جيانكارلو إيليا فالوري | أوراسيا ريفيو
منذ البداية، كانت تركيا تروج إلى أن الحرب في سوريا بالنسبة لتركيا مشكلة “داخلية”، وإن لم تكن كذلك. وبالنسبة للغرب، كانت هذه فرصة لإيذاء حليف روسي، لكنها محاولة فشلت، مما جعل سوريا أيضًا أحد مجالات التوسع الاستراتيجي لإيران الشيعية، أي أن تمهيد الأرض لتسليمها للعدو كان خطأ استراتيجي أساسيا.
بالمناسبة، يبدو أن الاستراتيجية العالمية فقدت الذاكرة بالنسبة للغرب، حيث بات الاقتصاد السياسي متشابه إلى حد ما أو نُسى تمامًا، ويواجه تقلبات السوق وخوارزميات البورصة. من ناحية، في بداية الأزمة السورية، أثار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الشعور القومي لدى ناخبيه الوطنيين، ومن ناحية أخرى، برّر زيادة الأسعار المحلية والتضخم من خلال الترويج للعملية التركية الواسعة في سوريا.
من الواضح أن الهدف الأساسي لتركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، وهو حزب مولود من رحم شبكة الإخوان المسلمين القديمة، كان الدخول إلى سوريا للقضاء على سلطة الرئيس السوري بشار الأسد البعثية، بهدف استبدالها بنظام موالٍ لتركيا بوضوح. ولتحقيق هذه الغاية، قبلت تركيا بوجود “إرهابيين” وقدمت الدعم العسكري التركي للجهاديين السوريين، وحتى قدمت دعما خفيا لما يسمى بـ”الخلافة”، بهدف وقف توسع الأكراد السوريين والعراقيين، لمنعهم من خلق اتصال، على المستوى الإقليمي، بأكراد الأناضول.
كان هذا هو هدف عملية “غصن الزيتون” التي أطلقتها القوات المسلحة التركية في أوائل عام 2018. في هذه الحالة، كانت مسألة منع الإدارة الكردية لـ”عفرين” ومنع وحدات حماية الشعب الكردية من إنشاء استمرارية استراتيجية وإقليمية خاصة بها في شمال سوريا، هي الهدف الرئيسي.
وقد نقلت القوات التركية العديد من الأتراك إلى المنطقة. لدى تركيا حالياً ثلاثة أهداف: الاتفاق مع روسيا من أجل مستقبل سوريا؛ الحفاظ على حياد إيران في سوريا وبقية المنطقة، والاستقرار الداخلي لنظام بشار الأسد. كما يرغب “أردوغان” في إقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، التي تعمل في سوريا بأفكار لا تزال غامضة للغاية.
لسوء الحظ، ينطبق هذا حاليًا على العديد من اللاعبين الاستراتيجيين في سوريا. بعد ثماني سنوات من الحرب، قدر البنك الدولي أن الأضرار المادية التي لحقت بالمنازل والبنية التحتية فقط لا تقل عن 197 مليار دولار أمريكي. وقد تم تدمير ربع المنازل السورية، لكن يقدر أن تكلفة العودة إلى الوضع الحالي تتراوح بين 300 و400 مليار دولار، والأكثر تشاؤمًا يقدرها بـ450 مليار دولار أمريكي.
ومع الأخذ في الاعتبار مقدار الأموال المطلوبة، فإن المؤيدين الخارجيين الوحيدين لنظام “الأسد”، وهما روسيا وإيران، ليسا في وضع يسمح لهما بالمساهمة في إعادة الإعمار السوري. علاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي غير مهتمين بتمويل عودة سوريا إلى الظروف الاقتصادية قبل الصراع، ما لم يكن هناك “تحول سياسي”، أي ما لم يترك بشار الأسد السلطة.
المشكلة هي أنه فاز بمساعدة روسيا وإيران، في حين خسر الغرب بتحالفه اللامتناهي. في الواقع، أصبحت العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية ضد سوريا أكثر صرامة في أوائل عام 2019، ويبلغ عدد سكانها 13 مليون نسمة، ويحتاجون بشكل عاجل إلى الدعم والمساعدات والأدوية والغذاء.
ومن هنا، كانت أكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، لكن كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، على وجه الخصوص، مهتمتان فقط بطرد الأسد “الطاغية”. تفرض العقوبات الأمريكية حاليًا حظراً على جميع الصادرات إلى سوريا أو على أي معاملات مالية تشمل كيانات سورية. 80٪ من أولئك الذين يحتاجون إلى رعاية طبية في المستشفى لا يمكن علاجهم، كما أن هناك نقص في الأطباء والأدوية والمستشفيات. تتعلق العقوبات أيضًا بالعقاقير والتقنيات الطبية، وكذلك جميع المكونات الكهربائية والإلكترونية والصناعية والنفطية، وحتى أبسط الأجهزة الكهربائية وقطع غيارها تتأثر بالعقوبات.
في ضوء التكوين السياسي الجديد للاتحاد الأوروبي، قد تتلقى سوريا بعض الدعم السياسي المجرّد، لكن بالتأكيد لن تحصل على مساعدة ملموسة. ويمكن أن تكون الصين حلا بالتأكيد من بين الحلول المطروحة. حتى الآن، لم تُظهر الصين اهتمامًا خاصًا بهذا الأمر، لكنها شاركت على أي حال في الاجتماع بين 70 دولة ومؤسسة دولية، الذي عُقد في أبريل/نيسان 2017 لإعادة إعمار سوريا.
ومع ذلك، لم تقدم الصين الدعم المباشر لـ”الأسد الطاغية”، الذي –بعيدا عن كونه ديكتاتورا- حارب وأنقذ شعبه والغرب من “سيف الجهاديين” الذي كان على وشك الانتشار إلى الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية انطلاقا من سوريا. وفي الوقت نفسه، بين عامي 2018 و2019، منحت الصين بالفعل 2 مليار دولار للاستثمار في الصناعة السورية. ولعام 2019 وما بعده، هناك 23 مليار إضافية منحتها الصين من خلال منتدى التعاون بين الصين والدول العربية. من الواضح أن الصين لا تريد أن تشارك في فوضى الشرق الأوسط، وببساطة ليس لديها مصلحة في ذلك، لكن سوريا تلعب دورًا مهمًا في مبادرة الحزام والطريق الصينية. ومن المخطط بالفعل أن تكون “طرابلس” في لبنان منطقة اقتصادية خاصة لمبادرة الحزام والطريق، مع الأخذ في الاعتبار أن ميناء طرابلس اللبناني سيكون أساس نقل مبادرة الحزام والطريق إلى منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
ومن أجل إعادة تنشيط هذا الميناء، تخطط الصين لبناء خط سكة حديد طرابلس-حمص، بينما في أكتوبر/تشرين الأول 2018 تبرعت الصين بالفعل بما يصل إلى 800 مولد كهربائي لمدينة اللاذقية، وهي ميناء سوري آخر أساسي. في عام 2017، استضافت الصين “المعرض التجاري الأول لمشاريع إعادة الإعمار السورية”. الصين مهتمة بالشركات السورية المحلية التي تتعامل مع الصلب والطاقة. علاوة على ذلك، فإن شركة البترول الوطنية الصينية حاضرة بالفعل في هيكل المساهمة لاثنين من أكبر شركات النفط السورية، وهما شركة البترول السورية وشركة الفرات للبترول. ويوجد أيضًا مشروع صيني للدعم التكنولوجي والتدريب للقوات المسلحة السورية.
علاوة على ذلك، هناك قطاع السيارات الصيني، الذي تعد سوقا تشترك فيه الصين مع إيران. من خلال التبادل الذكي بين الأراضي الصالحة للزراعة والتكنولوجيا، زودت إيران سوريا بالفعل بشبكة هاتفها المحمول، فضلاً عن إدارة بعض مناجم الفوسفات. وتتم جميع العمليات الاقتصادية الإيرانية من قبل قادة الحرس الثوري، وربما سيدعو الجيش الإيراني الشركات الصينية في الوقت المناسب للمشاركة.
قد يكون أحد خيارات “الأسد” هو دعم الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، رغم عدم نضجهما سياسيا، ولكن بالتأكيد ليس مستحيلا.
الهدف الرئيسي لـ”الرياض وأبوظبي”، وهما قوتي شبه الجزيرة العربية، في المقام الأول، هو الحد من قوة تركيا وقطر وهما المؤيدان الرئيسيان للمعارضة (والجهاديين) ضد بشار الأسد، بينما يعتبران سيطرة إيران على سوريا ذات صلة بالكاد من وجهة نظر اقتصادية، على الأقل في الوقت الراهن. في أواخر عام 2018، أعيد فتح سفارتي البحرين والإمارات في سوريا.
علاوة على ذلك، فإن سوريا تفتقد إلى الأيدي العاملة في جميع أنحائها، حيث إن الكثيرون هاجروا إلى لبنان أو الأردن أو أوروبا، كما أن نقص رأس المال سيؤدي إلى نقص القوى العاملة. ومن وجهة النظر هذه، قام نظام بشار الأسد بتطوير نموذج للشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهو المعيار القانوني الوحيد لإعادة الإعمار.
ينص المرسوم رقم 19، الصادر عن “الأسد” في مايو/آيار 2015، على أنه يمكن للوحدات الإدارية المختلفة، بما في ذلك المحافظات والبلديات، أن تنشئ شركات استثمار مستقلة. في يناير 2016، سنت حكومة “الأسد” قانون الشراكات بين القطاعين العام والخاص، والذي يسمح للشركات الخاصة بإدارة وتطوير جميع الأصول العامة التي تمتلكها أو تسيطر عليها.
من الواضح أن اللجوء إلى الأفراد لا يكفي، حيث إن أنظمة التعاون تلك تعتمد على القروض المصرفية، ومع ذلك، من المؤكد أن البنوك ليس لديها كل رأس المال المتاح لإعادة الإعمار تحت تصرفها. ووفقًا لآخر الحسابات، لدى جميع البنوك السورية احتياطي قدره 1.7 تريليون ليرة سورية، أي ما يعادل 3.5 مليار دولار أمريكي. وبالتالي، فإن الدور الرئيسي سيجري حتما من قبل المانحين، ولا سيما الأجانب.
من الواضح أن روسيا والصين وإيران هم اللاعبين الرئيسيين، لكن هناك أيضًا كوريا الشمالية والبرازيل والهند، وربما نرى قريبا أنهم يشاركون في هذا العمل.
ماذا عن إيران على وجه الخصوص؟ وقعت إيران مؤخراً مذكرة تفاهم لبناء ما يصل إلى 200000 منزل للاستخدام المدني في دمشق. وبالنظر إلى سياسات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، سيتم إجراء العديد من المعاملات خارج نظام التحويلات المالية المتعارف عليه “سويفت”. يحتوي النظام المذكور أعلاه على معالجين، أحدهما في هولندا والآخر في الولايات المتحدة الأمريكية، يعملان بشكل مستقل. وهذا يعني أنه في كثير من الأحيان لن تتم المعاملات بالدولار الأمريكي.
تريد إيران أيضًا بناء محطة كهرباء في اللاذقية، بينما لا يزال نظام آية الله يدعم بشار الأسد بمبلغ يصل إلى 6 مليارات دولار أمريكي سنويًا. وإذا تم النظر في الدعم الاقتصادي والعسكري معا، فإن بعض المحللين يؤكدون أن تحويلات إيران إلى سوريا تتراوح بين 15 إلى 20 مليار دولار كل عام.
علاوة على ذلك، إذا كانت هناك روابط موثوقة بين استثمارات إيران والمواقف السياسية السورية، فستستمر الأموال الإيرانية في التدفق.
من جانبه، قام الاتحاد الروسي أيضًا بنشاط قوي في مجال الضغط من أجل إعادة الإعمار السوري، بتدخل مباشر من رئيس الأركان جيراسيموف تجاه الولايات المتحدة. وكان الرد فوريًا تقريبًا: “الانتقال” السياسي، أي مغادرة الأسد السريعة للمشهد، هو شرط أساسي للتمويل.
بالنسبة للسعودية، فإنها لم تكن أبدًا صديقة للنظام العلوي والمؤيد لإيران في سورياز وبالتأكيد، حتى الآن لا ترغب المملكة العربية السعودية في تحمل تكاليف إعادة إعمار سوريا. ومن الواضح أن النظام السعودي قد يرى الاستثمارات في سوريا بمثابة ترياق للوجود الإيراني، رغم أنه لم يتم اتخاذ قرار بعد. ومع ذلك، فإن القوى داخل الدائرة الداخلية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان لا تعارض كليا أي عملية مالية جادة وثقيلة في سوريا لطرد إيران نهائياً.
الواقع حاليا يقول إن الخيار المالي الأرجح لسوريا هو الصين. ومع ذلك، لن تتخذ الصين أي إجراء حتى تخرج القوات الأمريكية بشكل دائم من المنطقة السورية إلى الشرق الأقصى.
—-
*جيانكارلو إيليا فالوري: خبير اقتصادي ورجل أعمال إيطالي بارز. يلقي محاضرات حول الشؤون الدولية والاقتصاد في الجامعات الرائدة في العالم مثل جامعة بكين والجامعة العبرية في القدس وجامعة يشيفا في نيويورك. يرأس حاليًا المجموعة الدولية العالمية، وهو الرئيس الفخري لشركة “هواوي إيطاليا”، والمستشار الاقتصادي لمجموعة HNA الصينية العملاقة.