بدر الحمري
عندما قال الفيلسوف اليوناني أرسطو ‘الطبيعة تخشى الفراغ’ لم يكن الأمر ترفاً زائلا ولا تشبيهاً بلاغياً جافاً من حدوس المعانى العلمية التي تتضمنها المقولة، لأنّ التجارب بينت حقاً أنّ الطبيعة ضد الفراغ، أي تهابه بطريقة خاضعة لقوانينها المضبوطة، وبالتالي فهي تملأ كل شيء؛ فالمكان الذي نظنُّ أنه فارغ سرعان ما نكتشف أن الهواء يعمّره!
فهل يمكنُ أن نفهم من ذلك أنّه بالرغم من التدمير الذي تتعرض له الطبيعة فهي لا تترك نفسها للفراغ، بل تمتلئ – بمقابل ذلك – دفاعاً عن نفسها، لكنها تصير مثل شبح مخيف وبشع أو مقبرة جماعية لكلّ الكائنات الحية .. هكذا على الأقل يمكنُ أن نتصور الأرض بفضل تقارير العلماء عن التغيرات المناخية.
تغيّرات المناخ .. الإنسان المتوحش.
تشير التقارير الدولية إلى أنّ التغيرات المناخية هي تغيرات على مستوى بعيد الأجل، يؤثر سلباً على درجة حرارة الأرض، ويكون السبب الرئيس فيها هو حدث الطبيعية التي تأتي نتيجة الدورة الشمسية وتحولاتها.
لكن منذ بداية القرن التاسع عشر، أصبح الإنسان هو السبب رقم واحد لتغير المناخ نحو الأسوأ، وذلك لعدة أسباب، من بينها:
1- حرقه للوقود الأحفوري (خاصة الفحم والنفط والغاز) الذي تنبعث منه غازات ثنائي أكسيد الكربون والميثان ..
2- تدمير الفضاءات الخضراء ( الغابات خاصة ) بفعل الحرائق أو البناء أو غيرهما ..
3- التقدم الصناعي؛ حيث تعمل مئات الآلاف من المصانع على إطلاق دخانها مما يسبب أضراراً جسيمة للنباتات ..
نحن نعلم جيداً أنّ هذه الغازات هي نتيجة الوقود الذي يستعمله الإنسان – المعاصر – في حياته اليومية، سواء تعلق الأمر بالسيارات أو التدفئة أو من يقوم مقامهما .. لكن المشكلة الأكبر تتجلى في الصناعة، وهذه الأخيرة تتصل بحياة الناس ومعيشهم اليومي، لكن المشكلة ستظهر في الكوارث السياسية التي يمكنُ أنّ تسببها الفوارق الاقتصادية بسبب عدة نتائج مرتبطة بالتغيرات المناخية، ومن بينها السلام.
الأرض أم الفرد ..!
لتفصيل إشكال العلاقة بين المناخ والسلام ومدى قدرة الفرد على تجاوز ذاته إلى الجماعة لا بأس من أن نطرح الآتي:
هل يمكنُ للإنسان المعاصر أن يتخلى عن رفاهيته الفردية المزعومة والمدمرة لصالح قضية المناخ التي هي قضية جماعية وإنسانية بدرجة أولى؛ خاصة وأنّ قيمة الفردانية التي أتت بها فلسفة الحداثة وأفكار ما بعد الحداثة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فهمت عند كثير من الأفراد عكس أهدافها المرجوة، ومع تبني فكرة الاقتصاد الليبرالي الجديد تولدت لدينا قيم أخرى عكس الفردانية بمعناها التحرري المسؤول، مثل الأنانية والتقوقع على الذات واللاعدالة الاجتماعية العابرة للقارات، ومما زاد هذا الشرخ بينَ الفرد والمجتمع صعود ثورة التكنولوجيا الرقمية تقوية حضور وسائل التواصل الاجتماعي– الافتراضي في حياة (الأفراد)؛ فهو مع الجماعة وليس معها في الآن نفسه، « متَّصل » بالشبكة من جهة لكنه معزول عن الحياة البيولوجية- الاجتماعية من جهة ثانية .. ولا يحضر إلاّ قليلا.
المناخ ومصير السلام
إن التغيرات المناخية لها أبعاد قيمية على مستوى تحقيق مشروع السلام الدائم والتعايش والتسامح في عصر وصف بكونه مُعقد ومضطرب، تتزاحم فيه المصالح على حساب القيم الإنسانية والمكتسبات البشرية في الحرية والتحرر والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم والحق في الحياة، خاصة وأنّ التغييرات المناخية لها نتائج سلبية جداً على حياة المجتمعات الفقيرة أو الضعيفة أو الأقليات العرقية أو القبائل المعزولة؛ ففي كتابه ‘مدار الفوضى: الجغرافيا السياسية لتغير المناخ’ حاول الباحث الأمريكي كريستيان بارينتي1 ربط موضوع تغير المناخ بالصراع الاجتماعي والعنف السياسي اللذين يتميز بهما العالم اليوم.
أما المقصود بـــ’مدار الفوضى’ جغرافياً ذلك الحزام على طرفي خط الاستواء بين مدار السرطان ومدار الجدي، الذي تشهدُ دوله صراعاً عنيفاً وحروباً أهلية وجريمة منظمة. وهي المنطقة نفسها التي يضرب فيها تغير المناخ بقوة من خلال دورات الجفاف، وتكرر الفيضانات.
ولتبيان تأثير المناخ على السلم الاجتماعي والسلام العالمي يقدم كريستيان بارينتي مثال من حادث مقتل لوكارنو وهو راع من قبيلة التوركانا التي تقع في شمال كينيا، والتي تعتمدُ على الرعي، هذه القبيلة لها صراع بين قبيلة أخرى تسمى البوكوت، ورغم صغر هذه الأخيرة إلاّ أنها شديدة العنف المتمثل في إغارتها على القطيع وسرقته؛ فبسبب الجفاف يتأخر المطر .. ثم يجيئ على شكل فيضانات في بلد يعتمد على الزراعة والرعي، وإذا أضفنا إلى ذلك سهولة انتشار الأسلحة الخفيفة من الدول المجاورة كأوغاندا والصومال يمكنُ أن نفهم تغير المناخ جيداً؛ ففي أوغاندا استولى عيدي أمين على السلطة، وقادت سياسته الفاسدة وتدخله في تنزانيا إلى انهيار الدولة وانتشار الأسلحة والفوضى فيها. أما في الصومال أدت الحرب الباردة إلى نشوء حرب بالوكالة بين الصومال وأثيوبيا على أوغادين، انتهت بالانقلاب على سياد بري، وتفكك الصومال وتحوله إلى دولة فاشلة كما يقول الباحث الأمريكي كريسيال بارينتي.
هذه فقط أمثلة من أمثلة أخرى عديدة يطرحها الكتاب السابق، ومنها الحرب النووية بين الهند وباكستان، والجفاف في أفغانستان، وتأثير المناخ على الصراع في الهند الذي أدى إلى جفاف وفياضانات وهجرات جماعية، تضاف إليها سياسات ليبرالية جديدة خفضت الدعم للمزارعين، وقلصت الإنفاق على مشاريع الري. ومع اقتراض المزارعين بفوائد خيالية في مقابل تناقص مردود الأرض بسبب تدهور التربة والجفاف لجأ كثير من المزارعين إلى الانتحار، أو الانضمام إلى صفوف العصابات المسلحة.
في المكسيك أدت التغيرات المناخية المؤدية إلى الجفاف والازدهار الطحلبي وهجرة المزارعين إلى أمريكا الشمالية، مما جعل الدولة تغير من سياستها خاصة بعد الثورة المكسيكية، فعمدت إلى الاقتراض من البنوك العالمية من أجل تنمية البلاد على أمل تسديدها من عائدات النفط، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فأسعار النفط انهارت، ومع تراكم الديون فرضت الدولة سياسة تقشفية أثرت سلباً على المزارعين والخدمات العامة، مما أدى إلى انتشار العنف، فكانت اتفاقية النافاتا لدول أمريكا الشمالية تيسيراً لعملية تهريب المخدرات من المكسيك، مما نتج عن ذلك إجراءات وقائية شديد على الحدود ..
من الأقوال إلى الأفعال
إنّ ربط التغيرات المناخية بالوجود البشري أصبح بديهياً، والبحث عن مخارج سلمية للنجاة أصبح أمراً ملحاً، وإلاّ فما فائدة هذا التفكير الدولي اليوم وهناك فروقات اجتماعية واقتصادية وأمنية، بل وهناك من يتسابق نحو التسلح وصناعة القنابل النووية، أو يدقُّ طبول الحرب، كما هو مثال الطبول التي تدق بين أمريكا وإيران، أو بين هذه الأخيرة وبين إسرائيل في الحدود مع سوريا أو لبنان أو .. غيرهما !
ثم أليست الاشتباكات في أثيوبيا اليوم لها أضرار سلبية مباشرة على التغيرات المناخية مثلا، وقس على ذلك باقي الاشتباك في جميع المناطق الدولية!
هل الدول الكبرى اليوم، خاصة أمريكا والصين وروسيا، واعية تمام الوعي بأنّ تحسين المناخ وخفض درجة حرارة الأرض يعني مغامرتها اقتصادياً وما يستتبع ذلك من آثار سلبية في تسير شؤونها الداخلية وعلاقاتها الخارجية خاصة على المستويين السياسي والاقتصادي اللذان ينتجا عدم الاستقرار الاجتماعي فيؤي بدوره إلى زيادة الصراع والجريمة والتطرف العنيف وفقدان الأمن .. فهذه مخاطر الأمس والحاضر التي تزداد كلّ يوم قرباً وتوحشاً.
ما الذي ستفعله هذه الدول لمسيرات تصنيعها وبرامجها الاقتصادية التي تلحق الضرر بالموارد المائية ولو بشكل تدريجي، كما تلحق الضرر بالفلاحة والصيد البحري خاصة عند المجتمعات الضعيفة والدولة غير المستقرة، فيؤدي ذلك إلى تغول الهشاشة والفقر والمجاعة .. هذه أمور يعرفها الجميع لكننا نركز على المناخ ولا نركز على الإنسان السبب الأول المؤثر في التغيرات المناخية.
هل مؤتمر جلاسكو لــــــ« كوب- 26 » فرصة أخيرة لإنقاذ الأرض فعلا؟
لعلّ أحدهم يقول: ومن يكترث .. لا يهم .. خاصة وأنه لمدة 27 عاماً لم يتغير أي شيء، بل ازداد المناخ سوءاً، ووصل إلى نقطة اللارجوع، أو نقطة الحرج، والوقت ينفذ بسرعة إلى الهلاك الشامل بشهادة 234 عالماً من مختلف التخصصات الذين أكدوا أنّ البشرية ستبلغ نقطة تصبح العودة عنها من دون جدوى .. وبلا أمل.
الجفاف، الأعاصير، الفيضانات، ذوبان الجليد، ارتفاع مستوى سطح البحر، ندرة المياه (الأمن المائي) كلها أمور تحتاج إلى تضافر جهود الإنسانية من أجل تمكين الحياة فرصة أخرى للوجود. لكن أمام تعنت الإنسان خلال 27 سنة الماضية من الاجتماعات الدولية والتوصيات والانذارات والتقارير السوداء .. لا نعرفُ إذا ما كانت التحذيرات الرسمية ستؤدي إلى تحمل المسؤولية الأخلاقية تجاه الأرض أم ننتظر الطوفان !