ماثيو بيتي | مجلة ناشيونال إنترست
يبدو أن تركيا تسعى لإثارة حرب أهلية سياسية داخل “واشنطن” العاصمة، في ظل محاولات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لزعزعة ميزان القوى الإقليمية، وعدم معرفة المسؤولون الأمريكيين كيفية التعامل مع حلفائهم في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بعد أن باتت استراتيجيات الليبراليون والمحافظون والصقور والحمائم، لا تنطبق نهائيا على المعركة هذه المرة.
من ناحية، يعتقد ائتلاف غير متوقع من المسيحيين الإنجيليين ونشطاء حقوق الإنسان اليساريين وقدامى محاربي الحرب على الإرهاب، أن تركيا إثارة للمشاكل مما تستحق. وعلى الجانب الآخر، يحذر العاملون في مجال الاستخبارات ووزارة الخارجية من الطلاق الفوضوي بين الولايات المتحدة وتركيا. وفي المقابل، وعلى الرغم من الميزانية الضعيفة، تمكن خصوم تركيا من الأكراد من تقديم أنفسهم كبديل أفضل لثاني أكبر جيش في الناتو.
تتصاعد التوترات حاليا، حيث تهدد تركيا بشن هجوم واسع على القوات التي تدعمها الولايات المتحدة في سوريا. أنفقت الحكومة التركية ما يقرب من 6.6 مليون دولار على السياسة الأمريكية في عام 2018 من أجل حشد الدعم لسياساتها، دون حساب تكلفة تشغيل سفارتها في “واشنطن”، وفقا للبيانات التي نشرها مركز السياسة المسؤولة، بينما تُظهر ملفات تسجيل وكلاء الأجانب (FARA)، أن المكتب الدبلوماسي لمجلس سوريا الديمقراطية في “واشنطن”، كان يعمل بميزانية سنوية تقل عن 120 ألف دولار، بما في ذلك تكلفة إدارة المكتب.
وقال هسيار أوزوي، عضو البرلمان التركي الذي ألقى كلمة أمام “الكونغرس” الشهر الماضي: “شعوري العام في العاصمة، هو أن الناس لا يعرفون حقًا ماذا يفعلون بشأن تركيا”. النقاش الدائر حاليا حول تركيا هو لمحة عما ستبدو عليه السياسة الخارجية للولايات المتحدة في عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، ونظرًا إلى أن الولايات المتحدة مجبرة على حسم الأولوية بين الأصدقاء والمصالح والقيم، فإن الفصائل المختلفة في “واشنطن” لديها أفكارها الخاصة عن دور أمريكا.
“لدى الكثير من كبار القادة على المستوى المهني في وزارة الخارجية ذاكرة مؤسسية طويلة من التعامل مع تركيا كحليف واضح في إطار حلف الناتو، وكدولة تخدم أهدافًا جيوسياسية أوسع للولايات المتحدة، خاصةً تجاه السوفيت”، هكذا يقول الباحث في مركز الأمن الأمريكي الجديد نيكولاس هيراس، مضيفا: “الجيل الصاعد من القادة في البنتاغون -هؤلاء الضباط الذين خدموا في العراق وأفغانستان- لديهم تجارب مختلطة مع الأتراك”.
بشكل عام، أبدى المسؤولون والباحثون والناشطون بهدوء تذمرا حيال الانقسام، لكن خلال الشهر الماضي، تزامنت سلسلة من الاجتماعات رفيعة المستوى بين القادة الأكراد وصناع القرار الأمريكيين مع المناقشات العامة التي أجرتها مجموعة من المسؤولين السابقين بوزارة الخارجية والبنتاغون والبيت الأبيض. وقد ألقى الجمهور أخيرا نظرة نادرة على المناقشات الداخلية لما يسمى بـ”الومضة” في السياسة الخارجية.
خلال الحرب الباردة، كانت تركيا هي رأس الحربة الأمريكية الموجهة نحو الاتحاد السوفيتي. أما الآن، وقد انتهى التهديد الشيوعي، ليس لدى تركيا الكثير من الأسباب لعدم العمل مع روسيا، باستثناء الاعتراضات الأمريكية. وبموجب قانون مواجهة خصوم أمريكا من خلال العقوبات (CAATSA) لعام 2018، من المفترض أن يعاقب الرئيس أي دولة تشتري معدات عسكرية من روسيا، وهو ما فعلته تركيا بالفعل في وقت سابق من هذا العام عندما اشترت صواريخ من طراز S-400 المضادة للطائرات من روسيا.
يقول السفير المتقاعد إريك إيدلمان، في حلقة نقاشية بجامعة “جونز هوبكنز” في 19 سبتمبر/أيلول: “لم يعد هناك أي تعاطف في الكونغرس مع تركيا”، وبحسب ما يقول، فإنه في حين كان هناك تجمعا مؤيدا لتركيا من أربعين شخصًا في الكونغرس، فإن واقعة شراء S-400 لم تترك أمام أحد خيار سوى “درجات من العقوبات التي يجب فرضها على تركيا”.
في سياق الرد، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن طرد تركيا من برنامج F-35 للطائرات المقاتلة، لكنه قام بتأخير فرض عقوبات CAATSA عن عمد، وعلى الرغم من أن “الكونغرس” قد أعرب عن استيائه من عدم وجود عقوبات، فإن المجموعة المكونة من الحزبين من المشرعين المحبطين، لم تتمكن من إجبار “ترامب” على التحرك.
يقول آلان ماكوفسكي الباحث البارز في مركز التقدم الأمريكي، إن “هناك بعض الثغرات في قانون مواجهة خصوم أمريكا [كاتسا]”، مضيفا: “لا أتوقع حقًا أن يواصل الرئيس ترامب العقوبات.. كما أن الكونغرس يكره المخاطرة”.
يعتقد “إيدلمان” أن “أردوغان” كان مصمماً على شراء صواريخ S-400، لأنه يمكنه إسقاط أنواع الطائرات المقاتلة أمريكية الصنع التي استخدمت في محاولة الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2016، من خلالها: “نحن نميل إلى التفكير، منذ عام 2016، أن وقوع محاولة انقلاب أخرى أمر غير وارد”. وحذر “إيدلمان” من أن “هذا لن يحدث مرة أخرى حتى لو غادر أردوغان المشهد، لأن أنصار الزعيم ضخوا للتو مزيجًا سامًا من معاداة أمريكا ومعاداة السامية والقومية في السياسة الداخلية التركية”.
في الوقت نفسه، يقول تريتا بارسي، نائب الرئيس التنفيذي لمعهد “كوينسي”: “الكثير من هذا بالطبع يتعلق بأردوغان وأشياء أخرى، ولكن هناك أيضًا حقيقة أخرى.. لم تعد تركيا في مزاج كونها حليفًا قويًا للولايات المتحدة ويتعين عليها دائمًا أن تعمل على تكييف مصالحها ومطالبها وتفضيلاتها وفقًا لما تقرره الولايات المتحدة. باختصار، الولايات المتحدة لم تعد قادرة على أن تهيمن على المنطقة”.
خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 24 سبتمبر/أيلول، قال “أردوغان”: “العالم أكبر من خمسة”، حيث كان يشير إلى الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن: بريطانيا وفرنسا وروسيا والصين وأمريكا، وربما كان يقصد بذلك أنه يريد أن تدخل دولة سادسة ضمن المجموعة.
كذلك، لدى “أردوغان” سببا قصير المدى للانحراف عن الرؤية الأمريكية، وهو أن روسيا ترسخ نفسها الآن بقوة في سوريا. ويقول “إيدلمان”: “الاعتقاد بأننا ننسحب وأن روسيا موجودة وباقية ليس اعتقاد أو ظن أردوغان فقط، فقد ذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو أكثر مما ذهب إلى (واشنطن) في السنوات الأربع الماضية”.
في الوقت الحالي، يعتمد الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط على قاعدة “إنجرليك” الجوية التركية، وهي مطار عسكري في جنوب شرق تركيا. ويقول “ماكوفسكي”: “إذا سألت معظم الناس في البنتاغون، سيقول معظم الناس إن إنجرليك لا تزال ذات قيمة كبيرة للولايات المتحدة من الناحية الاستراتيجية”.
في العقود الأخيرة، أظهرت تركيا قوتها داخل القاعدة وحولها. وقال “ماكوفسكي”، الذي كان يعمل ضابط اتصال بوزارة الخارجية في “إنجرليك” في التسعينيات: “يتم تذكيرنا دوما وباستمرار أن تلك القاعدة ليست قاعدة أمريكية”. وخلال محاولة الانقلاب عام 2016، حاصرت القوات الموالية القاعدة من أجل اعتقال على بعض المتآمرين المشاركين في الانقلاب في الداخل.
تستضيف القاعدة أيضًا خمسين سلاحًا نوويًا تكتيكيًا، وقد صرح جو سيرينسيوني خبير حظر الانتشار النووي، بأن القنابل الهيدروجينية موجودة لتعزيز “ضمانات الردع الموسعة” لمعاهدة شمال الأطلسي. وقال: “في كل مرة يطلب شخص مثلي إخراجهم، يزعم أن حلفائنا سيشعرون أننا تراجعنا عن التزاماتنا الدفاعية”.
وبموجب معاهدة الحرب الباردة، فإن الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين ملزمون بالدفاع عن بعضهم البعض في أوقات الحرب، لكن هذا لم يمنع حلفاء “الناتو” من الصدام مع بعضهم البعض، فقد خاضت تركيا الحرب مع اليونان، العضو الآخر في “الناتو”، على جزيرة قبرص في عام 1974.
ومع ذلك، فإن بعض المعارك التركية مع حلفاء الولايات المتحدة فريدة من نوعها بالنسبة لـ”أردوغان”، فقد وقف الزعيم الشعبوي مع قطر على حساب المملكة العربية السعودية في الخلاف الخليجي، وقد جعل نفسه أيضًا نصيرًا للفلسطينيين ضد إسرائيل، وخرج في نزاع علني مع “نتنياهو”، وهو ما يعد انحرافا عنيفا عن الثمانينيات حين كان “نتنياهو” دبلوماسيًا شابًا في “واشنطن”، يحاول دعم التحالف التركي الإسرائيلي ضد القومية الفلسطينية والأرمنية.
لكن مع ذلك، هناك جيلًا جديدًا من المقاتلين الأمريكيين دق أكبر إسفين بين تركيا والولايات المتحدة، حيث يقول مؤسس شبكة المعلومات الكردية الأمريكية كاني شولام، إنه “في التسعينيات، كانت الولايات المتحدة تتبع بشكل أساسي رؤية تركيا، فقد كانت تركيا تطلب ما تريد وكانت العلاقات دافئة للغاية وودية للغاية. لم يكن لـ(البنتاغون) علاقة مع الأكراد، إذا جاز التعبير. الآن يذهب الجنرالات الأمريكيون إلى سوريا، على سبيل المثال، ويجتمعون مع القادة الأكراد ويجلسون ويخططون لكيفية الإبقاء على هزيمة داعش “.
خلال الحرب الباردة، كانت المعركة من أجل استقلال الأكراد قضية يسارية في الغالب، فقد كانت مجموعات حرب العصابات الرائدة، مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (PDKI) وحزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا، إما مؤيدة للسوفييت أو كانت شيوعية صريحة. وكان العديد من خصوم القومية الكردية -بما في ذلك شاه إيران وصدام حسين في العراق- حصنًا ضد الشيوعية في الشرق الأوسط. لكن في عامي 1991 و2003، ساعدت أكبر الأحزاب الكردية في العراق القوات الأمريكية في قتال صدام حسين، الذي حاول الإبادة الجماعية ضد الأكراد. ومنذ عام 2003، شنت تركيا حملتها الموازية في شمال العراق بهدف ملاحقة حزب العمال الكردستاني، وفي وقت لاحق، دعم خصوم الحزب من الأكراد نفسهم.
ويقول “هيراس”: “لقد خدم بعض الضباط الأميركيين إلى جانب الأتراك في أفغانستان، لكن آخرين يتذكرون كيف كان الأتراك خلال معظم حرب العراق، نوعًا من العوامل المعقدة”، مضيفا: “بالنسبة لأولئك الذين خدموا في حملة مكافحة داعش ، كان الأتراك عدائيين للغاية”.
على مدار الحرب الأهلية السورية، كان التحالف بين المقاتلين الأكراد والآشوريين والعرب المُسمى بـ”قوات سوريا الديمقراطية”، هو الشريك الأكثر موثوقية للتحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد “داعش”، بينما تعتبر تركيا أن وحدات حماية الشعب، المكون الكردي الرئيسي لقوات سوريا الديمقراطية، امتدادًا لحزب العمال الكردستاني. وقد سبق أن تم تصنيف حزب العمال الكردستاني رسميا كمنظمة إرهابية من قبل الحكومة الأمريكية.
الجنرال جون ألين، المبعوث السابق للرئيس باراك أوباما إلى التحالف الدولي المناهض لـ”داعش” رئيس معهد “بروكينغز”، قدم توصيفا لكل المشاكل التي واجهها مع تركيا في حلقة نقاش في 10 سبتمبر/أيلول الماضي. وقال “آلين”، للصحفيين والخبراء في “بروكينغز” تفاصيل أول اجتماع لمواجهة “داعش” في مقر الناتو في ديسمبر/كانون الأول 2014: “كان لدينا قبرص هناك، مع تركيا واليونان أيضًا. كانت هذه حالة طارئة، وكانت الجهود الدبلوماسية عميقة للغاية من قبل سفراءنا.. كان الأمر حقا معا بشكل جيد للغاية”. لكن خلال معركة “كوباني” الحاسمة في أكتوبر/تشرين الأول 2015، عندما بدأ الجيش الأمريكي في تسليح المقاتلين الأكراد السوريين لأول مرة، اندلعت التوترات.
ويقول “آلين”: “الحدود كانت مغلقة.. لم يكن هناك شيء يأتي إلى المدافعين عن كوباني عبر الحدود التركية”، موضحًا أن الجيش الأمريكي اضطر إلى الطيران عبر المجال الجوي السوري لتزويد المقاتلين الأكراد المحاصرين، مضيفا: “عندما كانوا يقتربون من موقع الهبوط، كنت على الهاتف مع سفراء مختلف البلدان.. كان هناك شعور كبير بالتقدير من جميع السفراء، باستثناء السفير التركي، الذي سارع إلى تسجيل استيائه”.
بعد ذلك، تولى بريت ماكغورك مهمة المبعوث الخاص الأمريكي للتحالف الدولي ضد “داعش”، وقد دفع إدارة “أوباما” بشكل أكبر نحو التقارب مع قوات سوريا الديمقراطية، إلا أنه استقال في وقت لاحق احتجاجًا على قرار “ترامب” في ديسمبر/كانون الأول 2018، بالبدء في سحب القوات الأمريكية من سوريا، وندد علنًا بـ”التخلي الكامل عن قوات سوريا الديمقراطية”.
جعلت تركيا من “ماكغورك” رمزا كريها للشراكة الأمريكية مع قوات سوريا الديمقراطية. وقد تحدث “ماكغورك” نفسه مع “آلين” خلال ندوة “بروكينغز” في سبتمبر الماضي، إلا أن شخصا عرَّف نفسه على أنه مسؤول بالسفارة التركية، قال: “الملايين تحت أقدام الإرهابيين الماركسيين!”. ضحك “ماكغورك” على هذا التعليق، لكن “آلين” شعر بأنه مضطر للرد، قائلا: “في النهاية، تركيا سعيدة لأن قوات سوريا الديمقراطية هزمت داعش”، على حد قوله.
أما سونر كاغبتاي مدير برنامج تركيا في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى مؤلف كتاب “إمبراطورية أردوغان”، فقد قال إن “تركيا تعاني من مشكلة مع القيادة المركزية الأمريكية، فقد أسست القيادة المركزية الأمريكية علاقة تكتيكية مع وحدات حماية الشعب، لكن تركيا ترى أن هذا غير مقبول بعد هزيمة داعش”.
القيادة المركزية الأمريكية هي القيادة القتالية المسؤولة عن القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، وعلى الرغم من أن منطقة عملياتها تشمل معظم الدول المجاورة لتركيا، فإن القوات الأمريكية في تركيا نفسها تقع تحت مظلة القيادة الأوروبية الأمريكية”.
وقد أعرب “هيراس” عن استيائه من أن “القيادة الأمريكية الأوروبية تتصرف كما لو أنها وكيل أردوغان في مؤسسة الدفاع الأمريكية”، فيما يعتقد “كاغبتاي” أن “العلاقات قد تحسنت إلى حد ما منذ أن أصبح الجنرال الأمريكي في البحرية جوزيف دانفورد جونيور رئيس الأركان المشتركة، حيث قام دانفورد بسد الفجوة بين القيادة الأمريكية الأمريكية والقيادة الأمريكية المركزية”، من وجهة نظر “كاغبتاي”، الذي يقول: “تستخدم القيادة المركزية الأمريكية في التعامل مع الدول الضعيفة والفاشلة، بينما تتعامل القيادة الأمريكية الأوروبية مع الحلفاء الأقوياء، ولن يتوقف الأتراك عند حدودهم إلا حينما يتم التعامل معهم كدولة ضعيفة”.
بعد أن ترك “ماكغورك” منصبه في إدارة “ترامب”، استبدله وزير الخارجية مايك بومبو بمرشح مصمم خصيصًا لتهدئة العلاقة المتوترة والمتحجرة، وهو: السفير جيمس جيفري. ويقول “كاغبتاي”، الزميل السابق لـ”جيفري” في معهد “واشنطن”: “جيم جيفري قوة يحسب لها حساب.. إنه مؤمن قوي بالعلاقات الأمريكية التركية، بل إنه سياسي حقيقيي وواقعي للغاية”.
وأوضح “بارسي” كيف أن كل ذلك يتناسب معًا، قائلا إن “نظرة جيفري العالمية هي فكرة يؤمن فيها بقوة بأن الولايات المتحدة بحاجة إلى وجود عسكري قوي للغاية، وأنه بدون دعم الولايات المتحدة له، فإن النظام الدولي -الأمر برمته- سينهار”. في الواقع، لقد عمل “جيفري” المبعوث الخاص في قلب التحالف الأمريكي التركي ضد الشيوعية، حيث بدأ مسيرته كضابط سياسي – عسكري بوزارة الخارجية في تركيا من عام 1983 إلى عام 1987، في بداية تمرد حزب العمال الكردستاني. وعاد كسفير للولايات المتحدة في تركيا في عام 2008، عندما كان التمرد يتصاعد مرة أخرى.
وخلال مؤتمر صحفي في 26 سبتمبر/أيلول، أشار “جيفري” إلى “عنصر مرتبط بحزب العمال الكردستاني في الحركة الكردية في سوريا التي توسعت لاحقًا في قوات سوريا الديمقراطية”. وقال: “من المفهوم أن الأتراك فقدوا عشرات الآلاف من الأشخاص بسبب تمرد حزب العمال الكردستاني الذي بدأ عام 1984، وهم قلقون جدًا من وجود قوة كبيرة من الناس يقودهم أشخاص لهم علاقات مع حزب العمال الكردستاني.. لقد اعترفنا بذلك. لقد تحدثنا في الواقع إلى الناس في شمال شرق سوريا -وهناك العديد من المجموعات- وهم جميعًا يفهمون أن الأتراك لديهم سبب للقلق”.
كان إنجاز “جيفري” المميز في سوريا هو “المنطقة الآمنة”، حيث وافقت قوات سوريا الديمقراطية على تفكيك تحصيناتها على طول الحدود التركية والسماح بدوريات أمريكية تركية مشتركة على الجانب السوري. في المقابل، يحمي الجيش الأمريكي قوات سوريا الديمقراطية من توغل تركي أعمق. وقد أشار المسؤولون الأتراك إلى أنهم غير راضين عن نهاية الصفقة، ومن غير الواضح ما الذي يمكن أن تقدمه قوات سوريا الديمقراطية أكثر، بحسب غونول تول الباحثة بمعهد الشرق الأوسط، والتي قالت خلال فعالية “جون هوبكينز”: “في هذه المرحلة، فإن وجود منطقة آمنة يبلغ عمقها ثلاثين كيلومتراً خارج نطاق قوات سوريا الديمقراطية تماما، من شأنه أن يقوض الاستراتيجية الأمريكية”.
وبالنظر إلى أهمية القضية الكردية بالنسبة لسياستها الداخلية، أظهرت تركيا أنها مستعدة لتولي الأمر بأيديها. في يناير/كانون الثاني 2018، غزت القوات التركية منطقة “عفرين” التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، ولا تزال تركيا تحتل تلك المنطقة. ويوم السبت الماضي، وصف “أردوغان” بنود المنطقة الآمنة بأنها “خيال”، مهددًا بشن غزو أحادي الجانب شرق نهر الفرات “بحلول اليوم أو غدًا”.
لم تكن هناك قوات أمريكية في “عفرين” في ذلك الوقت، لكن هناك قوات أمريكية في شرق الفرات. وتقول “تول”: ” إذا كانت القوات التركية ستقتل جنديًا أمريكيًا، فكل الرهانات تنطفئ”. لكن “جيفري” يحسب أنه لا يجدر التخلص من العلاقة مع تركيا -دولة يبلغ عدد سكانها ثمانين مليون شخص وثاني أكبر جيش في الناتو- لصالح قوة عسكرية غير نظامية، بحسب ما يقول “كاغبتاي”.
ويقول “هيراس”: “ستعمل وزارة الخارجية دائمًا على تمييز الجهات الفاعلة الحكومية على الجهات الفاعلة غير الحكومية”، مضيفا: “وزارة الخارجية ليست وزارة الدفاع.. ليست وكالة المخابرات المركزية.. وليست منظمة تتعامل بشكل جيد مع سياقات المناطق الغامضة والرمادية. إن الانخراط مع ممثل الدولة الحليفة للمعاهدة هو بالضبط نوع العمل الذي تكون وزارة الخارجية أكثر ملاءمة له”.
وكما أعرب السفير السابق روبرت فورد عن شكوكه في مقال في 1 أكتوبر/تشرين الأول، “الأمريكيان يخلقون خطرًا أكبر على السلام في سوريا على المدى الطويل. إنهم يوفرون مظلة عسكرية لتظهر دولة صغيرة في شرق سوريا”. ويقول “شولام”: “تركيا حكومة، لذلك لديهم المال، ولديهم جماعات ضغط تعمل لصالحهم، لأن كل دولة لديها سفارة، لكننا [الأكراد] ليس لدينا سفارة”.
مع ذلك، فإن التحالف الأمريكي-الكردي يمنح الأكراد حرية وصول غير مسبوقة إلى “واشنطن”. في 2 أكتوبر/تشرين الأول، أطلعت قيادة مجلس سوريا الديمقراطية الصحفيين على تفاصيل زيارتهم الأخيرة للعاصمة الأمريكية. وقالت الرئيسة التنفيذية للمجلس إلهام أحمد: “إن الأطراف التي قابلناها كانت في معظمها من الكونغرس ووزارة الخارجية، لكننا نرى أنها بدأت تضع ثقلها وراء الحل السياسي، وبالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة إلى مناقشات ومناقشات مطولة حول كيفية الوصول إلى حل حقيقي وواقعي. أركز على كلمة الواقعية حتى لا نكون خياليين في اقتراح المشاريع أو الحلول .. لعب السيد جيمس جيفري دورًا في نقل المناقشات بيننا وبين تركيا، ونحن نشكره على ذلك.. وكذلك لعب البنتاغون أيضًا دورًا إيجابيًا.
بحسب “أوزوي”، الذي يعد حزبه –حزب الشعوب الديمقراطي- هو السبيل القانوني الرئيسي للمعارضة الكردية في تركيا، فإن المسؤولين الأميركيين كانوا “متقبلين للغاية” لزيارته الأخيرة. وبعد فترة وجيزة من اجتماع لجنة “توم لانتوس” لحقوق الإنسان في مجلس النواب، قال: “هناك اهتمام أكبر بالتحدث إلى أشخاص إما من تركيا أو من يعملون في تركيا”، وذلك بفضل نزاع S-400 والحرب السورية. ويضيف: “إنهم أقل تساؤلا حول، على سبيل المثال، حقوق الإنسان والديمقراطية في تركيا. هذا شيء محبط بعض الشيء.. لكننا نحن نحاول أيضًا أن نثير هذا النقاش حول الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، والقمع الكامل للمعارضة الديمقراطية”.
بشكل تقليدي، يمكن للمعارضين مثل “أوزوي” الاعتماد على الناشطين الذين يركزون على حقوق الإنسان والنظام العالمي الليبرالي. على سبيل المثال، جاء “شولام” للمرة الأولى إلى “واشنطن” عام 1993 للفت الانتباه إلى هجوم صدام حسين الكيماوي على الأكراد في “حلبجة”، وسرعان ما وسع نطاق مهمته لتشمل محنة الأكراد في وطنه تركيا. ومن بين الديمقراطيين والجمهوريين في “الكونغرس” الذين عمل معهم “شولام” في البداية، النائب السابق بوب فيلنر رائد مجال الحقوق المدنية اليهودية الأمريكية في الجنوب الأمريكي، والنائبة السابقة إليزابيث فورس، وهي ناشطة مناهضة للفصل العنصري.
ويقول “شولام”: “فتحت فورس ذراعيها إلينا على الفور. لم يكن هناك داعٍ لتعليمها. بطبيعة الحال، تركيا ليست جنوب إفريقيا، لكن القمع هو القمع. أما بوب فيلينر فلم أكن مضطرًا إلى تثقيفه حول القمع الذي كان يمر به الأكراد لأنه كان ملما بما يمكن أن يمارسه العرق المهيمن على الأقلية”.
اشتبك النشطاء مع الحكومة التركية في “واشنطن” -حرفيًا- في مايو/آيار 2017، حيث واجهت مجموعة من المتظاهرين “أردوغان” خلال خروجه من مقر إقامة السفير التركي، وهم يهتفون: “تحيا وحدات حماية الشعب” و”قاتل الأطفال أردوغان”، وقد اخترقت قوات الأمن التركية خط شرطة العاصمة لضرب العديد من المتظاهرين.
وقالت لاسي ماكولي إحدى الناشطات اللاتي هاجمن “أردوغان” ذلك اليوم: “الأناركيون والناشطون واضحون في معارضتهم لفاشية أردوغان وقسوتها. لذلك شاركت في الاحتجاج في مايو 2017.. كنت في تركيا في عام 2015 وأوائل عام 2016، ورأيت بأم عيني كيف يدمر أردوغان الديمقراطية وحقوق المرأة والحرية الأساسية للشعب”.
اتهمت السفارة التركية المتظاهرين بدعم حزب العمال الكردستاني و”استفزازهم بقوة للمواطنين الأتراك الأميركيين الذين تجمعوا بسلام لتحية الرئيس”. وقد تسبب الحادث في ضجة دبلوماسية، حيث طالب مجلس النواب بالإجماع بمحاكمة مسؤولي الأمن الأتراك، وطلبت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين من وزارة الخارجية تجريد حراس “أردوغان” من حصانتهم الدبلوماسية، فيما أدانت هيئة محلفين كبرى فيدرالية خمسة عشر عضواً من عناصر أمن “أردوغان” وأربعة آخرين في الهجوم.
وقد وصف “أردوغان” رد الفعل الأمريكي بأنه “فضيحة”، وقبل بضعة أسابيع من اجتماع بين “أردوغان” ووزير الخارجية آنذاك ريكس تيلرسون، أسقطت وزارة العدل الأمريكية بهدوء معظم الاتهامات، لكن الدعوى المتعلقة بجرائم الكراهية التي قام بها العديد من المحتجين الذين أصيبوا في الهجوم لا تزال تشق طريقها عبر المحاكم الأمريكية.
كذلك بدأ النشطاء الذين يميلون إلى اليسار مثل سامانثا باور وبن رودس، وكلاهما من المحاربين القدامى في إدارة “أوباما”، لصالح الاعتراف بقتل 1.5 مليون مسيحي أرمني خلال الحرب العالمية الأولى كإبادة جماعية، حيث إن الإبادة الجماعية للأرمن موضوع من المحرمات في تركيا، وقد أثار السياسيون عبر الطيف السياسي التركي مخاوف من مطالب الأرمن بالتعويضات.
ويقول آرام هامبريان المدير التنفيذي للجنة الوطنية الأرمنية الأمريكية: “كان النموذج القديم: حليفنا تركيا، إنهما ضمن فريقنا، ونمنحهم أساسًا احتراما شاملا للحساسيات التركية، وفي المقابل تدعم تركيا أولوياتنا الإقليمية… كان هذا هو السلام والاتفاق الذي استمر لأكثر من قرن، لكن بالنظر إلى سلوك تركيا العدواني، وحتى المناهض للولايات المتحدة، فإن نقاط الحوار التي كانوا قادرين على لعبها ضدنا لا جدوى منها الآن”.
ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، اهتمت مجموعة سكانية غير متوقعة بوضع حقوق الإنسان في تركيا، وهم: المسيحيون الإنجيليون. وقال “هامباريان”: “يركز البعض على اليسار على حقوق الإنسان أو منع الإبادة الجماعية، وكانوا تقليدياً من مؤيدي جهود المجتمع الأرمني من أجل الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن.. لديك اليمين أيضًا، مجموعة متنوعة من الدوائر الانتخابية، بما في ذلك الصقور الذين ينتقدون تركيا بشكل متزايد، ولديك أناس من مؤيدي الحرية الدينية ينتقدون تركيا بشكل متزايد”.
أدخل “أردوغان” صبغة جديدة من الشعوبية الإسلامية على السياسة الخارجية والداخلية التركية، فقد استخدم برنامجه في الأمم المتحدة هذا العام، على سبيل المثال، للفت الانتباه إلى القضايا الإسلامية في جميع أنحاء العالم: كشمير وفلسطين وأزمة الروهينجا والهجوم الإرهابي ضد المسلمين في “كرايس تشيرش”، في نيوزيلندا.
إن الخطاب الناري للزعيم التركي يقلق الآن الزعماء المسيحيين الإنجيليين في أمريكا، وهم قلقون من قدرتهم على التبشير في المنطقة. وفي تغريدة عام 2016، وصف مايك بومبيو المرشح الإنجيلي آنذاك، تركيا بأنها “ديكتاتورية إسلامية”، لكنه حذفها فيما بعد بعد أن أصبح وزيرا للخارجية. وقد وصلت المخاوف الإنجيلية إلى ذروتها عندما ألقت تركيا القبض على القس آندرو برونسون، وهو قس أمريكي، في سلسلة من الاتهامات تتعلق بالتجسس والإرهاب في أكتوبر/تشرين الأول 2016، وسرعان ما أصبحت قضية “برونسون” من أشهر القضايا. وفي مواجهة الضغوط المتزايدة من المدافعين عن المسيحية، طلب “ترامب” من “أردوغان” الإفراج عن “برونسون” في مايو/آيار 2017. وقد أخبر الزعيم الإنجيلي جوني مور خدمة أخبار الديانات: “تمكنا من توعية الرئيس ونائب الرئيس بأن هذه كانت أولوية بالنسبة لنا”، من خلال “خطوط اتصال واضحة ومفتوحة بين الإنجيليين والبيت الأبيض”.
وبعد مرور عام على اعتقال “برونسون”، عرض “أردوغان” إطلاق سراح القس الأمريكي في مقابل تسليم الداعية التركي فتح الله غولن، الذي يتخذ من “بنسلفانيا” منفى اختياري له، متهما إياه بإصدار أمر بمحاولة الانقلاب في يوليو/تموز 2016. وبحسب ما نُشر وقتها، فقد قال “أردوغان” لـ”ترامب”: “لديك قس أيضا.. أعطه لنا”.
وفي أول اجتماع وزاري من قبل وزارة الخارجية للنهوض بالحرية الدينية في أغسطس/آب 2018، رد نائب الرئيس الإنجيلي مايك بينس على أنه “لا يوجد دليل موثوق به ضد برونسون، وهدد بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا”. ومن خلال تغريدة تمدح “برونسون” بأنه “مسيحي عظيم”، سرعان ما ألقى “ترامب” تهديدًا بالعقوبات. وقد أدت العقوبات الجديدة إلى تفاقم الحرب التجارية المستمرة التي كانت تهدد بإغراق الاقتصاد التركي في الفوضى، وأخيرًا، في أكتوبر 2018، أطلقت السلطات التركية سراح “برونسون”، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تفرض فيها الولايات المتحدة عقوبات على أحد حلفاء “الناتو”. ولكن بقدر ما كانت تحركات إدارة “ترامب” سابقة، فإنها لم تمس أي من الخطوط الحمراء الأساسية في تركيا.
قد لا يؤمن الكثير من صناع السياسة في الولايات المتحدة مطلقًا بطلاق حليف، خاصة بهذه الطريقة الدرامية. وفي الوقت الحالي، لا يزال هناك “الومضة” التي تحاول من خلالها إدارة النظام العالمي من خلال التحالفات، لكن هذا النظام سيكون أقل راحة قليلاً من ذي قبل. وقال “جيفري”، في مؤتمر صحفي خلال سبتمبر: “الجميع يريدون أن يتحرك الجانب الآخر بشكل أسرع، ليكون أفضل. هذا ليس شيئًا غير عادي في الشؤون الدبلوماسية، لكن مرة أخرى، نحن راضون عمومًا. نستمع إلى مخاوف الأتراك.. ونحاول الاستجابة إليها عندما نستطيع”.
*ماثيو بيتي: مراسل الأمن القومي بمجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية، وزميل سابق لدراسات مناطق اللغات الأجنبية بجامعة كولومبيا.
ترجمة: المركز الكردي للدراسات