فرهاد حمي
قبل أيام في مؤتمر حزبه الجديد في مدينة مرسين الساحلية، كان داوود أوغلو يصف عائلة أردوغان بـ”مصيبة حلّت على تركيا”؛ وتابع حديثه: “أردوغان وضع على يمينه رئيس الحركة القومية دولت باهجلي وعلى يساره رئيس حزب الوطن دوغو برنيجيك، وهم من قادة انقلاب ما بعد الحداثة عام 1997”.
لكن مهندس السياسية التركية، الذي يفترض بأنه يملك الحنكة في الرؤية الاستراتيجية إلى السياسة الدولية، لم يكشف كيف اكتسبت عقيدة اليمين المتطرف في تركيا هذا الزخم المحلي والدولي؟
أثبتت التطورات السياسية في السنوات الأربع الماضية في تركيا أن العديد من التصورات الأولية للتحالف القائم في الحكم، بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، كانت قاصرة عن الإحاطة بجذور هذا التلاقي بين اليمين الديني واليمين القومي، وتم ربطها بعوامل تركية داخلية، وأغفلت الرعاة الدوليين لهذا التحالف خلف الستارة التركية.
يكشف التاريخ الحديث للدولة التركية، منذ تحالف مصطفى كمال أتاتورك مع الانكليز عقب إلحاق الموصل بالعراق، عام 1926، بأن سياسات تركيا (الداخلية والخارجية) تتطابق دوماً مع بوصلة مراكز القوة العالمية. وهذا ما يمكن استنتاجه من اقتراب تركيا (وفقاً للدراسات الوثائقية التاريخية الحديثة) على عقد الوفاق مع النازية في بداية الحرب العالمية الثانية، وكذلك وقوف تركيا مع عقيدة الرئيس الأمريكي هنري ترومان في مواجهة الشيوعية بعد هزيمة النازية، وصولاً إلى التدخل النيوليبرالي في الثمانينات عقب الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال كنعان إيفرين، الذي دفع بالإسلام السياسي نحو الحياة السياسية كرافعة لتمرير سياسة السوق المفتوحة على حساب تفكيك القاعدة اليسارية، الأمر الذي رصف أرضية لعهد حزب العدالة والتنمية الحالي.
قبل صعود دونالد ترامب إلى سدة الحكم كانت سياسة أنقرة مضبوطة مع تيار العولمة الذي كان يقوده باراك أوباما، المنفتح على البيئات المحلية للإسلام السياسي، إلى حد ما. رغم دعوات اليمين المتطرف والأحزاب القومية الفاشية التركية إلى دعوة الحكومة عدم الانجراف مع سياسات الانفتاح “الأوبامية” (لأن هذا الانفتاح سينعكس على أردوغان أيضاً بالانفتاح على القضية الكردية) إلا أن تلك الدعوات بقيت هامشية ومنعزلة.
في خضم المجريات المتسارعة عام 2015 انصدم الرأي العام التركي بظهور خطاب “اليمين المتطرف” بقوة ضد القوميات والهويات الدينية والتيارات الليبرالية المتنوعة؛ والمفارقة أن هذا الظهور بدأ من الصين التي ترمز حالياً إلى العولمة الرأسمالية، حينما أجهض الرئيس التركي عملية السلام مع الكرد وهو على متن الطائرة القادمة من بكين. فكانت هذه القطيعة مع الكرد محلياً بمثابة قطيعة مع العولمة الرأسمالية في الوقت عينه، وبداية الصعود لنجم اليمين المتطرف في تركيا.
صعود ترامب
أعطى وصول دونالد ترامب إلى دفة الحكم في مركز النظام الدولي جرعة معنوية كبيرة لليمين المتطرف حول العالم الممتد من بريطانيا إلى أوروبا الشرقية وصولاً إلى أنقرة وموسكو والأحزاب المعارضة في أوروبا الغربية والأنظمة الاستبدادية الحليفة في الشرق الأوسط.
من المؤكد أن صعود اليمين المتطرف كان ناجماً عن سخط الطبقات الشعبية العاملة وتآكل الهويات الدينية والقومية نتيجة تشجيع الهويات الفرعية الليبرالية من قِبل مناصري العولمة الرأسمالية، مما عمقت الفجوة بين الطبقة العاملة المحلية والمستثمرين الذين كانوا يجوبون العالم، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت القطاعات العقارية والمالية 2008، وذلك تجنباً لقوانين الاستثمار المحلية باهظة التكلفة وبحثاً عن اليد العاملة الرخيصة والبلدان ذو معدل الضرائب المنخفضة مثل بعض البلدان الآسيوية والأفريقية والشرق أوسطية بما في ذلك تركيا نفسها. لكن وراء هذا الصعود الدراماتيكي لليمين كان يقف أيضاً فشل الحركات اليسارية والقوى الديمقراطية والثورات الشعبية والتمردات المحلية في القبض على “اللحظة التاريخية”؛ وكأن مقولة والتر بنيامين تتكرر مجدداً “وراء كل فاشية، ثورة فاشلة”، لكننا يجب أن نضيف أيضاً “وراء كل فاشية، ليبرالية فاشلة”.
دونالد ترامب كان يتغذى في حقيقة الأمر على الميول الانتقامية المنبعثة من القاعدة الشعبوية من البيض والكتلة الانجيلية المحافظة؛ فمنذ اللحظة الأولى لترشحه في السباق الانتخابي كان يسعى إلى تضيق الخناق على الطبقة التقليدية الأمريكية بشقيها الجمهوري والديمقراطي الوسط، ولا يخفي عدائه الصريح وحربه المفتوحة لكل من يساند الطبقة العاملة الأمريكية من منطلق اليسار، وعلى رأسهم السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز. وهذا الكلام ينطبق أيضاً على رؤيته في السياسة الخارجية بعد تسلمه السلطة.
في الواقع كانت حيلة ترامب في إعادة التوازن المزعوم للاقتصاد الأمريكي القومي في غاية البساطة. بينما كان مناصرو العولمة في أمريكا يمتصون الأموال العالمية من خلال بنوك وول ستريت بحكم قوة الدولار ويستثمرون هذه الأموال في أسواق البورصة والمال غالباً، أراد ترامب بدوره رفع الرسوم الجمركية على البضاعة الأجنبية، وفرض الصفقات الابتزازية الجبرية على الخصوم والأصدقاء معاً، وتسهيل التجارة الدولية أمام لوبيات الطاقة والمال والأسلحة الذين يساندونه تحت شعار”أمريكا أولاً”. وفي كلا الحالتين كما يقول الاقتصادي اليوناني الشهير يانيس فاروفاكيس، فإن ” العالم هو مصنع الإنتاج، وأمريكا هي من تشفط الأموال”.
شلت عقيدة اليمين المتطرف أي شكل من أشكال التوافق الدولي حول القضايا المشتركة في العلاقات الدولية؛ إذ استُبدل الوفاق الدولي داخل منظومة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعروفة حول المشاكل والقضايا الدولية (مثل “الأزمة البيئة” و”جائحة كورونا” و”حقوق الإنسان” و”اللاجئين” والحروب العسكرية في الشرق الأوسط) لصالح التفاهمات الثنائية بين الدول القومية فيما بينها من منطلق القوة وليس من منطلق المبادئ القانونية والأخلاقية. معطوف على ذلك، تراجعت المنظومة الحقوقية التقليدية لتأدية دورها الفعال في إدانة ومحاسبة انتهاكات الدول القومية بصورة شبه كاملة. بالتأكيد هذه المقاربة تناسب عقيدة بوتين وترامب ونتنياهو والفاشية التركية مع أردوغان.
علينا أن نصدق ترامب حينما يشدد على أن الانتخابات الأمريكية الحالية هي الأهم في تاريخ البلاد. ولكن ينبغي تفسير كلامه بطريقة معكوسة ونضعه في الإطار العالمي ككل. نعم إنها الأهم لأنها تشكل أقصى استقطاب بين تعزيز الأصوليات الدينية والقومية في العالم من جهة واحترام “القيمة الأخلاقية الكونية” من جهة أخرى. هي تشكل إذاً الصراع بين الهويات المتطرفة والقيم الكونية الأخلاقية، وتهرب اليمين المتطرف من مواجهة أزمة رأس المال الحالية واستبدالها بسياسة الهويات المتطرفة ضد الآخر.
قبل أيام لخّص السيناتور الأمريكي المقرب من ترامب، ليندسي غراهام، عقيدة اليمين المتطرف بقوله: “نرحب بالمهاجرين والأمريكيين الأفارقة وجميع أطياف المجتمع الأمريكي، شريطة أن يتبنوا عقيدة المحافظين وليست الليبرالية”. وترامب نفسه لم يندد بالمجموعات العنصرية البيضاء المسلحة والتي توصف بأنها “نازية” في المناظرة الأخيرة مع منافسه عن الحزب الديمقراطي جو بايدن. في حين كان ممثل الكتلة الإنجيلية المحافظة، النائب الحالي مايك بانس، ينكر قيمة العلم والعلماء فيما يخص أخطار “التغير المناخي” في مناظرته مع كمالا هاريس، المرشحة كنائبة للرئيس مع جو بايدن.
من خلال هذه التصريحات الثلاثة نستشف “العنصرية القومية العنيفة، الإقصاء العلني للآخر والقبول بالأساطير الدينية المتطرفة ضد العلم”. أمام هكذا عبارات لا يتردد الكاتب والفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي بوصف صعود ترامب برمزية صعود هتلر إلى سدة الحكم عام 1933، إذ أن عقيدته اليمينية تطبق حرفياً مقولة المفكر الألماني كارل شميت المعروفة في السياسة: ” يجب التمييز بين العدو والصديق”؛ وهي مقولة يحبذها اليمين التركي بصورة خاصة، أي ثمة آخر متخيل على أنه عدو، الذي يتوجب إزالته بأي طريقة كانت. لذلك يتخوف البعض من أن ترامب قد لا يتنازل عن السلطة في معقل الديمقراطية الأمريكية في حال هزيمته.
يلزم عدم الانجرار إلى رسم لوحة اليمين المتطرف الحالي بريشة هتلر بصورة متطابقة، نظراً لأن الأخير كان يفصح بقوة عن مشروعه الاستئصالي ضد المخالفين له من اليهود والغجر والمثليين والشيوعيين، في حين أن اليمين الحالي يغطي وجهه باسم المصلحة الوطنية العليا والأمن القومي والهوية الدينية والقومية. لكن النازية تشترك حتماً مع اليمين المتطرف في رفض الحقوق العالمية من المساواة والتضامن والتنوع الحقيقي، وكلاهما يدفعان بالهوية القومية والدينية إلى النطاق الأقصى ضد الآخر المختلف. هذا ما يمكن تسميته بـ”نمط الحياة القبائلية” كما شدد عليه المؤرخ الأمريكي آرثر شليزنجر في كتابه الذي صدر عام 1991، بعنوان “تفكيك أمريكا”، وهي عبارة لها مكانة بارزة في خطاب التحليل السياسي الأمريكي والعالمي معاً.
تناغم اليمين المتطرف
ثمة التباس كان يحيط بتصريحات ترامب، الذي كان يجاهر بكراهيته ضد الإسلام السياسي عموماً في حملاته الانتخابية قبل استلام السلطة، ولكن اتضح فيما بعد بأنه كان يطلق تلك التصريحات ليس من منطلق الإسلاموفوبيا، وإنما من منطلق أن الإسلام السياسي كان أداة لتعزيز نفوذ الرأسمالية العالمية مع هيلاري كلينتون وباراك أوباما وجورج بوش.
إدارة ترامب لا تكن أدنى خلاف عقائدي مع الهويات الأصولية والقومية المتطرفة بل ترحب بكافة أشكالها (من الوهابية السعودية والاخوانية القطرية والطورانية التركية وحتى الاستبدادية الإيرانية والمجموعات الجهادية في ليبيا وإدلب في سوريا)، شريطة أن يلزموا حدودهم في نطاق الهوية القومية والدينية المحلية ويقبلوا الطاعة لصالح الأدوات الإقليمية لليمن العالمي.
ما يحسب لليمين المتطرف في تركيا وتحديداً لدولت باهجلي وأردوغان ودوغو برنيجيك بأنهم أدركوا هذا المشهد الدولي بسرعة فائقة بعد صعود ترامب إلى الحكم واستطاعوا وفقاً لذلك التوفيق بين بوتين وترامب على أرضية المصالح المشتركة ضد تيار العولمة وحلفائهم الليبراليين. وفي هذا الإطار كسب اليمين التركي الضوء الأخضر من قيادات اليمين في موسكو ولندن وواشنطن وتل أبيب، في استخدام جميع وسائل العنف والقهر والتحايل على القانون وتعطيل مؤسسات الدولة والبرلمان واحتكار الاعلام في سبيل تحقيق الأهداف المرسومة والمتماهية مع اليمين الدولي.
سبقت الإشارة إلى أن التغطية التي وفرت لهذه المجموعة التركية الحاكمة كانت من قبل المحور الأوراسي، وتحديداً من موسكو بعد الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016 ضد المحور الاطلسي. لكن يجب توسيع الدائرة وتقديم صورة أكثر كلية بعدما اتضحت سياسات ترامب خلال السنوات الأربعة الماضية، فالغطاء الدولي لهذه المجموعة الحاكمة في تركيا كان بقيادة “اليمين المتطرف الدولي” (دونالد ترامب وبوتين وبوريس جونسون ونتنياهو). إذ أن عقيدة اليمين المتطرف تتطابق في بعدها الاقتصادي والأيديولوجي والسياسي مع النزعة القائمة في تركيا، ولا يجب استبعاد أن إدارة ترامب كانت راضية منتهى الرضا عن تصفية الليبرالية ورموزها الحقيقية في تركيا بالتنسيق مع موسكو خلال السنوات الماضية، فكلاهما كانا ضد ميراث باراك أوباما في منطقة الشرق الأوسط.
الكثير من الخبراء والمحللين كانوا يشككون حول مقدرة اليمين المتطرف التركي في إحداث نوع من التوازن بين المحور الروسي والأمريكي، لكن غالباً ما كانت تلك التحليلات أسيرة النظرة التقليدية حول سياسة المؤسسات الأمريكية، لأنها لم تأخذ استراتيجية اليمين الأمريكي بعين الاعتبار. بينما كان بوتين مع مستشاره “آلكسندر دوغين” بالأصل يبشر بالنزعة اليمينية المتطرفة، كانت إعادة توجيه الكتلة اليمينية الحاكمة في تركيا نفسها وفقاً لهذه المقاربة، أي باتجاه موسكو، بمثابة نقطة التوازن وليست نقطة الخلاف كما كان يُزعم.
يشترك اليمين المتطرف الدولي مع تركيا في عدة ملفات، أولاً أن الاتحاد الأوروبي هو عدو مشترك، ثانياً، وجوب عرقلة مشاريع الغاز والنفط التي تعود إلى حصة تيار العولمة، ثالثاً ضرورة حجب صعود الصين عالمياً، رابعاً رفض كل أشكال الحلول السلمية الدولية التوافقية لحل الأزمات في منطقة الشرق الأوسط على قاعدة التعايش المشترك، خامساً، الإيمان بالنزعات التبشيرية الدينية المتطرفة في العالم.
لكن ما يميز اليمين التركي عن اليمين المتطرف بشكل عام، لاسيما بعدما وصل إلى طريق مسدود بحكم مراكمة التناقضات الداخلية في السياسة التركية خلال السنوات الماضية، بأنه أكثر مباشرة في الإفصاح عن نواياه الاستئصالية تجاه “الآخر” بصورة عنيفة. فهو يتغذى من عقلية حركة تركيا الفتاة من جهة توظيف خطاب الإسلام التركي العرقي ومن القومية الكمالية والأساطير الوثنية في قالب الهوية التركياتية المتطرفة. هذه العقلية بالذات هي التي فتحت الطريق أمام إبادة الأرمن والشعوب المسيحية ومن ثم إبادة الكرد ، عبر مراحل، طيلة تاريخ الجمهورية الحديثة.
العدو المتخيل
أراد اليمين التركي أن يتهرب من التناقضات الداخلية التي ضربت السلطة والنفوذ وتدهور الوضع الاقتصادي منذ تفجر أحداث غازي بارك، وذلك من خلال وضع مناصري أوجلان في موقع العدو المتخيل. وهذا ليس بسبب أن الحركة تطالب بالهوية الخاصة للكرد، بل من موقع أن هذه الحركة السياسية بريادة صلاح الدين دميرتاش، الرئيس المشترك السابق لحزب الشعوب الديمقراطي HDP، وبالتنسيق مع التكتلات السياسية التركية الديمقراطية، طالبت بوجوب تجاوز الصيغة القومية الأحادية في تركيا والانفتاح على الحقوق العالمية من المساواة والحرية والتضامن بين الشعوب والقوميات والأديان، وهذا بالضبط ما يشكل عائقاً أمام شمولية الهوية التركية العرقية ونقائها المزعوم، لذلك لجأ التحالف الحاكم إلى استئصال هذا العائق خلال حرب شاملة. فقد زجُّ الآلاف من المناضلين والنشطاء والصحافيين والسياسيين في أقبية السجون، وسحلُ النساء وراء المدرعات العسكرية في الشوارع، وتنفيذ تفجيرات داخلية ضد المظاهرات السلمية وإطلاق حملات عسكرية شاملة ضد المدن الكردية، وتوسيع نطاق هذه العمليات في عمق كردستان العراق ومنطقة سنجار، كل ذلك تمّ برعاية عملياتية وسياسية من قبل اليمين الدولي.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد حصل اليمين التركي أيضاً على ذلك الدعم من شركائه الدوليين المتطرفين حيال سوريا بهدف تصفية أي وجود قانوني وسياسي للكرد وحلفائهم المحليين من العرب في سوريا. ولم يكن هناك ضير من توظيف تركيا للمجموعات الجهادية والتشكيلات المتطرفة السورية بثوب جديد ضد قوات سوريا الديمقراطية، رغم أن هذه القوات كانت تحارب في نفس الوقت مع التحالف الدولي تنظيم داعش حينها على مشارف دير الزور.
وصف المفكر سلافوي جيجك عشية قرار ترامب القاضي بالانسحاب من سوريا وما تعقبه من الاحتلال التركي لكل من سريكانيه وتل أبيض، بأنه “خيانة في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية”. كان صهر ترامب، اليهودي المتطرف جاريد كوشنير، هو من يحبك الخيوط خلف الستار كما قال جون بولتون في مؤلفه الأخير “الغرفة التي شهدت الأحداث”، وذلك بحكم علاقاته الشخصية مع صهر أردوغان “براءت ألبيرق” وتأثيره المباشر على ترامب. كما لا يجب عدم إغفال أن إدارة ترامب كانت متوافقة مع موسكو بخصوص الاحتلال التركي لعفرين أيضاً.
في المحصلة، بدت الحرب على الإرهاب غطاءاً لمخططات اليمين الدولي.
على خلفية ذلك كان التيار الكردي المقاوم ضد الإبادة والحرب الشاملة، هدفاً مباشراً لنزعة اليمين المتطرف على الصعيدين المحلي والدولي، وتجلى هذا بوضوح عبر صرخة ترامب في وجه نانسي بيلوسي إبان الحرب التركية على شمال شرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية حين وبخها بقوله: “إنك تدافعين عن الشيوعيين، أليس كذلك؟” يستحضر ترامب عادة مفردات مثل الشيوعيين والراديكاليين والآناركيين والاشتراكيين، الذين يطالبون بالحقوق العالمية ويرفضون النهج القوموي والديني المتطرف، كتعبير سيء لوصف خصومه وأعدائه اللدودين الذين يتوجب محاربتهم بقوة.
عموماً ترى كل من روسيا وإسرائيل وإدارة ترامب ضرورة توظيف اليمين المتطرف التركي كأداة ضد الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية؛ وما احتفاظ اليمين التركي على المتطرفين الجهاديين في الشريط الحدودي السوري وتحريكه لتلك المجموعات من دولة إلى أخرى وبصمت وموافقة ضمنية من قيادات التيار اليميني العالمي بغرض توظيفها ضد أي طرف يشكل خطراً على النهج اليميني المتطرف، ماهي إلا مؤشر على التحالف والتوافق بين تلك القيادات.
تبعاً لذلك، ينبغي النظر إلى الصدام التركي اليوناني، وانتشار السفن التركية في البحر المتوسط وليبيا، والدعم التركي لحكومة أذربيجان ضد أرمينيا في نزاع إقليم قره باغ، وحتى تغير رمزية آيا صوفيا إلى مسجد، على أنه لا يهدف فقط إلى استفزاز كل من اليونان وليبيا وأرمينيا، بل من ورائها الدول العربية والاتحاد الأوروبي أيضاً. فواحدة من العوامل الأساسية التي دفعت بعض الدول العربية إلى التطبيع مع إسرائيل ترجع إلى المخاوف تلك الدول من المطامع التركية الاستعمارية، وهو الأمر الذي يخدم مشروع كل من نتنياهو وترامب في نهاية المطاف. أما الاتحاد الاوروبي، الذي على دراية بهذه السيناريوهات بكل تفاصليها، يقف عاجزاً عن التصرف تجاه تركيا في ظل الشروط الراهنة، وذلك بحكم خضوع سياساتها لقوة الرأسمال العالمي وقوة الناتو التي تقع تحت هيمنة إدارة ترامب.
وعليه، سيكون مصير اليمين التركي مرهوناً بالنتائج المحتملة للانتخابات الأمريكية، التي تفصلنا عنها أسابيع قليلة؛ وما إسراع دوغو برينجيك في إطلاق تصريح تلفزيوني يفيد بأن أوجلان سيتحدث في لقاء متلفز للرأي العام سوى تكتيك احتياطي يتخذه اليمين المتطرف حال فشل ترامب في الانتخابات، كما أن تشهير ورقة الحوار الشكلي مع اليونان يصب في ذات المنحى. لكن لو نجح ترامب في الصعود إلى السلطة للمرة الثانية على التوالي ستواصل هذه الكتلة حملاتها البربرية ضد الكرد ودول الجوار وذلك بمعية موسكو وتل أبيب ولندن، لكن هذه المرة بصورة أشد ضراوة ووحشية.