقم وزارة الخارجية الأمريكية لمدة تقدر بشهرين في حل لغز (قنينة الويسكي الضائعة)! فماهي قصة (The Lost whiskey bottle)؟
القصة بدأت عندما زار وزير خارجية أمريكا في عهد ترامب (مايك بومبيو) اليابان، إذ تم إهداءه زجاجة ويسكي، واصطحبها معه في الطائرة على الأرجح، ثم عاد بومبيو في نفس الرحلة وزار السعودية، وتبين فيما بعد لأجهزة الرقابة الأمريكية، وخاصة مكتب رئيس المراسم بوزارة الخارجية، أن حكومة اليابان قد أهدت بومبيو الويسكي في 24 يونيو حزيران 2019. وتم تصنيف الزجاجة تحت بند (مصيرها غير معروف). وفتحت تحقيقاً مطولاً في سر اختفائها. لماذا كل هذا الاهتمام؟ لأن قيمية زجاجة الويسكي كانت تعادل (5800$) خمسة آلاف وثمانمائة دولار أمريكي. وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد تابعت القضية في تحقيق صحفي وأوضحت أن المسؤولين الأمريكيين مسموح لهم الاحتفاظ بهدايا ثمنها دون (390) دولاراً، وإلا فإن عليهم شراء تلك التي تزيد قيمتها عن ذلك إذا أرادوا الاحتفاظ بها.
كما تتحول الهدية الثمينة إلى عهدة تحفظ في الوزارة أو الدائرة المختصة. وبناء على ذلك يفترض أن زجاجة الويسكي تحولت إلى العهدة وتخزن على إحدى رفوف وزارة الخارجية، وهذا ما لم يحدث. وعندها استنفرت وزارة الخارجية وتم إجراء تحقيق لمعرفة مصير الويسكي، حيث طُلب من وليام بيرك، محامي بومبيو، التعليق فأجاب بأن “السيد بومبيو لا يتذكر حصوله على زجاجة الويسكي وليس لديه أي علم بما حدث لها. وهو لا يعلم أيضاً بأي تحقيق في مكان وجودها. ولا فكرة لديه عن مصير زجاجة الويسكي هذه”.
تم أولاً استبعاد شرب الويسكي في السعودية، أما ماذا فعل بها بومبيو البدين، هل شربها في الطائرة؟ أم أهداها لأحد الأمراء؟! المهم أن القصة أخذت تحقيقاً مطولاً (هذه السردية وردت بشكل مطول في الصحافة الأمريكية وأكدتها يورو نيوز بتاريخ 05/08/2021)
وفي قصة متممة للمشهد التراجيدي لمنظومة الليبرالية الجديدة الذي نحن بصدد قرأتها من زاوية ضيقة، فالحدثان يذكراننا من جديد بمستوى الضوابط البيروقراطية الخانقة التي تدار بها الدول العظمى. فالقصة الثانية جرت في ثاني أكبر بلد ليبرالي أي بريطانيا العظمى التي عصفت فيها مؤخراً رياح التحقيق (مطلع هذا العام 2022) برئيس الوزراء بوريس جونسون وكادت أن تعزله عن رئاسة الحكومة، لولا هجوم بوتين على أوكرانيا الذي لم يسعفه تماماً بقدر ما أجّلت ملف محاسبته. أما تفاصيل قصة بوريس جونسون فتتلخص في قيامه بخرق تدابير الإغلاق للحد من انتشار فيروس كورونا، كونه نظم حفل عيد ميلاده خلال أول إغلاق لكوفيد (19) في يونيو 2020، عندما حظرت السلطات التجمعات الاجتماعية في الأماكن المغلقة. وقد ضم الحفل أكثر من ثلاثين شخصاً في إحدى غرف مجلس الوزراء ضمن العقار رقم عشرة شارع داوننغ ستريت بلندن، وهو مكتب ومقر إقامة جونسون.
وبينت التحقيقات أن زوجة رئيس الوزراء، كاري جونسون، نظمت التجمع المفاجئ بعد ظهر يوم 19 يونيو 2020، لذلك تعد دعوة خاصة مع وجود مشروبات كحولية وقالب حلوى.
تحول موضوع الحفل إلى فضيحة سياسية، استغلتها المعارضة. فقد صرح زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر حول تجمع عيد ميلاد جونسون، “هذا دليل آخر على أن لدينا رئيس وزراء يعتقد أن القواعد التي وضعها لا تنطبق عليه…ولا يمكننا تحمل استمرار هذه الحكومة الفوضوية التي تسير بغير هدى. رئيس الوزراء هو مصدر إلهاء وطني، وعليه المغادرة”.
وعلى الرغم من أن جونسون اعتذر للشعب علانية، وقدم مجموعة متنوعة من التفسيرات إزاء الحفلات التي سبق أن وردت أنباء بشأنها. وإنه لم يجرِ انتهاك، لكن الموضوع أُحيل الى مجلس العموم البريطاني لسحب الثقة منه، وهو يواجه عملياً خيار الاستقالة.
أما كيف دافع طاقم بوريس عنه فتركز على أن الحفل كان خاصاً بالموظفين وتم بعد اجتماع عمل في رئاسة الوزراء.
وعلى الرغم من ذلك، مثل جونسون أمام مجلس العموم البريطاني وواجه استجواباً غاضباً من أعضاء البرلمان. وبدأت مسرحية متلفزة للتحقيق معه، كانت تبث وقائع الجلسة على الهواء مباشرة وتنقل عبر أهم قنوات التلفزة في دول العالم.
ولم يطالب أعضاء المعارضة فحسب باستقالته، وإنما أكد أكثر من عضو في حزب المحافظين الحاكم باستقالته كونه (غير جدير بالثقة).
ما يمكن استنتاجه من القصتين أعلاه، أنه هنالك فائض في الحريات الليبرالية ضمن المجتمعات الغربية، لدرجة أنها تفيض عن الحاجة الحقيقية لها، فهذه الليبرالية قد غمرت عمل المؤسسات الحكومية وشلتها عملياً. تقابلها ضوابط شديدة البيروقراطية في مؤسسات الحكم؛ فاشتراطات العمل السياسي في المؤسسات الرسمية الغربية دقيقة ومتخشبة حتى أن بعض المسائل التي تعد من سفاسف الأمور تقفز الى السطح، تأخذ قيمة زمنية وتحل في موقع القضايا الجوهرية والمصيرية التي تواجه العالم. لذلك باتت الطواقم الحاكمة في الدول الأورو-أمريكية مجموعة من الموظفين يتم تحويلهم الى دمى وأحياناً مهرجين على منصات وسائل الاعلام، في حين القرار الفعلي ورسم الاستراتيجيات تنسج بروية في الغرف المجاورة لمجالس إدارة كبريات الشركات ومراكز المال، فضلاً عن غرف الفكر المظلمة.
يبدو أنه تم تقييد كامل المساحة الليبرالية الغربية بسلاسل بيروقراطية متينة، مما قلل من فعالية الفرد وقلصت حقل مناورته وإبداعه، فضلاً عن الخوف لاتخاذ القرارات السيادية التي تحمل جوهراً ريادياً. لقد حوّل فائض الليبرالية وهيمنة البيروقراطية المؤسسات الغربية الحاكمة إلى قطارات قديمة يركبها بعض الساسة ويهبطون في أول محطة ليلتحقوا بمجالس إدارة الشركات أو مراكز الدراسات. وقد يكون بوتين سريع الحركة استفاد من نزلاء محطات قطار الليبرالية الجديدة هذه.
لذلك من الصعوبة أن نصادف شخصيات كارزمية، أو قادة مبادرين أقوياء في مجموع الدول الغربية، وانما موظفون وعاملون بأجر زهيد لدى الاحتكارات المالية العالمية، وهذا يشكل أحد أهم معضلات هذا العصر.