هل التحذيرات الدولية بصدد الجفاف وانخفاص المياه قادرة على كبح الانتهاكات التركية؟

في يوم الاثنين المنصرم من هذا الأسبوع تحديداً، كان الرئيس التركي أردوغان يعد انجازات دولته أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها 76، وذلك في معرض “خطابه الإنساني” بخصوص قضية الهجرة وارتفاع الاحتباس الحراري والجفاف التي تجتاح العالم. والمفارقة، حذرت مجموعة منظمات الاغاثة الدولية في ذات اليوم، بأن ملايين الأشخاص في سوريا والعراق معرضون لخطر عدم الوصول إلى المياه والكهرباء والغذاء وسط ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض مستويات المياه بشكل قياسي بسبب الجفاف وقلة هطول الأمطار.

تناول التقرير، الذي نشر نسخة منه وكالة أسوشيتد برس الامريكية بالتعاون مع وكالة بلومبيرغ، المخاطر المروعة جراء انخفاض منسوب مياه نهريّ الفرات ودجلة على السكان المحليين دون إشارة صريحة إلى تحمل المسؤولية الجانب التركي الذي يسخر ورقة المياه كسلاح ابتزازي منذ عقود ضد كل من شمال شرق سوريا والعراق. كما ناشد التقرير بوجوب أن ” تقوم السلطات المحلية والجهات المانحة على التحرك بسرعة لإنقاذ الارواح”.

عوضاً عن تحشيد الضغط الدولي ضد حكومة أنقرة، أوضحت المنظمات الاغاثية التي تراقب حركة الهجرة وعلاقتها مع التغير المناخي وتدهور المحيط الحيوي على المستوى الدولي، بأن الدولتين الجارتين (سوريا والعراق) اللتين عانتا منذ سنوات من الصراع والحروب وسوء الإدارة في حاجة إلى تحرك سريع لمكافحة النقص الحاد في المياه. وخاصة أن الجفاف يؤدي إلى تعطيل إمدادات الكهرباء وانخفاض مستويات المياه على السدود، مما يؤثر بدوره على البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك المرافق الصحية.

استناداً لما جاء في محتوى التقرير، فإن أكثر من 12 مليون شخص في كلا البلدين، بما في ذلك 5 ملايين في سوريا، يعتمدون بشكل مباشر على نهر الفرات. بينما في العراق، يهدد فقدان الوصول إلى المياه من نهريّ دجلة والفرات والجفاف ما لا يقل عن 7 ملايين شخص. فضلاً على أن حوالي 400 كيلومتر مربع من الأراضي الزراعية تواجه الجفاف. كما أن السدين في شمال شرق سوريا اللذان يزودان 3 ملايين شخص بالطاقة، يواجهان إغلاقاً وشيكاً.

 وقد علق كارستن هانسن، المدير الإقليمي لمجلس اللاجئين النرويجي وإحدى المجموعات المساعدة التي تقف وراء التحذير، إن أزمة المياه بالنسبة العراق “ستصبح قريبًا كارثة غير مسبوقة تدفع بالمزيد إلى النزوح”، وهو ما دفع المسؤول في المجلس الدنماركي لمراقبة أوضاع اللاجئين السوريين، جيري غارفي بالقول: “لا يوجد وقت نضيعه”، مضيفاً أن أزمة المياه من المرجح أن تزيد الصراع في منطقة مزعزعة بالفعل.

يأتي هذا التقرير متطابقاً لتحذيرات المنظمات المدنية في شمال شرق سوريا إلى جانب المنظمات الدولية وعلى رأسها الفاو والجمعية الاوروبية للمياه ومنظمة حقوق الانسان حيال الآثار المروعة من انخفاض منسوب المياه وزيادة نسبة التلوث (ازدياد تركيز النفايات الصناعية والصرف الصحي للمدن الواقعة على سرير النهر) في بحيرات الفرات وبالتالي انعكاسها بشكل مباشر على السكان وتزايد انتشار الأمراض، وتبعات ذلك على الثروة البيئية والفعاليات الزراعية، وما يجر معها من تأثيرات كارثية مباشرة على الاقتصاد المجتمعي والأمن الغذائي العام للمواطنين في شمال شرق سوريا، وقد شهدت المنطقة ارتفاعاً ملحوظا في الأمراض المنقولة بالمياه، وخاصة في مستوطنات النازحين التي تؤوي عشرات الآلاف من الناس.

 مثل هذه التقارير والأبحاث المختصة التي تتناول قضية البيئة والاحتباس الحراري والجفاف وعلاقتها مع قضية الهجرة واللاجئين قد تحيل الأزمة التي تهدد المحيط البشري والحيوي إلى عوامل مناخية وحروب وصراعات وفشل السلطات الادارية المحلية، لكن أزمة المياه في شمال شرق سوريا والعراق على وجه الخصوص تتحمل مسؤوليتها المباشرة الدولة الجارة تركيا.

تركيا من بين الدول النادرة في العالم لم توقع على اتفاقية باريس للمناخ إلى هذه اللحظة، وسجلها من حصة الاحتباس الحراري مرتفعاً جداً على المستوى الدولي، وهي بذلك لا تتوانى أن تستغل تخزين المياه عمداً في السدود التي دشنت ضمن إطار مشروع جنوب شرق الاناضول بغية معاقبة شمال شرق سوريا. حيث قطعت إمدادات المياه إلى أدنى مستوياتها التاريخية عن شمال شرق سوريا في هذا العام. وتبعاً للمختصين لا يبدو أن هناك مشكلة في تركيا تتعلق بحاجتها إلى المياه بذريعة تراجع تدفق نهريّ دجلة والفرات، سوى أنها تستخدم المياه كسلاح سياسي تقليدي ضد الكرد ومن ورائهم سوريا والعراق عموماً.

وتروي مياه الفرات على سبيل المثال سهول على امتدادٍ واسع على طول ضفافه في شمال شرق سوريا، إذ تقدر المساحات المزروعة بالحبوب وأهمها القمح إلى جانب البساتين وأشجار الفاكهة بـما يقارب 400 ألف هكتار من الأراضي الزراعية حسب عدد من لجان وهيئات الزراعة في مناطق الإدارة الذاتية. كما تعمدت تركيا مراراً إلى قطع المياه على محطة “العلوك” التي تقع تحت سيطرة الميليشيات الموالية لها في ريف رأس العين (سريكانيه)، إذ تتوقف عليها حياة نحو 600 ألف شخص.

الرئيس التركي أعلن في وقت سابق من هذا العام بأن تركيا شهدت خلال السنوات الـ 18 الأخيرة، تشييد 600 سد، و590 محطة لتوليد الطاقة الكهرمائية، و262 منشأة لمياه الشرب، على نهري دجلة والفرات، إذ تكشف هذه الأرقام بأن تركيا كانت تتحرك بصورة أحادية الجانب منذ غزو العراق، لتمرير أجندتها فيما يخص التنمية القومية المتطرفة التي تناسب نزعة الاستثمارات الداخلية والعالمية دون مراعاة للاتفاقيات والقوانين الدولية المعنية في تقسيم حصص المياه بين هذه الدول، كما تسخر هذه الورقة لفرض الإملاءات السياسية والأمنية على كل من العراق وسوريا. وتحديداً على مناطق شمال شرق سوريا، حيث تنشط الإدارة الذاتية التي تكافح الإرهاب وسط شروط أمنية واقتصادية صعبة.

عموماً، يفتقر نهج بعض الدراسات البحثية والتقارير الدولية في كشف المستور عن سياسة البيئة وعلاقتها مع مصالح الدولة القومية على غرار سياسة اليمين التركي الحالي، وهي بذلك تتناقض مع الأبحاث العلمية الجادة والسياسيات الدولية المتماسكة التي تشدد على أن أزمة البيئة والجفاف والاحتباس الحراري تستدعي خطوات ملموسة تتجاوز أجندة الدولة القومية.

من هذه الزاوية على وجه الخصوص، ينبغي الإشارة إلى علاج أزمة انخفاض منسوب المياه وانهيار منظومة الأمن الغذائي وتهالك البنية التحتية، وما ينجم عن ذلك من تدهور الوضع الصحي ودفع السكان نحو التهجير القسري في كل من سوريا والعراق. ودون سحب هذه الأوراق المدمرة من قلب سياسة تركيا، حتى لو تراجع الصراع العسكري المباشر وجرى الإحلال نوع من السلم والاستقرار، لن تقف حدة الأزمة الوجودية التي تهدد المحيط الحيوي في كل من سوريا والعراق. 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد