طارق حمو
نشر الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية، في حسابه على “تويتر”، خبر لقاءه بالجنرال مايكل كوريلا، قائد عمليات الجيش الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، والذي كان الرئيس جو بايدن قد عينه في يناير/كانون الثاني الماضي في المنصب خلفاً للجنرال كينيث ماكنزي. ونقل الجنرال عبدي فحوى لقاءه بالمسؤول العسكري الأميركي الرفيع، وقال بأنه تضمن بحث “الاستقرار والأمن في المنطقة، وتكثيف العمل المشترك ضد داعش، وأن القيادة العسكرية الجديدة جددت إلتزاماتها بحماية الأمن والاستقرار في شمال شرق سوريا”.
اللقاء يأتي في خضم تطورات سياسية وعسكرية كبيرة في العالم والمنطقة، لعل من أهمها الحرب الروسية في أوكرانيا، والحرب في سوريا، والمباحثات حول الملف النووي الإيراني، والتكتلات التي تظهر بين الحين والآخر، والتي تجمع دول عربية وإسرائيل، في محاولة لخلق توازنات جديدة وصيغ ردع، في حال انسحاب أميركا من الشرق الأوسط، في ظل استراتيجية توجه واشنطن إلى بحر الصين ومنطقة جنوب شرق آسيا.
لقاء الجنرال عبدي بالجنرال كوريلا، رسالة مهمة في هذا الوقت الذي تذهب فيه بعض الآراء بإمكانية استغلال الدولة التركية للحرب الروسية في أوكرانيا، واللجوء إلى شن هجوم احتلالي جديد ضد مناطق شرق شمال سوريا. فالتكتل الحاصل في الغرب، وبروز وتفعيل دور حلف شمال الأطلسي (الناتو) مقابل التصعيد العسكري الروسي، يفرض على تركيا تحديد معالم دورها، وتبيان موقفها إزاء روسيا، واختيار أحد المعسكرين: إما (الناتو) أو معسكر روسيا. ورغم السياسة المراوغة لحكومة تحالف حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية العنصري، ومحاولة لعب دور “الوسيط” في المفاوضات حول وقف إطلاق النار بين الجانبين الروسي والأوكراني، إلا أن تداعيات الحرب وتوسع المواجهات وحجم الخسائر المتبادلة، والعقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، يجعل من سياسة “الحياد” التركية أمراً صعباً ومكلفا، الأمر الذي يجعل من قرار تخندق أنقرة مع (الناتو)، قضية وقت ليس إلا.
وكعادتها في تجيير كل التطورات الدولية لمصلحة سياستها التوسعية الاستعمارية على حساب الشعب الكردي داخل وخارج تركيا، ( ومؤخراً: على حساب جسد الوطن السوري أيضاً)، فإن تحالف العدالة والتنمية والحركة القومية سيذهب في طلب المقابل من إعلان التخندق في صف (الناتو)، ومواجهة الشريك الروسي صراحة. ومن هنا تظهر المخاوف من حدوث هجوم عسكري تركي جديد يطال الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا. وكانت بعض الأصوات أظهرت تخوفها من حدوث “موافقة” أو “ضوء أخضر” أو”تغاضي” أميركي وغربي على أي عملية احتلالية تركية جديدة تطال تلك المناطق. وبدأت هذه الأصوات تخوض في انعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا على المواقف الأميركية والأوروبية، وإمكانية لجوء أميركا وأوروبا إلى إغراء تركيا و”تثبيت” مكاسب لها، مقابل تخليها عن روسيا والانضمام إلى سياسة التصعيد حيال موسكو، والتي تشمل كل أنواع التشدد الممارسة حالياً: تقديم الدعم العسكري العلني لأوكرانيا، وفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، وإعلان المقاطعة الشاملة لها.
ولأن الحرب في أوكرانيا قد تحولت إلى حرب بالوكالة قد تطول وتتمدد، في ظل أهداف أعداء وخصوم روسيا المعلنة في تحويل البلاد إلى مستنقع عميق تغرق فيه آلة الحرب الروسية، فلا أحد يستطيع أن يتكهن بالتطورات أو المديات التي يمكن أن يصل إليها التصعيد. لذلك فإن كل جانب يسعى لتفعيل الأوراق التي يمتلكها لجني المكاسب وفرض إرادته على الجانب الآخر. وروسيا التي بدأت تعي الحجم/الثمن الحقيقي لحربها في أوكرانيا، سوف تستخدم كل أوراقها، وتحاول المقايضة بها ــ أو تفعيلها في إلحاق الأذى ــ بحلف (الناتو). ومن ضمن هذه الأوراق: سوريا. فالوجود الأميركي وكذلك التركي ( في حال حسم أنقرة موقفها لصالح {الناتو}) سيكون هدفاً عسكريا لوكلاء موسكو. ومن يتابع تطورات الأسابيع الماضية، سيتلمس تطورات/رسائل جديدة من جانب وكلاء الروس حول التصعيد واشعال الجبهات في سوريا. ومن ضمن هذه التطورات تحريك الجانب الروسي لقوات النظام السوري باتجاه الادارة الذاتية الديمقراطية. فالحصار الذي تمارسه الفرقة الرابعة في الجيش السوري منذ أكثر من شهر على أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، ومنع إيصال المواد الغذائية والأدوية والوقود إلى أكثر من 200 ألف مواطن يعيشون هناك، يمثل أحد مظاهر هذا الضغط. وثمة احتمال في لجوء قوات النظام السوري والميليشيات التابعة لها للقيام بالمزيد من التصعيد ضد مناطق الإدارة الذاتية والمدنيين فيها.
تحاول حكومة تحالف العدالة والتنمية والحركة القومية في ظل هذا الواقع، الحفاظ على صيغ التعاون والتهدئة والتفاهم مع الجانب الروسي، وتحويل فوهة آلة الانتقام الروسية لقوات سوريا الديمقراطية، التي تعتبر الحليف القوي للقوات الأميركية (بوصفها عماد التحالف الدولي لمقاتلة الإرهاب). وتظهر معالم سياسة أنقرة في إيجاد صيغ تحالف وتفاهم جديدة مع روسيا (أو: مع روسيا مابعد الحرب في أوكرانيا)، والتي من بينها إحداث تقارب مع النظام السوري والعمل على فك عزلته وإعادة مظاهر “الشرعية” له، مقابل التعاون المشترك ضد شمال شرق سوريا، وقوات سوريا الديمقراطية. ومن ينظر في الخطوات التركية الأخيرة في “تنقية” صفوف الاطار الموالي لأنقرة والمسمى (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) من بعض الشخصيات غير المرتبطة بشكل مباشر مع الاستخبارات التركية، وتصفية بعض مظاهر “الديمقراطية” و”الانتخاب” فيه، مع الابقاء فقط على ضباط الارتباط مع الاستخبارات التركية، من الجدد غير المعروفين بماضيهم المعارض للنظام السوري، سيعي ملامح هذه السياسة التركية الجديدة. هذا ناهيك طبعاً عن اللقاءات السرية التي حدثت مؤخراً على الصعيد الأمني بين علي مملوك نائب رأس النظام السوري للشؤون الأمنية، وبين ضباط أتراك مشرفين على الملف السوري. وكانت القضية الكردية، وكيفية الإجهاز على الإدارة الذاتية الديمقراطية، من أهم بنود تلك اللقاءات.
من غير المرجح حدوث تغيير راديكالي في الموقف التركي من روسيا، وتحويل الموقف التركي إلى مؤيد لحلف (الناتو) والانقلاب على روسيا، بل العكس هو الصحيح، ستحاول أنقرة “حصد” التنازلات من كل طرف، مقابل تقديم “تنازلات” منها تكون شكلية وبالقطارة. فالمطلوب من أميركا مزيد من التعاون السياسي والاقتصادي مع أنقرة، والموافقة على صفقات الأسلحة والتكنولوجيا، والتخلي عن حلفاءها في قوات سوريا الديمقراطية، مقابل الدعم التركي في ملف التصعيد ضد موسكو وحصارها. والمطلوب من روسيا التشدد مع شمال شرق سوريا، والسماح لأنقرة بخرق “التفاهمات” القديمة، والهجوم هنا وهناك، والتوسط مع النظام السوري بغية ترطيب العلاقات مع أنقرة، ودفعه باتجاه التصعيد ضد الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية. على روسيا أن تعي أن الرفض التركي ( الجزئي، كما ينبغي القول!) لطلبات (الناتو) لن يقوم على التفاهمات القديمة، بل سيتطلب تنازلات جديدة، وتعاوناً وخضوعاً من النظام السوري أيضا.
وفي خضم هذا المشهد تستمر آلة الحرب التركية في قصف القرى والبلدات في عين عيسى وتل تمر وزركان ومنبج، إضافة إلى مواصلة سياسة الأرض المحروقة والتطهير العرقي في عفرين، حيث ترصد منظمات حقوق الانسان الدولية انتهاكات فظيعة ومجازر ترقى إلى إبادات حقيقية. إضافة إلى هجمات المسيرات التركية ضد شخصيات عسكرية ومدنية، وانتهاكات لاتفاقيات التفاهم اقتربت من 200 هجوم وعملية قصف وقنص.
يبقى المهم في هذا المشهد المضطرب، سورياً وإقليمياً ودولياً، هو لجوء الإدارة الذاتية الديمقراطية إلى المزيد من الاعتماد على القدرات الذاتية، وترتيب الصفوف وتقوية الجبهة الداخلية، والحصول على ضمانات من الحلفاء بتقديم المزيد من الدعم العسكري والسياسي في مواجهة أعداء وخصوم الإدارة، سواء كانوا تنظيم “داعش” أو حكومة الحرب في تركيا، أو النظام السوري الذي ما يزال يرفض الحوار على أساس وطني، ويراهن على الأطراف الخارجية المعادية لوحدة الشعب والأرض السورية. وجاء لقاء الجنرال مظلوم عبدي مع الجنرال الأميركي مايكل كوريلا في هذا الصدد، وكان مناسبة لطمأنة الحلفاء في قوات سوريا الديمقراطية. تلك القوات التي هزمت تنظيم “داعش” وخلصت الانسانية من شروره، ومازالت تبذل الدماء لمنع عودته، وتحمي بذلك تجربة تشاركية/ديمقراطية قائمة على التعايش المشترك وإخوة الشعوب ــ قائمة بذاتها وسط بحر من التطرف والديكتاتوريةــ حامية أرواح ملايين البشر من الكرد والعرب والسريان، من المسلمين والمسيحيين والايزيديين في المنطقة.