بدر الحمري
التطرف وسؤال صراخ « الحقيقة »
هناك تاريخ للحقيقة يسير بشكل مفارق مع تاريخ الفكر، وأحياناً كثيرة يكون هذا السير متناقضاً. صحيح أن تاريخ التفكير العلمي، مثلا، لا يتقدم إلاّ بتصحيح أخطائه ( جاستون باشلار)، وبالتالي فإن الحقيقة خطأ يتم تصحيحه كلّ حين. وقد سبق لميشال فوكو أن طرح قضية الفكر والحقيقة فقال « يعني تاريخ الفكر لا مجرد تاريخ الأفكار والتمثلات، بل يعني كذلك محاولة الإجابة عن السؤال التالي: كيف يمكن لمعرفة ما أن تتشكل؟ كيف يمكنُ للفكر – من حيث هو ذو علاقة بالحقيقة – أن يكون له بدوره تاريخ خاص به؟ هذا هو السؤال المطروح » ونعتقد نحن أن السؤال الذي يجب أن يطرح اليوم – في عالم تفجر الرقمي وسخريته من الوجود البشري – هو كيف يمكنُ لحقيقة ما أن تصرخ، بل أن يزداد صراخها كل يوم فتصبحُ ضجيجاً؟ وما الذي يجعل حقيقة ما تصرخُ؟ هل لأنها تعتقد في رجاحتها أم صوابيتها أم أحقيتها على كل الحقائق؟ بمعنى آخر: ما هو المعيار الذي تعتمد عليه الحقيقة حتى تصرخ بأعلى صوتها وتصدع أوداجها؟
إنّ كل صراخ للحقيقة هو في تعبير عن صخب الوجود؛ المظلوم يصرخ لأنه مظلوم ولا شيء يشفي ظلمه إلاّ حصوله على حقه. لكن متى تتزين الحقيقة بلبوس الكذب، وقد تصرخ هنا على أنها حقيقة؟
إنّ المعتدي قد يصرخ فوق المنصات، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى المباشر، وفي البيانات والاجتماعات وأمام الأمم المتحدة، أو قد يلوح بسيفه في الأفق متوعداً كلّ من يفند حقيقة خلافته على الناس بالموت والذبح، وهذا ما تفعلهُ التنظيمات الإرهابية كداعش مثلا؛ ففي كل الأمور الصارخة التي تقوم بها داعش – وأخواتها – يعدُ في ذاته صراخ لا تاريخي، ولا سياسي، ولا أخلاقي؛ لأنه يبتعدُ عن فعل الوجود الحق ليغمر في الوجود الوهم، معتدياً على حق الإنسانية في أن تنعم بالسلام. ومطالباً الجميع، بل آمراً الجميع، بأن يتخلوا عن حقائقهم التاريخية وكينونتهم لصالح الخليفة الأخير. لذلك فلا غرو من أن تجد خطابات هؤلاء المتطرفين الإرهابيين تعدُ بتوزيع الجنة على عناصرها وذئابها المنفردة، هؤلاء الذين ينخرطون بدورهم في سلسلة من الصراخ المدنس وتوزيع الاتهامات على كثير من الخلق، بل يصل بها الأمر أن تكفّر الحقيقة عينها التي كانت تؤمن بها من قبل، أو كانت ترتكز عليها في بناء تصوراتها الأيديولوجية المتطرفة؛ في هذا السياق من المعلوم أن كثير من التنظيمات الإرهابية آنشقت على نفسها وخرجت منها تيارات أخرى أشد تكفيراً .. وصراخاً.
إنّ مفاهيم مثل الإنسان، والمعنى، والطهارة، والفردانية، والحرية، والمسؤولية، والضمير، والسر، والتسامح، والعدالة .. تتعرض حقائقها كل يوم إلى التزييف، مجاوزة بذلك أدوات اشتغال فلاسفة ما بعد الحداثة من تفكيك لآلياتها، وحفر في ماهياتها، وتقويض لأوهامها. لتصبح بعد ذلك آليات لما بعد – الحقيقة قائمة على اللا- حقيقة، منهجها هو الصراخ، وقاعدتها هو الصراخ: حتى أصبح الصراخ راية من ينتقد الفكر الحداثي والعقلاني بصفة عامة. بل راية كل ما يقله أو يغضبه أو يراه مخالفاً لشرع الله.
هل للصراخ دلالة يمكنُ أن نفهمها من الخطابات الصارخة المتطرفة؟
في كتابه « رولان بارت بقلم رولان بارت » كتب بارت تعليقاً قصيراً يبدو ساخراً على أحد رسوماته المخطوطة: « تشكيل خطي لأجل لا شيء … » وكتب في آخر يليه مباشرة: « …. أو الدال من دون مدلول » وكأنهما معاَ يشكِّلان جُملة واحدة: « لأجل لا شيء أو الدال من دون مدلول » فهل الأمر هنا يتصل بدال بلانهاية حتى لا تكون له مدلولات، بصيغة أخرى: هل كل الدوال لها مدلولات، ألا توجد دوال لا مدلول لها، مدلولات فارغة، عدمية، تسكن فيما سمّاه علي حرب « خراب المعنى » ممثلا في النتائج الكارثية التي تؤول إليها، دوماً، ممارسات الإنسان لمبادئه ومشاريعه وشعاراته. إنها بلاغة مدلولات تائهة، ضبابية، لا تسكنُ إلى دوال، تحترف البعد عن المعنى والهروب منه والاختفاء وراء ظلامه؟
كذلك يفعلُ المتطرف إنه « شيء » من دون معنى؛ وحتى لا نقول عنه إنه دال، لأنه في الحقيقة لا يدلّ على أي شيء يمكنُ أن يتشرف به فيمنح كينونته هويتها بوصفها دالا تدل على مدلولات من جهة، ولأن الصراخ لا يدلُّ إلاّ على غياب الحجة؛ من يمتلك الحجة لا يصرخ، والغريب أن بعض المتطرفين الذي يتبنون الفكر الصُّراخي تجدهم يطلون على الناس من خلال الشاشات يصرخون ويزعقون ويضربون براحة يمناهم سطح المكتب، المكيف، المرتب، البرّاق. صورة لا منطق لها.
كيف سيتبدى لنا الغموض عندما نعرض أمراً ما على المُحاور أو الجُمهور فيجيبك: « أنا لا أفهمك؟ » أو « ماذا تقصد؟ » وهل هناك أشياء – مدلولات – لا يستطيع الجميع أن يفهمها، أم أنّ كل شيء يمكن فهمه، والتوافق عليه، واللعب به، بمعنى تداوله مثل العُملة الحقيقية، أم أن ما يتم تداوله من معان وفهوم يشبه العملة المزيفة المدمرة يخفيها الصراخ ويطويه في الآن نفسه؟
إنّ خطوة الحضارة تبدأ عندما يكفّ الصراخ عن التوالد. قد يقول قائل إن العالم صاخب، غامض، يدعوك وحده إلى الصراخ .. حتى من دون سبب.
قد تبدو هذه الحجة رومانسية وجودية مقبولة، لكنها لا تتطابق مع المنطق السليم لأي حضارة راقية؛ فالأمور التي لا نفهمها ويتم تداولها تسوق لها وسائل ومؤسسات ومعامل تنتجها ( الإعلام مثلا ). كما أنّ منتهى الوضوح هو منتهى الغموض كما عبّر عن ذلك هيدغر، وبالتالي فإن فهم العالم لا يزيدُ إلاّ من فهم مزيد من غموضه، وفهم الحقيقة لاّ يزيد إلاّ في غموض تناقضاتها، والتمهيدُ لما بعدها، وإلاّ فكيف يمكنُ أنّ نفهم أسابيع الموضة فعلا، وارتداء الماركات العالمية، ومشاهدة مباريات كرة القدم التي لا تنتهي ومتابعة الأفلام والمسلسلات التي يتوالد بعضها عن بعض من دون انقطتاع، أو شراهة التدخين والأكل في أماكن تسمى اجتماعياً ‘راقية : هل يفعل ذلك الإنسان المعاصر لأنه المعنى الوحيد حتى يعيش كيفيات وجوده بعمق؟
إنه يفعل ذلك لأنه يريد أن ينصهر مع حريته الإنسانية، لكن المتطرف بصراخه يريدُ أن يتسلط ليس على الحقيقة فقط، بل على الغموض أيضاً؛ لن يترك أي شيء إلاّ ويجعل منه فرصته في تمجيد الخليفة الأخير.
وعندما أدخل كوفيد-19 الجميع إلى غرف نومهم، رأينا كيف أن الصراخ بلغ حد التشفي في أولئك الذين أصيبوا من ديانات غير إسلامية، بل هناك من كان يتشفى في إصابة المسلمين، الذين هم حسب رأيه من الفئة الضالة .. وعندما تمدد الفيروس ليشمل العالم .. رأينا أن الصراخ لم يتوقف أو يخجل من نفسه!
لكن، في هذه المحنة العالمية كان السؤال هو: هل يستطيع فيروس أن يتغلب على كل المدلولات التي توهمناها في حياتنا اليومية، ليّكشف عن وجود يعج بالاضطرابات السياسية والروحية والاقتصادية والأسرية، أما الصداقة – بمعنى الصدق – فتكادُ تكون لا قيمة لها إلاّ بالقدر الذي يمنحنا الصديق من حياته فرصاً أخرى للعيش على راحته ومهما كنت صديقاً أو صادقاً فلا بدّ أن يأتي ذلك اليوم التي تسمع فيه: « إنك لم تفهمي قط » أو « لم أعد أحتملــــ … ك « .
المتطرف يقول هو الحل .. لكن للعالم رأي آخر
مشكلة المتطرف انه عندما يصرخ فهو لا يريد أن يسمع إلاّ نفسه. الصراخ هو الوهم نفسه. وما توهمنا أن لكل شيء دلالة نعيش لأجها، هو ما يسقطنا في المأساة، لأنّ هناك كثير من الأشياء اليومية المُعاشة لا معنى فيها أو لها، مثل كميات الطعام التي تقابل كميات التلوث البيئي، ومعدلات الانتحار والاكتئاب والاضطرابات العقلية ( الجنون ) التي يقابلها كميات الهوس بالجديد المتسارع ! والغريب أنّ كل مؤسسة تعرض عليك خدماتها وكأنها « الحقيقة » الوحيدة في الوجود، مرددة شعارات من قبيل: نحن الأفضل، نحن الأصل والباقي تقليد.
العالم بعيداً عن نظرياته الأخلاقية والسلمية يفقد كل « معنى » يمكن أن يُفهم من خلال الاستبعاد التكتيكي بين الدال والمدلول، فقدان يُترجم إلى شرخ وتناقض وحالة من الفصام بين الشيء وتطابقه مع نفسه؛ قد يكون بين البرغماتية والمثالية، العقلانية والعدمية، الفوضى والنظام، الوحدة والتعدد، المهم والتافه، الحكيم والجاهل، الأدب وقلة الأدب، الفن والرداءة .. مما يفضي بنا إلى قول واحد: أنّ كل الكلمات لم يعد لها « مرجع » تؤول إليه .. وحتى إن آلت إليه فهي تختفي غالباً ما وراء القيمة المعاصرة أو الموضة والمعلومة الزائفة؛ إنه عالم تكثر فيه المعلومات المضللة لتصنع لنفسها « حقائق يقينية » صورتها الأنموذجية السُّخرية من الحقيقة وعمقها الأصيل. أما عن ضجيجها فيتمثل في البلاهة؛ إنها سخرية اللا- حقيقة من الحقيقة عندما يتوجه الجميع إلى الافتراضي باحثاً عن ملاذ آمن، أو غرفة مغلقة، أو علاقة حميمية، أو عبور إلى حياة أخرى يجري تعويمها في محيطات شبكات التواصل الاجتماعي، بأسماء حقيقية أو لا- حقيقية، أنثوية أو ذكورية .. لا يهم، المهم أنّ العالم يغرق على نحو مغاير في معيش يفكك اليقينيات والإيمانيات والماورائيات على حد سواء، وبأساليب رخيصة جداً. عالم جديد يقدم نفسه على أنه هو الوجود الحق! وما التطرف الديني بصراخه إلاّ منافس لهذا الأسلوب الرخيص في فرض نفسه، والإشارة إليه، وبحثه المستمر عن موطئ قدم، أو عن مكانة تليق بأوهامه.
لم تعد للتعبيرات اللغوية من دلالات قوية في فضاء المتطرف الديني ودواليبه، فلهذا المتطرف لغته الخاصة، وخطابه الذي يشبهه، عابر للقارات والثقافات والألوان والطبقات، وبالتالي له قانونه الخاص، وشروطه التي يفرضها على الحقيقة الواقعية نفسها، وتعبيراته التي ينتجها كل حين، وبشكل متسارع، والغريب أنه يعادي كل الحقائق الواقعية، من ثمة نرى أنفسنا أننا لا نستطيع – وربما لن نستطيع على المدى المتوسط- أن نوقفه، أو أن نوقف توالداته الغزيرة؛ إذا كانت لغة الأونـــــــ-لاين On-linge الرقمية منفتحة على عوالم غير مرئية، تبدو لأول مرة لمن يرتادها أنها ضائعة، وهمية، غير معقولة، قاتلة للوقت، ومستنفذه لمجهوداتنا النفسية والروحية، فإن لغة الصراخ تزداد ضراوة معها، أي مع لغة الأونــــ-لاين. والسبيل الأصح من أجل كشف تضليلات تلك التنظيمات المتطرفة، ومغالطاتها عن طريق الصراخ، هو التربية على الحوار وأخلاقياته، ومن جملة تلك الأخلاقيات الإنصات لوجهات نظر الغير، وما يتحضر في الإنصات من هدوء وروية وتأمل وتبصر .. وصبر . أما غير ذلك، وترك الفضاءات للصراخ، فإن المواطن، من الصغير إلى الكبير، سيفهم أنّ من يمتلك الحق الديني يصرخ به.
من ديكارت إلى اليوم: من الصفاء .. إلى الصراخ.
في العصر الحديث لم يضع أب الفلسفة الحديثة رينه ديكارت معيار التمييز في معرفة اليقين أو الحقيقة من تلقاء الترف، ولكن لأنّ هذا المعيار يجعله في حالة صفاء ذهني، تلك التي يطلق عليها عادة ‘البداهة’. كان هذا في القرن السابع عشر، لكن الحقيقة اليوم لم تعد تتميز عن الخطأ أو الوهم أو الزيف والخداع، إنها تأكل من كل هؤلاء « الأعداء » لتصبح في صورة مربكة يقصدها الجميع. لهذا فإن ما بعد الحقيقة، وما فوق الواقع، كلاهما وجهان لعملة واحدة، لهما أسلوب عمل واحد؛ كلاهما يبتز الماضوي بيننا، ويملي عليه ما يجب فعله، وإذا ما حدث وأبحر في محيطات الأنترنيت، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي، فإنّ هذا الماضوي المتشبث بماضيه يصبح غريباً وقبيحاً، ينظر إلى نفسه من خلال مرايا لا تعكس هويته أو طموحه أو حتى أحلامه؛ سيصبح أمام هذه الحقائق « المزيفة » عبداً، مسلوباً بلا نهاية، تمطره بآلاف المعلومات، مرئية ولا- مرئية، أي تلك التي يدركها بوعيه أو تخزن في لا وعيه، مع العلم أن الحكيم سيغموند فرويد يصرحّ في غير ما مناسبة من أنّ اللاوعي في الإنسان هو أوسع منطقة من الوعي فيه. من ثمة فهذا الماضوي التائه، والمتطرف الديني الصارخ، لن يجد سبيلا في تفكيك الحقائق، ومجابهة الحجة بالحجة، لأنه إن فعل ذلك سيغرق في صيرورة العالم، وسيفهم أن العالم ليس وطنه حتى يعلن خلافته الأخيرة، بل إن تعدد ثقافاته وحضاراته ولغاته وهوياته تفرض عليه – من وجهة نظر أخلاقية – أن يكون مسالماً، لا يوقظ فتنة فيها. وإلا فهو ملعون .. أشر!
معايير الحقيقة وقيمتها وماهيتها لم تعد تكفي لتحمينا من اللا- حقيقة وما بعدها، ففي عالم رقمي متغير يشهد على زوال كل قيمة كلاسيكية تصبح فلسفات البحث عن الحقيقة- تلك التي دربتنا على كيفيات الوصول إليها- لا تحسنُ الغرض، ولا تعايش اليومي في تصدعات مراكزه وهوامشه وزواياه. وإن لم تغير هذه الفلسفات من طرق نظرها إلى الحقيقة نفسها، بعدما تحولت إلى ما بعدها، فإنها تغلق على نفسها أبوابها وتعيش في ميتافيزيقا جديدة عنوانها: تأمل الحقيقة فقط.
التحريض .. على الصراخ الجماعي.
من سخرية الحقيقة أنها لا تعمل في الواقع، أو الفكر ، أو الحدس ، أو التجربة فقط، فتلك مجالات صار من الممكن اليوم أن نطلق عليها كلاسيكيات الحقيقة، أما الحقيقة اليوم فتعمل في الرقمي، وهو مجال الإنسان المعاصر الذي يقاوم الواقع وكل ما ينتمي إليه، ليبقى أونلاين مع الحقيقة وما بعدها، ينتظر توجيهات منها، تقرر ذوقه وإحساسه ومواقفه وأكله وشربه .. إنها توقِّعه بدلا عنه.
كان جي دوبور قد قال في كتابه ‘مجتمع الفرجة’ من « أنّ الفرجة هي الايديولوجيا بلا منازع »؛ ربما لهذا السبب يعمل المتطرف الديني في قناته الفرجوية مثلا على تمرير أيديولوجياته وإخفاؤها علينا بصوته، حتى تظهر أوداجه .. عروقه. واليوم، يصير الصراخ في لحظة جماعي، يستحيل أن نتخيّل أيديولوجيا فرجته من دون تدوين، أو مشاركة، أو لايك، أو تعليق، أو صفحات على فايسبوك، أو تويتر، أو انستغرام .. تصنع « عقولا » تصرخُ عن كل شيء، وتبدو لك أنها متخصصة في كل شيء، موسوعية نادرة، والحال أن أغلبها لا يعرف أي شيء، تكذب .. تتوهم .. تَبْلَه ( من البلاهة ) وتعيد تدوير كل ذلك مرة بعد مرة حتى يصدقها ‘المتابــِع’ .. أليست هذه أيديولوجيا الصراخ، ضد – الحقيقة، تخلق دلالات ما بعد الحقيقة، وتبني أوهاماً فوق وقائع مزيفة، تربك تاريخ اليقين بضجيجها.