هنري .ج. باركي
إن الدولة التي نعرفها بالمفهوم الحالي تتجه نحو الاضمحلال في الشرق الأوسط. حيثُ أنّ النزاع في سوريا، العراق، ليبيا، اليمن، والتدخلات الخارجية سواء من دول المنطقة أو خارجها، بالإضافة إلى أنظمة الحكم المروعة، كل ذلكَ ساهم بالمجمل في دمار المجتمعات، والبنية التحتية، وأنظمة الحكم. كما أن ممثلي جميع الأطراف، بغالبيتهم تسلحوا، ويُظهِرونَ توجهاً نحو مصالحهم الفئوية. لذا فإن أجيال مَبنية على عدم الثقة تكمنُ وراء ذلك.
من الصعب رؤية مدى الخراب وعدم فاعلية الإصلاح وإعادة الأمر على ما كان عليه. وللتأكيد، فإن العديد من دول الشرق الأوسط كانت غالبيتها غير شرعية منذ نشأتها. ربما كانت معروفة وبارزة على المستوى الدولي، إلا أنّ حكوماتها مارست صلاحياتها في أغلب الأحيان من خلال القمع وأحياناً عبر ممارسة الإرهاب. اعتمدوا على القصص والقشور السياسية لتبرير سيطرة الأقليات العرقية والطائفية، والعشائر الشبيهة بالمافيا، أو الدكتاتوريات المتعطشة للسلطة والقوة . لم تقم حكومات غالبية هذه البلدان بإنشاء مؤسسات وطنية، لذلك هي لم تستمر.هزَّ الربيع العربي دولاً عربية من العمق، وسَرّعَ تفَكُكَها.
لكن صعود تنظيم “داعش”، وسهولة انتشاره عبر سوريا، والعراق، كان وراء تفكك وتدهور الدول الحالية. قد يبرهن التنظيم فعاليته وخصوصيته، إلا أنّ هزيمته لن تعيد سوريا، والعراق إلى سابقِ عهديهما. بدلاً من ذلك، من المحتمل أن نرى بقايا وخلايا نشطة للتنظيم بعد هزيمته، نظراً لتغلغله داخل النسيج الاجتماعي في تلك الدول، وهذا الأمر ينطبق على المجموعات الأخرى أيضاً مثل “جبهة النصرة”، وهو فرع من “القاعدة”، بالإضافة إلى الميليشيات الشيعية التي تأسست ونُظِمَتْ وانتشرت لمحاربة تنظيم “داعش”.في العديد من الأماكن، سوف تستمر الحدود الجغرافية في التغّيُير، إلى المدى الذي ستصل إليه في قادم الأيام، ربما في الغالب ستكون الدول، في تخيلات القادة، رسامي الخرائط، والمنظمات التابعة للأمم المتحدة.
قد فقدت السيطرة بطريقتين مختلفتين، الأولى عبر الشروط السياسية والإدارية العملية، والثانية من منظور الولاء والصلة التي تربطها مع أجزاء كبيرة من سكانها. إنّ الهدف التقليدي لدولتي سوريا، والعراق والمتعلق بجمع الضرائب، وتطبيق التجنيد العسكري الإجباري على المستوى الوطني في البلاد، بات غير قابلاً للتطبيق بشكلٍ واضح جداً. مثل هذه الدول من الممكن أنها لا تملك وسائل وطرق فعالة لمراقبة وضبط حدودها.
كما أنّ المجتمعات السنيّة في كلٍ من العراق، وسوريا، تجمعهما الكثير من القواسم المشتركة، أكثر من تلك التي تربط كلٍ منها بالفئات الجارة لها والتي تشاركها الوطن. بنفس الطريقة، فإن الميليشيات العراقية الشيعية تُفَضِل أن تقاتل بدعم الدولة الإيرانية على الالتزام وإطاعة أوامر ومراسيم الحكومة العراقية. في لبنان، هددّ “حزب الله” الشيعي، قوة عسكرية فريدة معترفة وغير تابعة للقوات العسكرية الحكومية، المملكة العربية السعودية، وذلك عَقِبَ تدخلها العسكري ضد القوات الحوثية في اليمن.
إذا لم تكن الحالة العامة معقدةً بما فيه الكفاية، ما كان الكرد ليظهروا كقوة رئيسية في الساحة أيضاً، فعلى الرغم من توزعهم وتشتتهم بين أربع دول وهي “سوريا – العراق – إيران – تركيا”. لكنهم وبكل تأكيد سيكونون مؤثرين بشكل فعال في تشكيل الحالة العامة الجديدة في المنطقة. بالإضافة إلى حكومة إقليم كردستان العراق، الكيان الكردي الفدرالي المعترف به، فإن الكرد في تركيا، وعبر منظمتهم المتمردة، حزب العمال الكردستاني، دخلوا في مفاوضات سلام صعبة مع الحكومة التركية. بعد ذلك هنالك الكرد في سوريا، الذين وبسبب الحرب الأهلية في البلاد وبمساعدة الكرد من الأجزاء الأخرى، سوف يقررون مصير البلاد في المستقبل.
كما أنهم وبمساعدة القوات الجوية الأمريكية، لم ينجحوا فقط في الدفاع عن مناطقهم في مواجهة تنظيم “داعش”، بل أيضاً تمكنوا من دحر مقاتلي التنظيم إلى الوراء.يمكن لأحدهم الحصول على لمحة عن الشرق الأوسط الجديد، عبر معرفته نوايا حزب العمال الكردستاني، مثلما اكتشفتُ ذلك بنفسي خلال زيارتي الأخيرة التي قمت بها إلى جبال قنديل، كردستان العراق. فبينما هو جديٌ حول نيته في إنهاء الكفاح المسلح ضد تركيا، إلا أن حزب العمال الكردستاني، ليس لديه نية في إلقاء السلاح والتخلي عنه.
بتشجيع من النجاحات الكردية، يرى الحزب نفسه حركة ذو هدف واضح، حيثُ أنّ هدفه على المدى القريب يقوم على حماية الكرد، وعلى رأسهم الكرد السوريين والعراقيين، من هجمات تنظيم “داعش”، بالإضافة إلى حماية الأقليات الدينية من الخطر الذي يهددهم مثل “الإيزيديين والمسيحيين”.
أما على المدى المتوسط فإن الحزب يريد أن يدفع رؤيته الديمقراطية الخاصة إلى الأمام، ربما الأكثر دقةً، هي الطريقة التي يصف ويتصور الحزب فيها نظام الحكم الخاص به “مجموعات المجتمع المدني المسلحة”.مثل هذه الرؤية تبدو خيالاً، لكنها إشارة جيدة بدأت بالظهور في الشرق الأوسط.
من المحتمل أن يظهر في قادم الأيام نظام فوضوي متعدد الأقطاب حيث تصبح فيه الحدود الوطنية محتفظة بأسمائها على الخرائط لكنها على الواقع متقاطعة بين قوى متعددة مثل حزب العمال الكردستاني، وفروعه في إيران، سوريا، والمقاتلين الكرد في العراق، وحزب الله، تنظيم “داعش” أو بقاياه، أو ربما منظمات جهادية أخرى مثل “جبهة النصرة”، أو الميليشيات الشيعية العراقية، الخ. المشهد لا يبدو جميلاً، لكن علينا الاعتياد عليه.
*أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ليهاي الأمريكية صحيفة (Washington Post) الأميركية. الترجمة: قصي شيخو. خاص بالمركز الكردي للدراسات.