المركز الكردي للدراسات
مقدمة:
تٌعد منطقة كوباني التي تٌعتبر امتدادا جغرافيا وبشريا لوادي سروج (Deşta Sirûcê) في كردستان الشمالية (جنوب شرق تركيا)، أصغر المناطق الكردية الثلاثة في روج آفا (Rojava). وتتشكل من مركز المدينة، كوباني، وحوالي 350 قرية. ويٌشكل الكرد الأغلبية الساحقة من أهل كوباني، مدينة وريفا.
في عهد النظام السوري عانت المنطقة من إهمال متقصد ومنهجي، يمكن إدراجه ضم سياسة الإهمال والتمييز التي طالت عموم الشعب الكردي ومناطقه في سوريا، حيث لم يعترف النظام البعثي السوري بالهوية الكردية، وظلّ ينظر نظرة أمنية متوجسة إلى الكرد ومناطقهم. فرغم الطابع الزراعي لمنطقة كوباني إلا أن النظام لم يقم فيها أي مشروع أو مصنع أو بنية تحتية صناعية أو تعليمية أو خدمية، وجعلها عرضة للإهمال والنسيان.
الاحتجاجات الشعبية وثورة روج آفا:
عقب اندلاع الاحتجاجات الشعبية في شهر مارس/آذار 2011 بدأ الحراك الكردي في روج آفا عموما، وفي كوباني على وجه الخصوص، على أشده، حيث كانت المطالب الشعبية الكردية واضحة بضرورة الاعتراف الدستوري بالشعب الكردي وحقوقه القومية المشروعة في إطار وحدة البلاد، وضمان تطبيق مشروع الإدارة الذاتية لمناطق روج آفا، والاستجابة لمطالب الشعب السوري، عموما، في الديمقراطية والحرية والشفافية والكرامة.
وبعيد انزلاق الحراك السلمي السوري إلى التسليح، وإصرار النظام على استخدام العنف المفرط بدون حدود، وتزايد تأثير الدول الإقليمية وخاصة تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية، وارتماء المعارضة الخارجية في حضن المحاور الطائفية وتسلمها للمال السياسي، قرر الشعب الكردي وحركته السياسية ( في المقدمة حزب الاتحاد الديمقراطي/PYD) ترتيب الأوضاع في مناطق روج آفا، والدفاع عنها في وجه المجموعات المسلحة وبشكل خاص الجهادية منها. وضمن حق الدفاع المشروع عن النفس، وحق المواطنين في إدارة مناطقهم بأنفسهم، والحيلولة دون دخول أي قوة عسكرية، سواء تلك التابعة للنظام أو للمجموعات المسلحة الغريبة والموجهة من الخارج، إلى المناطق التي يديرها والعبث بأمنها، انتفض أهل كوباني في 19 يوليو/ تموز 2012 ، واخرجوا عناصر الأمن والاستخبارات، وموظفي ورموز النظام السوري من المدينة، معلنين بأنهم فقط من يملك الحق في إدارة مدينتهم ومنطقتهم والدفاع عنها، رافضين بقاء ممثلي النظام من أمن واستخبارات وشرطة فيها.
وقد انتهت عملية تحرير المدينة من النظام ورموزه وتركته بدون سفك الدماء، حيث منح الأهالي مهلة لعناصر الاستخبارات والأمن السوري بمغادرة المدينة دون مقاومة. وبعد ذلك تشكلت في المدينة مجالس أهلية لحفظ السلم والأشراف على الخدمات، إلى حين تشكيل مجلس تشريعي مؤقت للإدارة الذاتية في مقاطعة كوباني، حيث قرر المجلس الإعلان عن المجلس التنفيذي أي الحكومة في 27 يناير/كانون الثاني 2014 باحتفال كبير. وقد ضم المجلس التنفيذي 22 هيئة، شارك فيها إلى جانب الكرد ممثلون عن المكون العربي. وبهذه الخطوة انضمت كوباني إلى كل من مقاطعتي الجزيرة وعفرين لتشكل المقاطعات الثلاثة لمشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية في مناطق روج آفا. وهو المشروع القائم على أفكار ومبادئ التشاركية المجتمعية والسياسية في إقليم روج آفا، وينظم شؤونه عقد اجتماعي تم صياغته بالتوافق بين مكونات الإقليم العرقية والدينية والمذهبية.
تراجع “الجيش السوري الحر” في الجوار وتمدد “داعش”:
في شهر مارس/آذار من العام 2013 بدأ تنظيم “داعش” يتمدد في محيط كوباني. هاجم بشكل ممنهج المناطق المحيطة بكوباني مثل صرّين والشيوخ وغيرها، وألحق ضربات كبيرة بكتائب ومجموعات “الجيش السوري الحر” المتمركزة هناك، والتي اضطرت إلى الانسحاب والتقهقر. وكان جسر قره قوزاق من بين النقاط التي أحتلها تنظيم “داعش”، وهناك حيث يقع ضريح سليمان شاه أحد أجداد السلالة العثمانية. ورغم أن “داعش” قد دمرّ أضرحة الأولياء والأنبياء في كل منطقة وصل إليها، إلا أنه لم يفعل ذلك مع ضريح سليمان شاه. وبقيت الحراسة التركية الرمزية قائمة هناك، فيما يبدو أنه تفاهم حدث بين “التنظيم” والحكومة التركية ضمن صورة أشمل ضمنّت للجانبين فوائد ومصالح متبادلة.
واستمرت المواجهات بين كتائب من “الجيش السوري الحر” ومقاتلي “داعش” في المناطق المجاورة لكوباني، وقد استنجد “الحر” مرارا بوحدات حماية الشعب(YPG) لكي تنقذه من تصفية محققة على أيدي الجهاديين، حيث لجأ مقاتلوه، ومن مختلف الفصائل، إلى كوباني ووجدوا فيها الأمان والمأوى. ووحدات حماية الشعب(YPG)، هي وحدات عسكرية مدربة، أعلن عنها رسميا في يوليو/تموز 2012 لحماية مكونات روج آفا من الهجمات، والتصدي لكل القوى والمجموعات التي تهدف لاحتلال روج آفا وإشاعة الفوضى فيها، بالإضافة إلى التصدي لسيطرة النظام السوري وقمعه.
وشهدت الفترة ما بين مارس/آذار 2013 ويونيو/ حزيران 2014 مواجهات عنيفة، ولكن متقطعة، بين تنظم “داعش” الذي بدأ يهاجم قرى مقاطعة كوباني، بعد ان سحب الكثير من قواته من ريف حلب واللاذقية، وبين وحدات حماية الشعب(YPG). وقد قٌتل وجٌرح في هذه المواجهات المئات من عناصر “داعش”. ولم يسلم المدنيون الكرد من إرهاب التنظيم المتطرف، حيث اعتدى مقاتلو “داعش” على القرويين الكرد، كما واختطفوا في شهر مايو/أيار 2014 المئات من الأطفال الكرد من طلاب الشهادة الإعدادية. وكان تنظيم “داعش” قد تمدد في المناطق الشرقية والشرقية الشمالية من سوريا، وسيطر في نهاية 2013 والأشهر الأولى من العام 2014 على كامل محافظة الرقة، حيث أعلن ضمّها إلى خلافته المزعومة. ومع مرور الوقت بدأت سيطرة “داعش” تتوسع لتشكل قوسا يحيط بمقاطعة كوباني، فمن الرقة إلى تل أبيض إلى صرّين والشيوخ وجرابلس ومنبج. وفي هذه الأثناء تم تصفية بقايا كتائب “الجيش السوري الحر”، وكذلك طرد مقاتلي “جبهة النصرة” و”حركة أحرار الشام” و”كتائب الفاروق” وغيرها. ولم يبق في مناطق سطوة “داعش” في الرقة ومناطقها أي تواجد فعلي لكتائب “الجيش السوري الحر” أو المجموعات المسلحة الأخرى.
احتلال الموصل والتحضير للهجوم على كوباني:
في 10 مايو/حزيران 2014 استطاع تنظيم “داعش”، وبعدد لا يتجاوز 2000 مقاتل مسلحين بأسلحة خفيفة وسيارات رباعية الدفع، من احتلال مدينة الموصل العراقية التي يبلغ عدد سكانها اكثر من مليوني نسمة. وقد انهارت فرق وألوية الجيش العراقي المكلفة بالدفاع عن المدينة، وعن القاطع الشمالي برمته، أمام زحف مقاتلي التنظيم. وقد وقع المئات من أفراد الجيش العراقي أسرى في أيدي الجهاديين، حيث قتلوا شر قتلة.
وترك ضباط وأفراد الجيش العراقي المنهزم مخازن الأسلحة الأميركية الحديثة نهبا لمقاتلي التنظيم. وسيطر “داعش” على مئات العربات المدرعة، وعلى الدبابات والمدافع وكميات كبيرة من مدافع الهاون والصواريخ المحمولة، وأطنان من الذخيرة. وتوالت جرائم “داعش” بحق المجندين العراقيين، حيث قتل التنظيم في تكريت 1700 عسكريا عراقيا في قاعدة “سبايكر” الجوية. ونال الاضطراب صفوف القوات المسلحة العراقية، حيث زحف التنظيم إلى وسط العراق واحتل تكريت وبيجي والفلوجة، وتوجه نحو بغداد بعد محاصرته لبعقوبة وسامراء.
وفي 3 أغسطس/آب 2014 هاجم تنظيم “داعش” قضاء شنكال التابع إداريا لمحافظة نينوى العراقية الشمالية بمجموعات مؤلفة من ثلاثين سيارة فقط، كما صرح بذلك حازم تحسين بك، نجل أمير الإيزيديين في العالم، في حديث له في 4 أغسطس/آب 2014، مقدم إلى مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، عن سبب انسحاب قوات البيشمركة المفاجئ وغير المفهوم، وعدم مقاومتها رغم قلة عدد المهاجمين ومحدودية قوتهم العسكرية، وكان “داعش” قبل ذلك قد احتل قرى مسيحية في ريف المحافظة. وفي الساعات الأولى لزحف مقاتلي التنظيم الجهادي، انهارت دفاعات قوات البيشمركة المتمركزة في شنكال، وتركت هذه القوات مواقعها، ليتقدم مقاتلو “داعش” بكل سهولة ويسر ويحتلوا عشرات القرى ويحاصروا المدنيين الايزيدين فيها. وقد دفع تراجع البيشمركة من أمام “داعش” في شنكال رئيس الإقليم إلى الإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق ومحاسبة لمعرفة مكامن الخلل، ومحاسبة المقصرين والمسؤولين عن عملية التراجع والانسحاب وترك المواطنين العزل وجها لوجه أمام إرهاب وبطش “داعش”، لكن نتيجة التحقيقات لم تٌكشف على الرأي العام ولم تتم عملية المحاكمة علنيا للآن. وقد نجم عن هجوم “داعش” مقتل وأسر الآلاف من الكرد الإيزيديين. كذلك فرّ عشرات الآلاف من الأطفال والعجائز والنساء من بطش “داعش” وهاموا على وجوههم في جبل شنكال.
وقد استنفرت وحدات حماية الشعب(YPG) في الساعات الأولى لهجوم “داعش” على الإيزيديين، وسارعت هذه القوات من مغادرة قواعدها في مقاطعة الجزيرة لإنقاذ الإيزيديين العزل وفك الحصار عنهم، وتأمين معبر آمن لهم. وقد أسفرت هذه العميلة، وفتح ممر إنساني من مقاطعة الجزيرة إلى جبل شنكال عبر معبر ربيعة، عن إنقاذ حياة أكثر من 120 ألف إيزيدي، كان الموت يتهددهم إذما وقعوا في يد مقاتلي “داعش”. وأحدث تدخل وحدات حماية الشعب لإنقاذ الايزيديين والدفاع عنهم غضبا وحقدا لدى تنظيم “داعش” لأنه أفسد خطته في محاصرة شنكال والقضاء على أهلها، كذلك سعت وحدات حماية الشعب إلى مساعدة الشباب الإيزيدي في تنظيم صفوفه، وتشكيل وحدات مقاومة شنكال(YBŞ) والإشراف على تدريبها عسكريا وعقائديا، حيث ضمت المئات من المقاتلات والمقاتلين الإيزيديين، الذين عادوا لمحاربة “داعش” والبدء بمرحلة تحرير شنكال، فشن التنظيم حملة عسكرية كبيرة، وفي عدة محاور، على مقاطعة الجزيرة، لإغلاق الممر الإنساني وعرقلة عملية إجلاء المدنيين الكرد الايزيديين من شنكال. وقد وقعت مواجهات عنيفة بين مقاتلي التنظيم ووحدات حماية الشعب(YPG) في كل من مناطق تل كوجر، جزعة، استمرت لأسابيع استخدم فيها التنظيم مئات المقاتلين وهجمات بالسيارات المفخخة، بهدف إغلاق الممر الإنساني وتوجيه ضربة إلى وحدات حماية الشعب(YPG) وقوات الدفاع الشعبي الكردستاني(HPG) الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني، والتي تدخلت بشكل سريع ومنذ الساعات الأولى لاحتلال “داعش” قرى قضاء شنكال وفرار الايزيديين منها.
في هذه الأثناء وسعّ تنظيم “داعش” من هجماته على مقاطعتي الجزيرة وكوباني من أجل الانتقام من القوات الكردية وفتح جميع الجبهات معها لاستنزافها، وبدا بأن “داعش” يعتبر كسر إرادة الكرد في مقاطعات روج آفا وإلحاق الهزيمة بهم من أولى أولوياته، لأن المقاومة الكردية في كل من مقاطعات روج آفا وشنكال في كردستان العراق، هي الوحيدة التي تصدت له وثبتت في وجهه ومنعته من التمدد، وكذلك ألحقت به ضربات موجعة كلفته المئات من المقاتلين، هذا إضافة طبعا إلى التحريض التركي والاتفاقات السريّة بين الطرفين، سيما بعيد إطلاق “داعش” لسراح أفراد البعثة القنصلية التركية في الموصل، والذين كان قد أعتقلهم عند احتلاله للمدينة. وثمّة من يتحدث عن هدف آخر وهو رغبة “داعش” في السيطرة على معبر (مرشد بنار) مع تركيا وربط مناطق نفوذه في الموصل ودير الزور والرقة وتل أبيض بكوباني وتركيا. ومن هنا بدأ التحضير لشن الحملة الكبير على مقاطعة كوباني، والتي سيستخدم فيها “داعش” كل ترسانته العسكرية من دبابات ومدافع وآليات ثقيلة، من التي استحوذ عليها من مخازن الجيش العراقي في الموصل، ومن مخازن الجيش السوري في الرقة والطبقة ومناطق أخرى، إضافة إلى الأسلحة التي استولى عليها، في أوقات مختلفة، من الفصائل والمجموعات المسلحة التي عمل على تصفيتها.
الهجوم الشامل على مقاطعة كوباني:
بدأ الهجوم الكبير والشامل لمقاتلي “داعش” على ريف كوباني في ليلة 15 سبتمبر/أيلول 2014، حيث استخدم التنظيم الدبابات والأسلحة الثقيلة وبقدرة وكثافة نارية كبيرة ومركزّة، وبدا بأن المواجهات ستكون غير متكافئة، نظرا للتفاوت الكبير في التسليح والقدرة النارية، وهو ما دفع وحدات حماية الشعب(YPG) إلى الإسراع في إخلاء المدنيين، لكي لا يقعوا أسرى في أيدي “داعش” فيبطش بهم كما بطش بأهل شنكال. وقد أحتل “داعش” في غضون أسبوع أكثر من 100 قرية، بينما توجه أغلب سكان كوباني إلى شمال كردستان ( جنوب شرق تركيا). وفرض “داعش” حصارا على مدينة كوباني، وبدأ يقصف أحيائها بشكل عشوائي مستخدما الدبابات والمدافع الثقيلة. في الحين الذي بدت فيه وحدات حماية الشعب(YPG) ووحدات حماية المرأة(YPJ) وقوات “بركان الفرات” التي تضم كتائبا من “الجيش السوري الحر”، والتي حاربت “داعش” في الماضي في الرقة، تضع معا خطة الدفاع عن المدينة من الداخل.
وفي هذه الأثناء توجهت أنظار العالم إلى مدينة كوباني، وبدا وكأن الكل يترقب سقوطها في أيدي مقاتلي “داعش” الذين سيطروا على الموصل ومناطق واسعة من غرب ووسط العراق في أيام، واحتلوا قضاء شنكال وارتكبوا المجازر الكبيرة بحق الايزيديين. وبدأت وكالات الأنباء تنقل ساعة بساعة على الطرف التركي من الحدود الدولية، ما يحصل في كوباني من مواجهات بين وحدات حماية الشعب(YPG)ومقاتلي “داعش”، ومع مرور الأيام والأسابيع وقف العالم أمام مقاومة ضارية من المقاتلين الكرد، وأرتفعت الأصوات بضرورة مطالبة التحالف العربي/ الدولي الذي تشكلّ في منتصف شهر أغسطس/آب 2014 بالتدخل العسكري لضرب “داعش” ومنعه من احتلال كامل مساحة كوباني، سيما وأن المدينة تضم الآلاف من الأهالي الذين رفضوا مغادرة بيوتهم وفضلوا البقاء في جو الحرب على التحول للاجئين في مخيمات اللجوء التركية، وهؤلاء يتهددهم الموت والتصفية على أيدي الجهاديين في حال أن تمكنوا من احتلال كامل المدينة والوصول إليهم.
أما الموقف التركي فبدا لا مباليا منذ اليوم الأول لهجوم “داعش”، وبدت التصريحات التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2014، والتي قال فيها بأن “كوباني ستسقط لا محالة” وهاجم فيها وحدات حماية الشعب(YPG) ووصفها ب”الإرهاب” مقارنا بينها وبين تنظيم “داعش”، دليلا على تورط تركي حقيقي في دعم “داعش” سياسيا وعسكريا. فقد نقل عن شهود عيان كرد بأن السلطات التركية أشرفت في الأيام الأولى لهجوم “داعش” على المقاطعة، على نقل الأسلحة والذخائر من قطار جيء به إلى الجانب الآخر من الحدود مقابل مدينة كوباني. وحسب شهود العيان فإن القطار توقف بالقرب من قرية “سليب قران” ليلة 17 سبتمبر/أيلول 2014 وأنزل 10 دبابات وعربات ثقيلة إضافة إلى ذخائر، استلمها مقاتلو تنظيم “داعش”. وفي 20 سبتمبر/أيلول 2014 ، وحسب شهود عيان، وصلت أسلحة وذخائر جديدة إلى “داعش” وحدثت عملية التسليم والاستلام بين الجيش التركي ومقاتلي التنظيم بالقرب من قريتي “قرموغ” و”عين البط” الواقعتين على الحدود من الجهة الشرقية من مدينة كوباني. ويبقى الدعم الواضح، والذي تحدثت عنه الصحف ووكالات الأنباء العالمية، هو الهجوم الذي شنه “داعش” في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 بسيارات مفخخة وانتحاريين، من الجانب التركي من معبر (مرشد بنار)، حيث شن العشرات من مقاتلي التنظيم هجوما واسعا انطلق من منطقة صوامع الحبوب داخل الأراضي التركية. وقد تمكنت وحدات حماية الشعب(YPG) من إحباط الهجوم وقتل العديد من المهاجمين. وقد توغلت هذه الوحدات، ولأول مرة، داخل الأراضي التركية من أجل القضاء على نقاط هجوم “داعش” هناك، ورجعت مباشرة بعيد تنفيذ المهمة. على المستوى الدولي فقد امتلئت الصحافة الدولية المقروءة والمسموعة والمرئية بتقارير وآراء عن مقاومة كوباني وعن قصص تصدي النساء الكرديات لقاطعي الرؤوس، وكتبت عشرات التقارير في كبريات الصحف الدولية عن آرين ميركان وبيريفان وغيرهما ممن فقدن حياتهم دفاعا عن كوباني وفضلن الموت على أن يقعن أسرى في أيدي مقاتلي “داعش”.
وبدا التعاطف الدولي كبيرا مع مدينة تصمد وهي تضحي بخيرة أبنائها في وجه تنظيم متوحش يقصف بشكل عشوائي ويقتل المدنيين والأطفال ويسبي النساء. وصار اسم كوباني على كل لسان، بوصفها المدينة التي تقاوم برابرة العصر، وأهلها يضحون بكل شيء ويتمسكون بالحجارة وبأطلال مدينتهم في وجه هذه القوة المحتلة المتوحشة. وعمّت المظاهرات كل العالم لتحية هذه المقاومة، وتوجه مئات الشباب الكردي، وشباب من جنسيات أخرى، للتطوع في القتال دفاعا عن كوباني وأهلها. وعلى طول 4 أشهر فشل تنظيم “داعش” في احتلال كل المدينة، وبدت القوات الكردية المدافعة عن كوباني تمسك بزمام المبادرة من جديد مع تكثيف طائرات التحالف العربي/الدولي لقصفها على مواقع “داعش” وخطوط إمداداته القادمة من تل أبيض والرقة، كذلك كان لقدوم كتيبة من قوات البيشمركة من جنوب كردستان (إقليم كردستان العراق) الأثر الإيجابي في عملية الدعم والإسناد بالأسلحة الثقيلة، وبالتالي في ترجيح كفة المقاومة الكردية.
وظهر بأن موازين القوة تتغير شيئا فشيئا لصالح القوات الكردية، حيث تقدمت هذه القوات وسيطرت في 12 نوفمبر/تشرين الأول 2014 على طريق الرقة ـ تل أبيض، وقطعت خطوط إمدادات تنظيم “داعش” بالقرب من قرية “حلنج”. وتقدمت وحدات حماية الشعب(YPG) في الجبهتين الشرقية والجنوبية، حيث تم تحرير العديد من النقاط والمراكز من أيدي مقاتلي “داعش”، وبدا التنظيم يتقهقر إلى الوراء مخلفا مئات القتلى.
ومنذ بداية شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2014 وحتى يوم إعلان تحرير مدينة كوباني بالكامل في 27 يناير/كانون الثاني 2014 والانطلاق إلى تحرير كامل مساحة ريف المقاطعة، أي أكثر من 350 قرية، فإن تنظيم “داعش” قد اعترف صراحة بهزيمته في كوباني، مرجعا ذلك إلى أن “المدينة أصبحت أطلالا، ولا يمكن العيش فيها” لذلك قرر التنظيم مغادرتها!، مع العلم بأن “داعش” قد تكبد خسائرا كبيرة قدٌرت بأكثر من 3000 مقاتل، بينهم عدد كبير من الأمراء والقادة الميدانيين من ذوي الخبرة، من اجل السيطرة على كوباني التي أسماها “عين الإسلام”. وفي الحين الذي يتم حاليا دحر التنظيم من مقاطعة كوباني، فإنه يتعرض في مناطق أخرى من العراق وسوريا إلى هزائم عسكرية، وخلخلة واضحة في صفوفه من حيث هروب عناصره وقياداته وسرقة بعضهم للأموال التي ائتمنوا عليها. ولعل تنفيذ التنظيم لجريمة حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة تأتي لرفع معنويات مقاتليه، وفي محاولة لكسب المزيد من الأنصار والمتطوعين الجدد المؤمنين بالعنف المفرط والوحشية كسبيل لتطبيق حلمهم في “الخلافة الإسلامية”. وحسب بيان للقوات الكردية المشتركة فإن حصيلة مقاومة كوباني والتي دامت 4 أشهر كانت مقتل 3710 مقاتل من “داعش”، وتفجير 87 عربة مدرعة و 16 دبابة و5 عربة همفر، كما شن تنظيم “داعش” 37 هجوما انتحاريا بسيارات مفخخة، و19 عملية انتحارية فردية. ومن جانب وحدات حماية الشعب(YPG): فقد استشهد 408 مقاتلا ومقاتلة. ومن قوات البيشمركة: مقاتل واحد. ومن كتائب “الجيش السوري الحر”: 14 مقاتلا. ومن حزب اليسار الكردي: مقاتلين.
لقد غيّرت مقاومة كوباني الكثير من التوازنات في المنطقة، وبرهنّت بان تنظيم “داعش” الذي سيطر على مدن كبيرة مثل الموصل والرقة في أيام وأسابيع، وهزم فرقا عسكرية تٌقدر عناصر بالآلاف في كل من العرق وسوريا، وتوسع في منطقة تٌقدر بمساحة بريطانيا، قابل للهزيمة والتقهقر، وأن وحدات حماية الشعب(YPG) ومعها القوى العسكرية المتحالفة، قد ألحقت بها الهزيمة بإمكانات بسيطة وبتسليح خفيف، ورغم حالة الحصار التركي، والدعم الواضح العسكري والسياسي، الذي قدمته الحكومة التركية لتنظيم “داعش”. مقاومة كوباني ألحقت الهزيمة ب”دولة” التنظيم التي وصفت بأنها “باقية وتتمدد”، فقد خسر التنظيم في كوباني، وقٌتل أشد مقاتليه الذين كان يحوزون خبرات عسكرية كبيرة، نتيجة مشاركتهم في المعارك بدا من أفغانستان ووصولا إلى البوسنة واليمن والعراق، وحتى كوباني، وأضطر إلى التراجع والاعتراف بذلك علانية.
ويمكن استخراج الدروس التالية من المقاومة والانتصار الذي حدث في كوباني:
أولا: تنظيم “داعش” يمكن التصدي له والقضاء عليه عبر القتال العقائدي المؤمن بقضية عادلة وبحق واضح، رغم شحة الإمكانات وتفاوت التسليح. وإن أهل كل منطقة ومحافظة سورية قادرون على تنظيم صفوفهم وتشكيل قوى وطنية للدفاع عن مناطقهم في وجه إرهاب “داعش” والكتائب المتطرفة المسلحة الأخرى. وقد تبدى ذلك في مقاومة وحدات حماية الشعب(YPG) ووحدات حماية المرأة(YPJ)، ومعهم الكتائب العسكرية المتحالفة وبدعم والتفاف جماهيري واضح، للتنظيم وإلحاق ضربات موجعة به.
ثانيا: إن قوى الشعب الكردي لو توحدت وبنت خطابا موحدا وشاركت في القتال في خندق واحد، لهي قادرة على صد اعتى أعداء الكرد وردهم على أعقابهم. ومن هنا كانت لمشاركة قوات البيشمركة الأثر الجيد في رص الصفوف الكردية وإشاعة حالة من الارتياح والتفاؤل في كل كردستان، ورفع معنويات الجميع، حيث أن معركة كوباني أصبحت معركة كل الأمة الكردية في وجه الإرهاب والقتل، ولم تكن معركة قوة عسكرية أو سياسية بعينها.
ثالثا: إن القوى الثورية السورية الحقيقية من التي تدافع عن الشعب ضد أي اعتداء وترفض الانخراط في المحاور الإقليمية الطائفية، وترفض الأجندات الخارجية والمال السياسي، يمكن التحالف معها. وقد ظهر ذلك واضحا في كوباني التحالف الذي تم مع بعض قوى من الجيش السوري الحر، فكانت معركة كوباني، معركة وطنية سورية إلى جانب طابعها القومي الكردي والعربي الدولي.
رابعا: إن التحالف الدولي ضد الإرهاب، بالاعتماد على قوى وطنية، ديمقراطية، علمانية، ترفض الخطاب الطائفي العنصري، وتحمي كل المكونات، قادر على إلحاق الهزيمة بالإرهاب الدولي الذي يمثله “داعش” هنا. وإن نموذج وحدات حماية الشعب(YPG) ووحدات حماية المرأة(YPJ) قادر على التعميم في كل المناطق التي وقعت تحت سيطرة “داعش” في سوريا والعراق، على أن تكون منضبطة وذات وعي وعمق إيديولوجي ثوري وإنساني، وغير مرتبطة بالمال السياسي والأجندات الإقليمية الرافضة للتغيير الديمقراطي والعيش المشترك.
خامسا: تصّدر المرأة الكردية المشهد بقيادتها لجانب مؤثر من المقاومة، وبروز نساء كرديات أصبحن رموزا للثورة والتحرر في كل العالم مثل آرين ميركان وبيريفان. وقد عرف كل العالم بأن المرأة الكردية تدافع عن شعبها وتحمل السلاح وتقاوم، وأن هذا يحدث في الشرق الأوسط الذي يضطهد المرأة، ويحدث في زمن تباع فيه المرأة كجارية، وتٌرجم وتٌقتل، وتُصادر أرادتها ويتم فرض السوّاد عليها ونفيها من الحياة. المرأة الكردية تقود وتبني وتقاتل وتخطط، وقد ظهر ذلك جليا في مقاومة كوباني وفي التقارير والمشاهد والصور التي نقلتها كبريات الصحف ووكالات الأنباء العالمية عن المرأة الكردية ودورها في البناء والتحرير.
سادسا: اعتراف العالم بمقاومة كوباني، ومطالبة رؤساء دول وحكومات وقادة أحزاب سياسية وشخصيات ثقافية وفكرية وعاملة بضرورة دعم مقاومة كوباني وتسليحها في وجه “داعش”، وبروز نموذج وحدات حماية الشعب(YPG) كقوة وطنية، ديمقراطية، علمانية يمكن المراهنة عليها ودعمها في المقاومة وبناء واقع أفضل. وفتح القنوات الدبلوماسية والسياسية أمام حكومات المقاطعات الثلاثة في روج آفا، وتسليط المزيد من الضوء على التجربة الفتية، والتعرف على العيش المشترك بين المكونات ورفض الجميع للإرهاب والتدخل الخارجي.
سابعا: ساهمت المقاومة والانتصار في رفع معنويات أبناء الأمة الكردية في كل مكان. ففي إقليم كردستان العراق ارتفعت معنويات قوات البيشمركة، أكثر مما هي عليه، ضد “داعش” الذي أثبتت مقاومة كوباني بأنه قابل للهزيمة والاندحار. وفي شمال كردستان (جنوب شرق تركيا) عمت الاحتفالات في كل مكان، وثبت بأن الكرد قادرون على تشكيل إدارة ذاتية وبناء قوات مسلحة تدافع عنها وعنهم في أصعب الظروف وأمام أعتى القوى التي أرعبت العالم. وعليه فيمكن القول بأن أسهم الحركة التحررية الكردستانية في تركيا قد ارتفعت كثيرا بعيد الانتصار، وهذا سينعكس حتما في الميدان السياسي وفي الانتخابات البرلمانية المقبلة.
ثامنا: دحضت مقاومة وانتصار كوباني مزاعم النظام السوري في غرق البلاد بالعنف والفوضى إذما تم النيل منه أو إقصاؤه، وأن “داعش” هو البديل في حالة الإطاحة به. فالمقاطعات ومقاومة وحدات حماية الشعب(YPG) أظهرا للعالم بأنهما البديل العملي والديمقراطي والفعلي للنظام السوري ولتنظيم “داعش” على السواء، وإن الشعب السوري قادر على إدارة نفسه ضمن نظام لا مركزي تشاركي، والتصدي للمخاطر والإرهاب، ومنع التدخل الخارجي في شؤونه.