ليل ج. غولدشتاين | مجلة ناشيونال إنترست
من خلال إصدار أمره للقوات الأمريكية بمغادرة سوريا مؤخرا، قام الرئيس دونالد ترامب بإلقاء كومة كاملة من الطوب على رأسه، بما في ذلك طوب ألقاه العديد من المؤيدين الأقوياء له من داخل حزبه. يُقال إن الانسحاب يشكل فشلًا أخلاقيًا كبيرًا لا يضاهيه سوى ما فعله “ترامب” فيما يتعلق باتفاقية “ميونيخ”، بل إنه كارثة جيوسياسية سيستفيد منها عمليا جميع “أعداء أمريكا”، وخاصة الكرملين على ما يبدو، الذين وصفته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية بأنه “يستمتع بفرصة جديدة لإعادة بناء منزلة روسيا كقوة عالمية جديدة”.
هل ما نشهده الآن هو أن الروس يؤدون “رقصة النصر” ويضحكون على تخبط الأمريكيين؟ ليس تماما، ففي الواقع، يقول الكاتب الروسي فلاديمير موشين في مقال بصحيفة “نيزافيسمايا غازيتا” الروسية، إن الواقع مخالف لذلك التصور تماما، مضيفا: “مجال النقاش حول القضايا الحساسة في صحافة موسكو أكبر بكثير مما تسمح به معظم الروايات الغربية عادة، لكنه يشير أيضًا إلى أن إطار الصفر في تحليل قضايا السياسة الخارجية المهمة حاليًا بين أبرز الصحفيين الغربيين معيبة”.
يبدأ “موشين” مقاله بتلخيص تعليقات “ترامب” الاستفزازية بشأن سوريا للقراء الروس، ويوضح أن “ترامب” قد تمنى لـ”موسكو” حظاً سعيداً في سعيها لمساعدة “دمشق”. ومع ذلك، يشير كاتب المقال الروسي على الفور إلى أن “الرئيس دونالد ترامب أثار أيضًا التشابه التاريخي للتورط السوفيتي في أفغانستان، ليشير إلى مخاطر القوى العظمى المتمثلة في التخلص من الموارد في حالات الطوارئ الإقليمية المعقدة”. وكما هو متوقع، فإن هذه النقطة يتردد صداها بطرق عميقة وقوية إلى حد ما في العقل الروسي، ويفسر “موشين” ما فعله “ترامب” بالقول: “بعد ذلك، تحايل ترامب على الخطاب البلاغي لنفسه، حيث قال إذا كانت روسيا ترغب في الانخراط في سوريا، فهذا من شأنهم”.
يرى الكاتب الروسي أنه “من المثير للاهتمام” أن يدعي “ترامب” أن الجنود الأمريكيين يحتاجون إلى إعادتهم من سوريا لأنه بحاجة إليهم على الحدود مع المكسيك. وكما هو متوقع، يقال إن “ترامب” محق في سحبه للقوات الأمريكية، لأن وجودها بالأساس كان يجري بـ”طريقة غير قانونية”. ومع ذلك، فإن القياس على النموذج الأفغاني لا يتماشى بالضرورة مع القراء الروس. على كل حال، خلال الثمانينيات من القرن الماضي، كان لدى الاتحاد السوفياتي المزيد من الجنود في بلدان أخرى غير أفغانستان، على سبيل المثال في أوروبا الشرقية أو حتى منغوليا، كما يوضح “موشين” الذي يقول: “اليوم روسيا لديها عدد أقل بكثير من الجنود في الخارج، وعلاوة على ذلك، فإن الوحدة في سوريا ليست كبيرة بشكل خاص”. ومع ذلك، يبدو أن “موشين” يتعاطف مع “ترامب” ويقول إن التكاليف المترتبة على روسيا للتدخل السوري المستمر ليست في الواقع صغيرة، حيث يقول: “على الرغم من بُعدها عن حدود الاتحاد الروسي وإرسال الأعمال العسكرية والشرطية والإنسانية على نطاق واسع، وتناوب الأفراد واختبار أنواع جديدة من الأسلحة، فإن هذا النشر يتطلب تكاليف مادية وبشرية كبيرة. وأنا أتفق مع تقييم (ترامب) بأن نشر روسيا قواتها في سوريا له تأثير سلبي على الاقتصاد الروسي”.
واستنادا إلى المقارنة بالفشل السوفيتي في أفغانستان، يعترف “موشين” بأنه “حتى يومنا هذا، لا يفهم الكثيرون بوضوح أهداف الكرملين لهذا التدخل الخارجي الفاشل”. ويشير إلى أن العديد من الخبراء في روسيا يسألون الآن: “لماذا أرسلت القيادة الروسية وحدة عسكرية إلى سوريا؟”، فقد أثير مثل هذا السؤال بين السطور في حجج “ترامب” حول دور روسيا في الصراع السوري. ووفقا لـ”موشين”، تبدو “واشنطن” أقل اهتماما بمستقبل سوريا في مواجهة خطط “موسكو”. ويقول “موشين” بصراحة إلى حد ما، إنه “أمر محبط أن القليل من الشروط المسبقة لتحقيق روسيا الناجح لخططها في سوريا قد تحققت”.
يؤكد هذا التحليل الروسي أن الأمريكيين لا يغادرون بالفعل وأنهم، علاوة على ذلك، لن يسمحوا للحكومة السورية بالسيطرة على حقول النفط في الجنوب، لكن الولايات المتحدة كانت على استعداد لتسليم العاصمة السابقة لـ”داعش”، كما يشير “موشين”، الذي يقول: “الأمريكيون حولوها إلى أنقاض وأعطوها للروس. استعِد بصحة جيدة مع مواردك الخاصة بك”. وفي إشارة إلى أن القوات الروسية في سوريا قد امتدت بالفعل إلى الحد الأقصى، يشرح الخبير الاستراتيجي الروسي: “بعد الانسحاب الأمريكي، سيتعين على قوات الحكومة السورية السيطرة على منطقة أكبر بكثير. وهذا يعني أن خطر الاشتباكات العسكرية مع القوات التركية وعصابات داعش سيزداد أيضًا”. ويلاحظ “موشين”، علاوة على ذلك، أن القوات الروسية تواجه في وقت واحد منطقة خلفية غير آمنة، حيث إن “القاعدة الجوية الروسية بالقرب من اللاذقية، على سبيل المثال، يتم قصفها بانتظام من قِبل المسلحين”.
يبدو أن الكثير من النقاد والمتابعين يرون أنه من السابق لأوانه الحديث عن العودة إلى “الحياة السلمية” في سوريا، كما أن حل المشكلات السياسية في البلاد لم يبدأ حتى الآن. أيضا، بعض “الانتصارات المحلية” لا تعتبر أمرا ضخما، ففي النهاية، أُجبر “موشين” على الاعتراف بأن “تشبيه ترامب دقيق بشكل غير مريح: الوضع يذكرنا فعليًا بأفغانستان.. مستنقع عسكري”.
حتى لو وضعنا جانباً التصريحات الكثيرة حول النصر الروسي في الصحف الغربية، فهناك بعض المشاكل الإضافية الواضحة في انتقاد أمر الرئيس بالانسحاب، ليس أقلها استمرار الأمريكيين في القتل في سوريا بشكل منتظم. هناك تلك القضية الأخرى التي تشكل فيها تركيا حليفًا رئيسيًا لحلف شمال الأطلسي. هذه ليست الجبل الأسود، بل إنها تركيا، ويمكن القول إنه لا يوجد بلد أكثر أهمية من تركيا لمستقبل الشرق الأوسط وعلاقته بالغرب. لذلك، ينبغي أن تؤخذ مصالح تركيا على محمل الجد. دعونا لا ننسى أن “أنقرة” كانت ضد حرب العراق في “واشنطن” عام 2003. وبالتالي، فإن الاضطرابات الإقليمية والكارثة الحقيقية التي حلت بالمنطقة منذ هذا الصراع، لا يمكن إلقاء اللوم عليها على الأتراك.
على العكس من ذلك، قامت تركيا بإيواء ملايين اللاجئين. وبالتالي، فإن تركيا تستحق شكر أمريكا وليس ازدراءها. لقد دفعت تلك الدولة الحيوية غالياً للأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ عام 2001. إذا برزت تركيا كدولة معادية مسلحة نووياً خارج الناتو بعد عقد من الزمان، فسوف يعرف الناس أن مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، التي ليس لديها أي “استقامة أخلاقية”، هي الملومة على هذا.
وبالنسبة لـ”داعش”، كانت المجموعة المتطرفة تتألف دائمًا من مجموعة من البلطجية الشباب في شاحنات صغيرة. ومن الناحية المثالية، كانت “واشنطن” ستسمح لهؤلاء الرعاع بمحاولة حكم مناطقهم الصغيرة، فقد كان ذلك أفضل لإثبات قسوتهم وعجزهم وفقر إيديولوجيتهم، ولكن بدلاً من ذلك، كان بإمكان الجيش الأمريكي القضاء على المجموعة الإرهابية في غضون أسبوعين، لكن واشنطن لم تعجبها فكرة تدخل آخر واسع النطاق في الشرق الأوسط. لذلك، اختارت الولايات المتحدة توظيف والتحالف مع السكان المحليين لتولي المهمة.
وإذا وضعنا جانباً أن “الصراع حول الانتصار”، والذي يبدو أنه قد اندلع بسبب مقتل صحفي أمريكي -وهو خط أحمر مقدس على ما يبدو- فإن “الحرب ضد داعش لم يكن لها أي أساس جاد في القانون الدولي أو في القانون الأمريكي المحلي”. وبالنسبة لأولئك الغريبين والقليل من الأمريكيين الذين يأخذون الدستور على محمل الجد، من المفترض أن يعلن “الكونغرس” الحرب في مثل هذه الحالات، لكنه لم يفعل ذلك منذ عام 1941. وبالإضافة إلى ذلك، هناك حقيقة أن “الحرب” أودت بحياة أكثر من بضع مدنيين وتركت إرثا غير مؤكد للغاية للناجين، بما في ذلك الأطفال.
أما بالنسبة للكرد، فإن محنتهم محزنة بالتأكيد، لكن اللوم يقع في الغالب في تكرار حدوث “ملازمة صديق سيء”، حيث خدعتهم أطراف أمريكية مختلفون (وصفهم الكرد بأنهم زملاء مخلصون)، حين ظنوا في البداية أنه إلى جانب الأسلحة يقدم “العم سام” أيضًا التزامات أمنية شبه دائمة للأشخاص المستضعفين عديمي الجنسية في أجزاء غامضة من الشرق الأوسط. ولكن هذا ليس الحال بشكل واضح هذه المرة، حيث إن حكاية الجحيم تلك هي واحدة من العديد من الظروف الحزينة الموجودة في الشرق الأوسط.
—-
ليل ج. غولدشتاين: باحث بمعهد الدراسات البحرية الصينية (CMSI) في كلية الحرب البحرية بالولايات المتحدة في نيوبورت. بالإضافة إلى اللغة الصينية، يتحدث أيضًا اللغة الروسية، وهو أيضًا أحد مؤسسي معهد الدراسات البحرية الروسية (RMSI) في كلية الحرب البحرية. يمكن التواصل معه عبر [email protected].
ترجمة: أمنية زهران