صورة الكردي عربيا!

نواف خليل

هذا العنوان مستوحى من كتاب للكاتب والباحث الكردي المعروف إبراهيم محمود الموسوم (صورة الأكراد عربيا بعد حرب الخليج)، لكنني هنا لست بصدد عرض الكتاب الذي يستحق إعادة قراءته والتذكير به مجددا في هذه الظروف، إنما أعني البحث في تناول الصورة الكردية عربيا مجددا، بعد أكثر من عقدين على حرب الخليحجوصدور الكتاب المشار إليه.

 يحضرني في هذا الصدد ما قرأته من مقالات وأنا يافع في مجلة (المستقبل) اللبنانية والتي كتبها رئيس التحرير رياض نجيب الريس، تحت عنوان “قضايا خاسرة”، منها ما كتبه “الريس” عن القضية الكردية، وكذلك ما كتبه طلال سلمان عن الراحل الكبير جلال الطالباني تحت عنوان “الكردي التائه”.

هذه المقالة التي لا يمكن أن تحيط، أو حتى أي بحث طويل، بكل ما كتب ويكتب عن الكردي في الذاكرة الجماعية العربية، أو للدقة ذاكرة الكتاب والمثقفين والإعلاميين العرب. تجدد البحث في القضية الكردية مرات عديدة منذ اختطاف تركيا للقائد الكردي عبدالله أوجلان منذ عشرين عاما، وصولا إلى بدء الثورة السورية التي اختار فيها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي خطا مختلفا في سياسته وتحركه، جاء بعد تناول وتحليل وتفكيك عميق لعموم المشهد المعقد، بل شديد التعقيد، شرق أوسطيا وسوريا.

أثناء الأزمة السورية، ظهرت القناعات المستترة والنظرة إلاقصائية الوصائية الاستعلائية لدى فئات واسعة داخل صفوف “المعارضة”، منهم قسم كبير كانوا حتى الامس القريب جزء من آلة النظام السياسية والحزبية والدعائية. أنكر هؤلاء على الكرد أن يكون لهم موقف مستقل فيما يحصل، أو أن يكونوا موجودين على ساحة الأحداث، يقودون ويتفاعلون مع التطورات في مناطقهم، ويقررون الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم ومواجهة الإرهاب والفوضى بسواعدهم، تلك الآفات التي بدأت بالظهور مع نشاط عشرات المجموعات المسلحة، التي تنافت توجهاتها وأفعالها مع دعوات الحرية والديمقراطية التي أطلقها الشارع السوري.

لم يتفهم المثقف والإعلامي والسياسي السوري المعارض قرار الكرد في إدارة مناطقهم والنأي بأنفسهم عن الخطاب المذهبي الطائفي، والتدخلات الاقليمية، بل بدأوا في بث التخوين وتهجموا على الكرد ووصفوهم بـ”الخونة” وبـ”مشاركة النظام في قمع الشعب السوري”. والحقيقة أن ثمة أسباب كامنة وراء حالة العداء والإقصاء هذه تجاه الكرد، ونستطيع أن نوجزها هنا في عدة نقاط:

أولا: تفاجأ الكثيرين من المثقفين والإعلاميين والساسة السوريين المعارضين ببروز الدور الكردي على الساحة السورية، فهم تعودوا لسنوات طويلة، أن يكون الكرد مقموعين لا صوت لهم، وغير موجودين سياسيا وإعلاميا، وغير معترف بهم، فتماهوا من هذا المنطلق مع خطاب الحكومات السورية المختلفة منذ الإستقلال في نفي الكرد ورفض الإعتراف بوجودهم وتقبل خصوصيتهم وحقوقهم. وفي داخلهم بقوا على موقف النظام (والكثير منهم كانوا جزء من آلة النظام ومن صانعي سياسته ضد الكرد) رغم شعارات الحرية والديمقراطية والمشاركة السياسية التي أطلقوها. والثورة عندهم تتلخص في التخلص من النظام الموجود في دمشق، واستلام السلطة، دون تغيبر بنيوي، مع إبقاء كل السياسات والقوانين وجوهر الدولة على ما هي عليه. ومن هنا تساءل الكثير منهم مستنكرين: من أين ظهر الكرد وهم لم يكونوا موجودين في أدبيات الدولة/ النظام وحزب “البعث”؟ لا بد إذن أن تكون ثمة مؤامرة في هذا الظهور المفاجئ!

ثانيا: المنطق الوصائي الإقصائي في التحدث المركزي بأسم الكرد وغيرهم واعتبار هؤلاء مواطنين من الدرجة الثانية، لا يحق لهم تقرير مصير مناطقهم ورفض التسليح والخطاب المذهبي. هذا الكلام من حق فريق “الثورة” من الإعلاميين والساسة والمثقفي، أما الكرد وغيرهم فعليهم فقط أن يكونوا مواطنين عاديين يخرجون للشارع ويشاركون في الشحن الطائفي، مسيرين لا مخيرين. فلما رفض الكرد بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي التحول لبيادق بيد المعارضة المرتبطة بالمحاور الاقليمية، وتطييف الحراك، واستخدام السلاح وتخريب مؤسسات الدولة، بدأ هؤلاء باطلاق صفات التخوين. وكان هؤلاء أنفسهم من انتقدوا الكرد عام 2004 عندما ثاروا ضد النظام ببروز بعض مظاهر حرق “العلم الوطني” ومؤسسات الدولة، لأن هذه “جزء من الدولة وليست ملكا للنظام”. ولكنهم الآن يطالبون الكرد بإزالة العلم والهجوم على مقار الدولة ومؤسساتها وإضرام النيران فيها، لأنها  ملك للنظام! هنا تبرز الوصائية وعقلية التحكم الشمولية، وعدم الاعتراف بوجود وقرار الآخر.

ثالثا: تماهى موقف المعارضة مع الموقف التركي الشديد العداء للكرد. وبدأ التبرير لكل سياسات الدولة التركية تجاه الكرد في تركيا وسوريا، فصارت المعارضة السورية تبرر أعمال القتل والنهب التي ترتكبها المجموعات المسلحة التي تقوم بها الاستخبارات التركية ضد الكرد. وظل ذلك ثابتا إلى أن جاء احتلال عفرين من قبل الجيش التركي، بمباركة من “الائتلاف” السوري المعارض. ومنذ عام 2011 وحتى كتابة هذه السطور ونحن في نهاية2018، عانى الشعب الكردي في سوريا من جرائم الدولة التركية وأدواتها ضمن المعارضة السورية، أضعاف أضعاف ما عاناه من النظام السوري طيلة عقود من سياسات التهميش والإنكار والرفض. تركيا وأدواتها في المعارضة السورية المسلحة المأجورة، هدفوا إلى احتلال مناطق الكرد وتخريبها وتغيير بنيتها الديمغرافية وتشريد الشعب الكردي.

رابعا: ظهور الخطاب العنصري علاني، فالمعارض السوري عندما يطالب الكرد بالتحرك ضد النظام، يتحدث عن المشاركة على أساس وطني سوري، بوصف الكردي سوريا عليه ألا يترك أبناء وطنه في الداخل وحدهم، وعندما يتحدث عن مناطق الإدارة الذاتية، يطلق العبارات العنصرية في أن “الكرد سطوا على مناطق العرب!”، وهم يقومون “بتهجير العرب وإحلال العناصر الكردية محلهم”، وهذه العبارات تشكلت في غرف الاستخبارات التركية بهدف خلق مواجهات إثنية بين الكرد والعرب في مناطق الإدارة الذاتية، تلقفها الخطاب المعارض، الإعلامي والمثقف، الموالي لتركيا وصار يلوكه بكل حقد وسذاجة!

ومن يدخل مواقع التواصل الاجتماعي سيرى الخطاب العدائي الغارق في العنصرية تجاه الكرد، فمن استخدام مفردات التحقير والإهانة مثل “الشبيحة، اللصوص، الغجر، البويجية..”، وهي مفردات تنم عن عقلية فاشية ترى في نفسها الحق في نفي الآخر، وإزالته من الوجود عبر استخدام كل طرق القتل الجماعي والتهجير، وهو ما حصل في عفرين من قبل قوات الاحتلال التركي وأدواته من المجموعات الإرهابية المرتزقة التابعة للمعارضة السورية. فرجل مثل الاستاذ الجامعي السوري عبد الرزاق عيد (كان ضمن لجان تطوير البعث، عند استلام بشار الأسد السلطة!)، يطلق شتائمه المقذعة بحق الكرد،

ولأن التخريب والفوضى هو هدف شراذم المعارضة وأقلامها، وليس البناء وتغيير العقلية والحوار والعمل السياسي، فإن الخطاب انصب على التحريض والشحن ضد الكرد، وأيضا تحريض العرب والكرد والسريان ضد بعضهم البعض عندما يتعلق الأمر بالإدارة الديمقراطية الذاتية في مناطق شمال سوريا. ولم يعبء الخطاب المعارض بوجود مئات الآلاف من المهجرين السوريين في تلك المناطق، فالإنسان وسلامته وأمنه لم يكونوا من اهتمامات هذ الخطاب القائم على الفوضى والتخريب والحرق، فتوظيف كل شيء جائز من أجل احراز النصر في “معركة استلام السلطة” المصيرية تلك!

وكان الإعلامي والسياسي والمثقف السوري المعارض يراقب تطور التجربة في شمال سوريا بعين من الحسد والحقد والتحريض على القتل والحرق والفوضى، وكانت هذه التجربة تحقق الانتصارات العسكرية ذات البعد الدولي على “داعش” والجهاديين الإرهابيين، وتحرر مئات الآلاف من المواطنين السوريين من تحت حكم الإرهاب، إضافة إلى وضع لبنة أولى لسوريا جديدة، عبرمشاركة حقيقية بين جميع المكونات مع الاعتراف بحقوق الجميع وخصوصياتهم، إضافة إلى رفض الخطاب الطائفي والمذهبي والتبعية للمحاور الإقليمية، واحتضان مئات الآلاف من السوريين من أبناء الداخل الهاربين من الحرب والمواجهات بين آلة النظام العسكرية والمجموعات المسلحة المعارضة.

وظل هذا الموقف المعادي ماشيا، إلى أن جاء قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا. حيث ارتفعت الأصوات مجددا بالحديث عن الكرد وعن “خطأهم في التحالف مع أميركا”! وجاء التشفي والتفاؤل بأمكانية انهيار التجربة تحت وقع الزحف العسكري التركي، أو عودة “داعش”، أو اندلاع حرب كردية ـ عربية داخلية، فيتم الإجهاز على التجربة وتعم الفوضى ويٌهجر ملايين الناس، وتغدو منطقة الشمال السوري، كمناطق الداخل حيث الحرب والقتل والتهجير.

والحقيقة أنني ألاحظ هذا الكلام في كل المشاركات المرئية التي أشارك فيها، محاورا مع أطراف من المعارضة السورية المولية لتركيا، وأشخاص أتراك أو يحملون الجنسية التركية وكذلك عرب وكرد باتوا جزء من الالة الدعائية التركية. فالكل يأمل ويراهن الآن على الاحتلال التركي أو عودة “داعش” أو الحرب الأهلية بين الكرد والعرب، كسبل للقضاء على التجربة وتخريب مناطق روج آفا وشمال سوريا. وهذا الموقف هو الترجمة الحقيقية للتحريض والشحن والافتراء والكذب الذي كان دين الإعلام والثقافة والسياسة السورية المعارضة طيلة السنوات الثمانية الماضية من عمر الأزمة السورية.

أما فيما يخص أميركا وانسحابها، فكان القرار المفاجى في توقيته وسياقه وليس القرار نفسه من قبل ترامب، وأدى إلى ردود فعل مستنكرة داخل الإدارة الأميركية، فاستقال وزير الدفاع  جيمس ماتيس وماكغورك هو المبعوث الرئاسي الأمريكي الخاص للتحالف الدولي احتجاجا على قرار الانسحاب المفاجئ، بينما القوات المتحالفة تحرر آخر معاقل الإرهاب الداعشي. فقرار القدوم والانصراف قرار أميركي خالص يرتبط بمصالح واستراتيجيات أميركية، ولا علاقة له بتجربة فيدرالية شمال سوريا.

لقد كتب هنري كيسنجر في كتابه الأخير(النظام العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ): “قال السياسي البريطاني في القرن التاسع عشر اللورد بالمرستون: نحن لا نتوفر على حلفاء دائمين، كما لا نواجه أعداء أبديين. أما مصالحنا فهي دائمة وأبدية، وتلك المصالح هي التي يتعيّن علينا مراعاتها. ولدى مطالبته بتحديد هذه المصالح بقدر أكبر من الدقة بصيغة نوع من السياسة الخارجية الرسمية، اعترف فارس القوة البريطانية الشهير، كما يصفه كيسنجر قائلا: حين يسألني الناس عن معنى السياسة، فإن الجواب الوحيد هو إننا نحاول أن نقوم بما يبدو الأفضل في كل مناسبة طارئة، جاعلين مصالح بلدنا المبدأ الموجه لتحركنا”. هذا هو محرك السياسة في الغرب. وفيدرالية شمال سوريا تعرف هذه الحقائق التي بات حتى المواطن العادي يعيها. أما الحرب على الإرهاب فستستمر، والبناء الديمقراطي وتمتين العلاقات بين المكونات العربية والكردية والسريانية سيتواصل. والمقاومة ضد الاحتلال التركي للأراضي السورية هي حق مشروع، وهي واجب كل سوري، وكل القوى السورية مدعوة لتحرير أرض الوطن من الاحتلال التركي ومن احتلال “داعش” و”النصرة” والقوى الأجنبية الأخرى. والهدف يبقى توفير الأمن والأمان للإنسان السوري وضمان حقوقه وكرامته عبر التغيير السياسي والمعرفي الحقيقي، بعيدا عن الشحن الطائفي والقومجي والتحول لأدوات في سياسات المحاور الاقليمية. وهذا هو الحاصل في مناطق شمال سوريا، وسيستمر بسواعد ودماء عشرات الآلاف من العرب والكرد والسريان، رغم كل حملات التحريض والشحن والتشويه التي تقوم بها الأقلام والأبواق التي باعت أرضها وموقفها للآخر المحتل الطامع في ثروات الوطن السوري…

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد