في تحليل البنية الاقتصادية وتحالفات الفساد والجرم الجنائي لدى تنظيم “داعش” الإرهابي

يتزايد الاهتمام بظاهرة “داعش” على الصعيد العالمي، وتجتهد مراكز البحوث الإستراتيجية ومعاهد الدراسات الدولية لتحليل بروز هذا التنظيم وتمدده في فترة زمنية سريعة على مساحات جغرافية كبيرة. ويمثل الاقتصاد والتمويل إحدى الجوانب المهمة في فعالية وقوة هذا التنظيم الأصولي المتطرف، فآلية وهيكيلية التمويل وتأمين المصادر المالية وتوزيع “ثروة” التنظيم على المقاتلين والموظفين وعموم المواطنين في “دولة الخلافة”.

ويربط العديد من الخبراء بين الفساد والجريمة الجنائية وشبكات تهريب النفط والاتجار بالسلاح وبين العامل الإيديولوجي الجاذب للشباب المجند من داخل العالم الإسلامي ودول الغرب نفسها. هذا ناهيك عن إتقان التنظيم للتقنية الحديثة واستفادته من العولمة في تحويل وتبييض أموال المساعدات التي يتلقاها من الأغنياء ورجال الأعمال حول العالم.

 ثمة، داخليا، تحالفات تتم بين الجهاديين والبعثيين الصداميين التواقين إلى السلطة، وشبكات الجريمة المنظمة وتهريب النفط والاتجار بالسلاح في السوق السوداء. ولفهم كل هذه الأمور، نستعرض هنا لقاءين مع أثنين من كبار الخبراء الغربيين في مجال الإرهاب وتمويله وشبكات الجريمة المتحالفة مع الإيديولوجية الأصولية. اللقاء الأول هو حديث مع: لويس شيلي: وهي خبيرة في شؤون الإرهاب وقضايا تحصيل الأموال والفساد، وأستاذة جامعية في قسم العلوم السياسية في جامعة جورج ماسون في ولاية فرجينيا الأميركية. وقد صدر لها مؤخرا كتاب بعنوان (التشابكات القذرة: الفساد، الجريمة، الإرهاب)  يبحث في هيكيلية التمويل في تنظيم “داعش” وكيفية لعب الفساد والخلفية الجنائية الدور الأبرز في توطيد نظام التمويل ومصادر الأموال لدى هذا التنظيم. وقد أجرى الحوار معها الصحفي آنسجار كراو لصحيفة (دي فيلت) الألمانية.

واللقاء الثاني مع توم كريتينك: وهو محلل مالي وأمني لدى معهد (رويال أونايتد سرفيس) البريطاني، والذي يعتبر من أهم مراكز الدراسات الأمنية والدفاعية في بريطانيا. كريتينك يبحث ويحلل في كيفية تمويل المنظمات الإرهابية لنفسها وطرق الحصول على المصادر المالية ونقل الأموال، والإجراءات الإستباقية لتجفيف منابع التمويل والتأثير في بنية الإرهاب وفاعليته.

وقد عمل كريتينك 20 عاما في البنوك وكان مديرا لبنك (JPMorgan Chase) في مدينة نيويورك. وقد أجرى الحوار معه الصحفي جان فولمر لصالح صحيفة (دي تسايت) الألمانية.  نص الحوار مع الخبيرة الأميركية لويس شيلي: ـ في كتابك الصادر حديثا (التشابكات القذرة: الفساد، الجريمة، الإرهاب) تؤكدين على قضية أن الكثير من الإرهابيين يعتبرون الإرهاب مصدرا حصريا للرزق والعيش، وهنا ابتعدت عن الدوافع والعوامل الدينية والسياسية وركزت على الدوافع الاقتصادية، وكمثال على نظريتك هذه ذكرت مجموعة (أبو سيّاف) الفلبينية. وفقا لهذه النتيجة هل يمكن اعتبار “داعش” أيضا منظمة تهدف للتربح الاقتصادي وجمع الأموال؟

لويس شيلي: منظمة “داعش” تضم العديد من الاتجاهات والتيارات. والثابت بأن الكثير من المتطرفين من ذوي الخلفيات الجنائية قد اتجهوا من أوروبا وأميركا للانضمام إلى صفوف “داعش”. والبعض من هؤلاء عادوا مؤخرا إلى بلدانهم وارتكبوا من جديد جرائم جنائية الدافع ولا علاقة لها بالإرهاب. هذه إحدى أوجه القضية. ـ والوجه الآخر؟

شيلي: إذما عاينا “داعش” بوصفه كتلة تضم تيارات مختلفة، فسوف نصطدم بالنخبة البعثية من تلك التي كانت تحكم وتسيطر زمن النظام العراقي السابق تحت قيادة صدام حسين. الأمر يتعلق في العراق بمجتمع مليء بالفساد والفوضى، كان البعث يتواجد على رأسه ويقوده. وكل نظام حزب واحد يتصف بالضرورة بالفساد الكبير المستشري والسبب لأن هناك حزبا واحدا يحتكر كل السلطة. في الفترة الأخيرة من حكم نظام صدام حسين، اتضحت معالم ظاهرة ملفتة وهي أن الكثير من قيادات البعث والمسؤولين النافذين فيه أسسوا المعامل والشركات الوهمية من اجل جمع واكتناز الأموال لأنفسهم ووضعها في مكان آمن.

ومثلما أشرتٌ في كتابي فإن الكثير من المحللين للشأن العراقي خاضوا في ظاهرة الشركات الوهمية التي كانت موجودة قبل الغزو الأميركي للعراق في 2003م كدليل على رغبة النظام العراقي في التحايل في أمر برنامجه النووي آنذاك. لكن أتضح بعد ذلك بأن هذه الشركات كانت تخص مسؤولين نافذين في السلطة والحزب الحاكم أرادوا جمع الأموال بطرق غير شرعية. والكثير من البعثيين النافذين أسسوا كذلك أعمالا أخرى بغرض التربح، منها شركات تهريب ونقل وتسويق النفط. ـ تهريب النفط، أي ما تعتمد “داعش” عليه اليوم في التمويل؟شيلي: بالضبط. تهريب النفط من العراق بدأ مع برنامج النفط مقابل الغذاء الذي اعتمدته الأمم المتحدة.

واليوم أيضا يتم التهريب، ويشمل سلعا كبيرة من بينها السجائر. وهذا الأمر يوضح لنا حجم وتأثير التيارات ذات الخلفية الجنائية داخل “داعش”. الشباب ذوو الخلفية الجنائية في الغرب يجتمعون مع البعثيين القدماء ذوو الماضي الممهور بالأعمال اللاشرعية لكن المنظمة بشكل جيد، وهذا الالتقاء يحدث تحت راية “داعش”. المتطرفون يمارسون سياسة الترغيب والترهيب في المناطق التي احتلوها من أجل جمع المال عبر فرض الإتاوات والتبرعات والضرائب الخاصة وتحصيل الأموال تحت حجج الحماية والدعم وغير ذلك. وتستخدم هذه الأموال في شراء الأسلحة من السوق السوداء، وهنا يزداد تجار السلاح ثراء وتزدهر تجارتهم عبر هذا المنحى من الفساد.ـ عندما ينضم الشباب ذوو الخلفية الجنائية من الغرب إلى صفوف “داعش”، هل هناك رغبة لدى هؤلاء في التكفير عما ارتكبوه، ويظنون إن خطاياهم ستٌغفر إذما انخرطوا في صفوف “داعش” وجاهدوا هناك؟. هؤلاء يقاتلون الآن من أجل الله، وهنا تمحي كل الذنوب السابقة مثل تجارة المخدرات والسرقة وجرائم الاعتداء الجسدي، أليس كذلك؟شيلي: هذه نقطة مهمة. الكثير من هؤلاء لا يرغبون في القتال لمجرد القتال، لكنهم يطمعون في الغفران والعفو عما فعلوه في السابق. وهذا يصب في خدمة الدعاية التي يبثها “داعش”.

 أما بقية الشباب المجند في الغرب فالأمر يتعلق عندهم بالهروب من العلاقات الاجتماعية السيئة، أو الخلافات الأسرية، حيث ينحدر أغلبهم من أسر مفككة. ـ إذا يمثل “داعش” هنا مصيدة لكل شخص مضطرب يريد الهروب من واقعه أو يرغب في المسامحة والمغفرة؟شيلي: ليس هذا فقط. تنظيم “داعش” يحوي على قواعد ملفتة بغرض تجنيد الشباب في صفوفه. يتم البحث عن الناس الذين يتحدثون اللغة الإنكليزية بطلاقة وذلك من أجل استخدامهم في قضايا الدعاية والنشر. وكذلك يتم تفضيل أولئك الذين يفهمون في الأمور التقنية ولديهم خبرة في مجال الإنترنت.

طبعا “داعش” يحتاج إلى مقاتلين ويتم التجنيد على هذا الأساس، ولكن ليس كل من يتقدم يتم التقاطه. تنظيم “داعش” يبحث عن النوعية والجودة هنا. يبحث عن الكفاءات والخبرات في المقام الأول.ـ النخبة البعثية كانت علمانية وبعيدة عن الدين. ولكن قبل سقوط نظامه استخدم صدام حسين ورقة الدين. اليوم هؤلاء الكوادر الأعضاء السابقون في حزب البعث، اندمجوا بشكل كبير في التطرف الديني وتحولوا ضمنه إلى إرهابيين. كيف حدث ذلك؟شيلي: حدث زواج مصلحة هنا. تنظيم “داعش” يريد التركيز على سوريا ولكن البعثيين جاءوا إلى الجهاديين وأقنعوهم بالبدء بالعراق أولا، لأن هؤلاء يريدون استعادة مجدهم الغابر، وقد تم استخدام التوجه الطائفي لحكومة نوري المالكي في تسويق هذا الأمر.

 وتحت حكم المالكي كان السنّة يشعرون بالإقصاء، فقرر الكثير منهم العودة إلى السلطة رغما عن المالكي، ولكن كمقاتلين في صفوف “داعش” هذه المرة. وبدأوا باحتلال المناطق السنيّة وترسيخ إدارتهم فيها رغما عن المالكي وحكومته. ـ ألا تساهم هذه الأجندة المتناقضة للمتطرفين والبعثيين القدماء والأشخاص ذوو الخلفية الجنائية في إحداث نوع من عدم التوازن داخل المنظمة الإرهابية؟شيلي: هذه نقطة ضعف “داعش” وولدت معه. الأمر يتعلق بتحالف جرى وفق مصالح تقاطعت. أعضاء هذا التحالف يحتفظ كل منهم بأجندة خاصة ولدى كل رؤيته الخاصة للعالم وللسياسة. لكن الآن وعندما يتعرض “داعش” إلى هجوم من الخارج فإن هناك قدرا جيدا من التماسك والترابط الداخلي. ـ الوصفة القديمة المعروفة في الشرق الأوسط: أنا وأخي على ابن عمي، وآنا وأخي وأبن عمي على الغريب؟شيلي: وهذه الوصفة تقود إلى أوضاع مضطربة للغاية وسخيفة.

نحن نعلم بأن “داعش” تحارب الكرد بضراوة، لكن قبل أسابيع قليلة جرى اتهام وزيرين كرديين في حكومة إقليم كردستان بالتعاون مع “داعش” في قضية تهريب النفط الذي تسيطر عليه “داعش” ونقله لبيعه في السوق السوداء. ـ في كتابك الأخير تلقين الضوء على مصادر تمويل الإرهاب. تنظيم “داعش” يمول نفسه عبر تهريب النفط والبشر والسجائر وغير ذلك. يجمع الإتاوات والضرائب في المناطق التي أحتلها. نهب البنوك وما يزال يحصل على تبرعات الأغنياء والمقتدرين في بعض الدول السنيّة؟شيلي: المصدر الأهم لتمويل “داعش” الآن هو النفط المهرب. هذه التجارة تجلب للتنظيم كل يوم مليون دولار.

ولكن هناك مصدر آخر ينمو وهو الأموال الآتية من خلال جمع الضرائب والإتاوات من المناطق التي يسيطر عليها التنظيم. وهذا المصدر ينمو كلما توسعت المساحة التي يسيطر عليها “داعش”. لذلك فالمصادر تتنوع والإيرادات في ازدياد كبير. ـ تنظيم “داعش” يعٌتبر المنظمة الأغنى في العالم. لديه احتياطي مالي يربو على الملياري دولار. هذا موجود في صندوق الحرب لدى التنظيم. لكن المصاريف في تزايد مستمر. “داعش” عليه أن يدفع كل يوم رواتب مقاتليه، وعليه أن يدفع الأموال لشراء الأسلحة والذخائر وكذلك رواتب الموظفين المدنيين في المناطق التي يسيطر عليها؟شيلي: ليس فقط الموظفين المدنيين، في هذه المناطق يتم منح الرواتب لكل شخص، حتى وأن لم يقدم أي عمل أو خدمة. الهدف هو تقديم الولاء والطاعة للتنظيم.

 السؤال الذي يطرح نفسه هنا وهو سؤال غاية في الأهمية: هل تفوق مصاريف “داعش” الواردات؟. لا يمكن القطع بجواب، لكن الثابت بان التنظيم لديه موارد كثيرة وثروات كبيرة.ـ هل أنت متفائلة فيما يخص القضاء عسكريا على “داعش”، وكذلك اقتلاع جذور الإرهاب العالمي؟شيلي: الحل العسكري لا يكفي. إمطار “داعش” بالصواريخ والقصف الجوي المستمر لن يقضي عليه، ولن يحل المشكلة. يجب علينا القضاء على البنية الاقتصادية للمنظمة. علينا استخدام نهج جديد في محاربة “داعش” بالاعتماد على التأثير الشامل في المجتمع وبنيته.

 يجب بناء هيكلية مجتمع مدني وأن يتساعد على إنجاز هذا العمل كل من الحكومة والمنظمات الدولية المعنية. أنا متفائلة بتحقيق تقدم في المدى المنظور في هذا الموضوع، لكن المهمة طويلة وشاقة وقد تتمدد إلى عقود وهذا ما نتخوف منه. ـ كتابك الجديد يحمل عنوان( التشابكات القذرة: الفساد، الجريمة، الإرهاب)، ما هي أخطر هذه التشابكات؟، هل هي الإرهاب المتحالف مع الجريمة الجنائية الدوافع أم الإرهاب المتحالف مع الاقتصاد؟شيلي: أعتقد أن الإرهاب المتحالف مع الفساد هو الأخطر، وهذا يمثل بالنسبة إلينا التحدي الأكبر. قبل فترة قال رئيس عربي من شمال أفريقيا بأن “الربيع العربي” هو نتاج الفساد وانعدام الآمال بمستقبل أفضل لدى قطاع الشباب. هذا التصور هو ما خرجتٌ به أيضا في كتابي. ـ الفساد لا يعني الإرهاب بالضرورة.

شيلي: ظاهريا. لكن “التشابكات القذرة” التي تحدثتٌ عنها تتقاطع في الفساد. الفساد يجعل من التجارة والأعمال طريقا سريعا لولادة الإرهاب. ومن هنا يستطيع “داعش” أن يدفع لجنوده الآتين من بلدان كثيرة للقتال ضمن صفوفه.ـ قبل ثلاثة أو أربعة عقود، في حالة الجيش الجمهوري الأيرلندي او منظمة (ماينهوف) الألمانية، لم يكن الفساد ليلعب أي دور يذكر. كان الإرهاب يتم لدوافع إيديولوجية أو ربما لأسباب شخصية ولتحقيق رغبة أو سعادة فردية بإنجاز هذا الفعل القاتل. شيلي: في كتابي أصف هذا التحول وأقف عنده. الفساد كان دائما العامل الحاسم في الجريمة الجنائية.

ولكن في الماضي لم يكن الأمر حاسما بالنسبة للإرهاب. اليوم على النقيض من الأمس، ينمو الإرهاب في البيئة والبلدان التي تنخر فيها الفساد. البلدان التي تمنع مواطنيها من الاستفادة من الثروات الوطنية وتدفع بالشباب في أفق مظلم لا مستقبل منظور يلوح في نهايته… نص الحوار مع الخبير البريطاني توم كريتينك: ـ هل سيستفيد “داعش” اقتصاديا ومن نواحي التمويل اذما احتل بلدة مثل كوباني؟توم كريتينك: موقع كوباني على الحدود مع تركيا مهم للغاية. التهريب من أهم مصادر التمويل لدى “داعش”. ـ  كم يملك تنظيم “داعش” من المال؟كريتينك: هناك حديث عن مليار أو ملياري دولار. اعتقد بان “داعش” يبيع كل يوم النفط بحولي مليونين إلى ثلاثة ملايين دولار. وهكذا سنويا يحصل على 500 إلى 600 مليون دولار.

هذا علاوة على أموال الضرائب ورسوم العربات والأسلحة والأموال والعقارات التي استولى عليها مؤخرا. ـ لكن الولايات المتحدة الأميركية دمرت مصافي تكرير النفط في سوريا؟كريتينك: القصف على المصافي سوف يؤثر في قدرة “داعش” المالية. لو كنت في مكان المسؤول عن ملف التمويل في “داعش” لفكرت في كيفية تعويض الخسارة الناتجة عن قصف المصافي، أي عن البديل. مضاعفة الضرائب على المقتدرين، ولو أن ذلك قد يؤدي في المدى البعيد إلى نتائج عكسية.

 كذلك خصم نسب من رواتب الموظفين أو المساعدات المقدمة للناس العاطلين عن العمل. وفي النهاية يمكن شن عمليات الاختطاف للحصول على الأموال. منظمة “القاعدة” في المغرب محترفة في مثل هذه الأمور. ـ هل بمقدرة “داعش” الحصول على القروض الدولية مثلا؟كريتينك: الواضح بأن “داعش” يستمر في تحصيل الضرائب، أو ما نسميه نحن الإتاوات، من الناس في أماكن سيطرته. وهذا هو المصدر الرئيسي لأمواله. وقبل مدة قصيرة افتتحت البنوك في الموصل أبوابها من جديد. المواطنون يستطيعون الحصول على القروض مقابل ضرائب خاصة مقدمة إلى “داعش”.

ـ كيف تستطيع دولة “داعش” أن تبقى بينما المجتمع الدولي والمنظومة الدولية ترفضها، وهي غير قادرة على التأقلم داخل هذه المنظمة وغير مقبولة أصلا؟كريتينك: لقد عاشت الحضارات البشرية آلاف السنين عبر سك العملات المعدنية البسيطة، أو حتى نقشها على الحجارة، أو عبر اعتماد الثروة الحيوانية وتبادلها مع السلع الأخرى. وعندما نتحدث عن دولة بالمفهوم المعروف، فأنه من المهم أن تستطيع هذه الدولة الاندماج في المجتمع الدولي، لكن في حالة “داعش” الأمر يختلف. فدولة هذا التنظيم لا تريد أن تندمج في المجتمع الدولي أو أن تكون جزء من الاقتصاد العالمي. أعتقد من الخطر الكبير تفسير الأوضاع وتحليلها فقط من وجهة نظر الغرب ورؤيته إلى الأمور. ـ من أين يأتي “داعش” بالأموال إذن؟

كريتينك: تعود جذور “داعش” إلى ما قبل 15 عاما، إلى عام 1990، حيث تعلم “داعش” سياسة التأقلم مع الأوضاع والتطورات الاستثنائية. أهم القواعد للبقاء والاستمرار هو متابعة مصادر المال ووضعها تحت المراقبة والسيطرة. ففي سوريا ركز “داعش” على العمليات التجارية وبيع النفط وتهريبه. فقد تم تهريب النفط الذي يسيطر عليه “داعش” عبر تركيا إلى النظام السوري. ولا ننسى بأن النظام السوري ما يزال يسيطر على المصافي المهمة في البلاد، لذلك فإن “داعش” والنظام يحتاجان بعضهما البعض في قضية النفط. ـ ما هو الدور الذي تلعبه كل من الكويت وقطر؟

كريتينك: وزير الدولة الألماني لشؤون التطوير اتهم قطر بتقدم الدعم ل”داعش”، لكن ليس ثمة من دليل واضح على صحة هذا الإتهام.ـ هل حدثت تغييرات أو تطورات في قضية التمويل لدى التنظيم؟ كريتينك: لقد أصبح “داعش” الآن ماركة مشهورة في العالم وذلك عبر الدعاية الفعالة له في وسائل الإعلام، وكذلك عبر إعلانه عن “دولة الخلافة”. وأعتقد بأن جعل التنظيم ذو جاذبية وشهرة خاصة في العالم، كان هو الهدف من وراء الإعلان عن “دولة الخلافة” هذه. الآن تصل التبرعات المادية والمساعدات من كل أنحاء العالم، حتى من أندونيسيا. هناك مبدأ في الإسلام: إذا عجزت عن الالتحاق بالجهاد بنفسك فباستطاعتك المساهمة في ذلك عبر تجهيز شخص آخر بالسلاح والمستلزمات المطلوبة وإرساله للجهاد بدلا عنك. ـ كيف يمكن لتنظيم “داعش” امتلاك مثل هذه الميزانية دون أن السيطرة التامة على الأرض هناك؟كريتينك: تنظيم “داعش”، وقبل سيطرته المباشرة على الأرض، كان يملك نفوذا كبيرا في مدن مثل الفلوجة والموصل. لقد بنى شبكات مافيوزية في المحيط السني العراقي، وصار يتحكم بالعديد من الأمور هناك فعليا. أصبح هو الآمر الناهي وصار المواطنون يقدمون له الضرائب والمساعدات وليس للدولة.

ـ كيف تصل المساعدات إلى “داعش”؟كريتينك: هناك طريقان: عبر بنوك خاصة وبحسابات غير مباشرة، أو عبر التحويل لحساب ثالث. وهنا من المهم على البنوك أن تراقب الحسابات بشكل جيد لكي تحد من عملية استفادة “داعش” من التحويلات البنكية. لكن البنوك في قطر والكويت لا تملك الآلية المناسبة والفعالية لمراقبة التحويلات المالية. وهناك طبعا الطريقة الأخرى وهي نقل الأموال نقدا عبر أشخاص محددين. قبل مدة تم القبض على مواطن بريطاني كان ينقل مبلغ 20 ألف يورو داخل ملابسه الداخلية. ولا تنسى بأن مبلغا من مليون يورو لا يزن سوى بضع كيلوغرامات فقط.

ـ هل هناك فرق بين طريقة وأسلوب كل من “داعش” و”القاعدة” في التمويل المالي؟كريتينك: الفرق هو أن “القاعدة” تعمل عبر أسلوب خاص مثل محلات ماكدونالدز، فلديها في كل منطقة وبلد فرع. هناك “القاعدة” في جزيرة العرب، و”القاعدة” في المغرب العربي، لكن الأصل يبقى في الباكستان. منظمة “القاعدة” تحبذ السيطرة على الجماهير ولكن ليس لديها مناطق خالصة، تسيطر فيها على آبار النفط مثلا. ومشكلة أيمن الظواهري زعيم “القاعدة” هي أن “داعش” يملك مرونة وحذاقة أكبر في التمدد والاتصال والاستحواذ على مصادر مالية كبيرة تؤهله للدور الذي يعلبه الآن.

ـ لكن كيف مولت “القاعدة” الهجمات التي قامت بها؟كريتينك: حصل ذلك غالبا عبر التبرعات التي جاءت من الأغنياء الذين رغبوا في تمويل الجهاد بأنفسهم. هناك شبكة من هؤلاء تعمل لاسناد “القاعدة” ومدها بالأموال الضرورية للحركة وشن الهجمات. هؤلاء يمثلون لها “السلسلة الذهبية” للتنظيم. ومن هنا فقد تم دعم التنظيم في البوسنة والشيشيان وأفغانستان. ليس المهم ألا تكون قادرا بنفسك على السفر والجهاد، ولكن يكفي أن تكون قادرا على صرف شيك بمبلغ 100 ألف دولار. ـ كم من الأموال يحتاج المرء لكي يبني مجموعة إرهابية خطرة وفعالة؟كريتينك: التقرير حول هجمات 11 سبتمبر/أيلول أظهر بان “القاعدة” احتاجت إلى 30 مليون دولار لأمور التدريب والدعاية وشراء الأسلحة والمستلزمات الضرورية وتأجير المقار والمنازل، وقد دفعت هذا المبلغ لحكومة طالبان للتعاون معها. أما هجمات 11 سبتمبر/أيلول فقد كلفت التنظيم فقط 500 ألف دولار. طبيعي أن كل شخص يستطيع وفقط بمبلغ زهيد من المال لا يتجاوز بضع مئات من اليوروات، أن يشن هجوما إرهابيا. أيضا الهجوم على الحافلات في بريطانيا لم يكلف أكثر من 800 جنيه. لكن القضية هنا هي تشكيل نظام تمويل قادر على الاستمرار والمحافظة على هيكيلية التنظيم أو المجموعة من خلاله.

ـ ما هي أوجه الأنفاق التي يجب على التنظيم الإرهابي مراعاتها غير التحضير للهجمات الإرهابية وأمور الحرب؟ كريتينك: الآن يحاول “داعش” الحفاظ على القدر المناسب من الجاذبية لكي يستمر في استقطاب المقاتلين الأجانب ذوو الخبرات الكبيرة والتخصصات المطلوبة في مجالات الاتصالات ونقل الأموال. طبعا “داعش” لا يستطيع أن يدفع لهؤلاء الناس، وهم أيضا لا يأتون من أجل المال، بل لأسباب ودوافع أيديولوجية. لكن مع ذلك هناك نفقات مثل الطعام وتأمين مستلزمات العمل والتطوير، وهي أيضا نفقات مهمة.  ـ هل هناك فرق بين أسلوب وطرق التمويل لدى “داعش” وغيرها من المجموعات الإرهابية، مجموعة (بوكو حرام) مثلا؟كريتينك: الطريقة المعتمدة في غرب أفريقيا لجلب الأموال هي الاختطاف، وهذه الطريقة ليست الرئيسية لجلب الأموال لدى “داعش”. لكنها المصدر الرئيسي للحصول على الأموال لدى بعض التنظيمات الإرهابية الأخرى.

ـ هل أصبح “داعش” قادرا على الحصول على الأموال عبر شبكة الإنترنت مثلا؟كريتينك: لا دليل على ذلك. لكن عملية نقل الأموال والحفاظ عليها، تحدي كبير يواجه الإرهابيين الآن. التحدي أيضا هو الحصول على الخبرات اللازمة من أجل تأمين التمويل ومصادره بطرق ذكية ومعولمة مثل الإنترنت وبقية طرق غسل الأموال. ـ هل تلعب الملاذات الضريبية الآمنة أي دور في عملية تمويل “داعش”؟كريتينك: هذا الأمر بالنسبة لتنظيم “داعش” معقد للغاية وتأمينه ليس بالأمر السهل. لكن منظمة مثل (فارك) الكولومبية تستفيد من نظام هجين قادر على خلق مناطق آمنة لتحريك أموالها. تحريك الأموال وغسلها وتحويلها عبر الإنترنت.

ـ أليس من المحتمل أن ينجح “داعش” في المستقبل في استنباط نموذج يشبه نموذج التمويل لدى منظمة (فارك) الكولومبية؟كريتينك: الفرق هو أن “داعش” لا يهدف للتربح أو خلق ثروة وأثرياء مثلما تفعل منظمة (فارك). الإرهابيون في الشرق الأوسط يهدفون لبناء شبكة تمويل آمنة لتحقيق أهدافهم الإيديولوجية في المقام الأول. لنشر فكرهم وأيديولوجيتهم الأصولية على أكبر مساحة ممكنة…* إعداد وترجمة: المركز الكردي ـ الألماني للدراسات.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد