في مقالة له على موقع” الاتلانتيك” يلفت المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا فريدريك هوف، انتباه السوريين إلى أهمية تكييف أهدافهم الداخلية مع استراتيجية بايدن الجديدة. ويسرد هوف مجموعة من الأولويات الرئيسية لدى إدارة بايدن، من بينها، استعادة القدرة على إيصال الديمقراطية الأمريكية، وضمان الازدهار المحلي، وإحياء الحقوق المدنية، وحماية الشعب الأمريكي وحلفاء الولايات المتحدة من الخصوم الاستبداديين في جميع أنحاء العالم، والتغلب على الوباء، ودفع عجلة الاقتصاد، وتجديد البنية التحتية الحيوية للطاقة البديلة، وحماية حقوق التصويت، واستعادة التحالفات والشراكات.
وحالما استلمت إدارة بايدن دفة الحكم في واشنطن، بدأت في مراجعة شاملة أشبه بعملية انقلابية ضد ما يعرف بـ«السياسة الترامبية» ذات النزعة التجارية المفرطة. شملت هذه المقاربة في عنوانها العريض أهمية ترتيب مسار العلاقات الخارجية التي تضع القيم الليبرالية في مواجهة النزعة الاستبدادية المتطرفة لكل من الصين وروسيا.
وبدورها، كانت الجهات المعنية بالشأن السوري ترصد أولى الجولات الخارجية لكل من بايدن ووزير خارجيته، أنتوني بلينكن، إلى كورنوال وبروكسل وجنيف وروما، بغرض معرفة المقاربة الجديدة حيال الملف السوري. وكان واضحاً أن الملف السوري لم يكن هامشياً على طاولة الاجتماعات الثنائية التي عقدت بين بايدن – بوتين من جهة، وبايدن – اردوغان من جهة ثانية، بل ونال نصيبه بصورة أوسع في المؤتمر الوزاري الذي عقد في روما، والذي دعت إليه الولايات المتحدة الامريكية للتداول العديد من الملفات في الأزمة السورية.
استناداً إلى جملة المعطيات التي خرجت من هذه اللقاءات بات الملف السوري يشكل أولوية ملحة للإدارة الامريكية الجديدة، غير أنه يقع في خانة «الاطراف الهامشية» قياساً لمستوى أهميته في سياق هرمية العلاقات الدولية. وعليه، يجدر التعامل معه كما تقول الإدارة الامريكية الحالية من منطلق إدارة الأزمة واختبار نوايا الخصوم الدوليين والإقليمين.
يتحتم وفق هذه الرؤية، الشروع في إعادة تصويب أخطاء دونالد ترامب الجسيمة قبل كل شيء، ومن بينها ضرورة فصل النزاع السوري عن الطموحات الإقليمية الأمريكية، مثل توظيف النزاع كمنصة الإطلاق بغية إسقاط النظام الإيراني أو منع شركاء الولايات المتحدة من الدول العربية بالتواصل مع نظام بشار الأسد. وعليه، أرسلت واشنطن رسائل إلى موسكو بأنها لا تنوي إسقاط النظام السوري بالطرق العسكرية وتشديد حزمة العقوبات ضد دمشق- ولو أنه خياراً متاحاً-، بل تحاول تسخير إمكانياتها للحرص على أن يحدث نوع ما من انتقال سياسي يعكس رغبات الشعب السوري كما يقول انتوني بلينكن، مشترطاً في الوقت عينه رفض فكرة «تطبيع العلاقات» مع نظام الأسد.
يقيناً، ضيّقت إدارة بايدن أهداف الولايات المتحدة في سوريا، تاركة وراءها سياسة متضاربة لم تكن متماشية مع بنية قانونية صلبة، بما في ذلك إلغاء عقد شركة “دلتا كريسنت انريجي” المحسوبة على إدارة ترامب، وفضلت أن تحدد نطاق حضورها العسكري بغية استدامة الاستقرار ومطاردة بقايا تنظيم الدولة الإسلامية في شمال وشرق سوريا. وبذلك سحبت من يد موسكو ورقة الهجوم الدبلوماسي الدائم على الحضور الأمريكي في سوريا جراء تفويض إدارة ترامب استثمار الحقول النفطية، نظراً أن خيارات إدارة بايدن بخصوص الطاقة لا تتمحور حول الطاقة التقليدية ومشتقاتها، بقدر ما تدعو إلى تعزيز الطاقة البديلة والمستدامة.
يشكل هذا النهج المرن من قبل إدارة بايدن حيال سوريا، كما يرى المراقبون، مقاربة منفصلة عن باقي الملفات المتشابكة والمتناقضة في العلاقات الروسية – الامريكية على المستوى الدولي، مثل الأمن السيبراني وأوكرانيا ومصير زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني الذي يقضي حاليا عقوبة بالسجن لمدة عامين ونصف في سجن جنائي. وعلى ضوء ذلك وضعت الإدارة الأمريكية الملف السوري كـ«نقطة الاختبار الهامشية» بغية رصد «نوايا بوتين»، كشرط مسبق في إنجاح أي حوار مثمر مع موسكو كما صرح بايدن نفسه، وتحديداً في ملف المساعدات الانسانية وفتح المعابر الحدودية. وفي حال تقدمت، حسب الخارجية الأمريكية، اجراءات بناء الثقة بصورة مأمولة، من الممكن تطوير محادثات هادئة حول وقف اطلاق النار الشامل في البلاد وإعادة تنشيط العملية السياسية نسبياً.
تبعاً لذلك، رسمت إدارة بايدن ملامح السياسة الجديدة في البلاد وفق ثلاث عوامل. الأول، أهمية بقاء القوات العسكرية الأمريكية في شمال وشرق سوريا، الثاني، ضرورة توفير الأموال وإيصال المساعدات الإنسانية إلى مناطق خارج نطاق نظام الأسد. الثالث، أهمية تحريك الجمود السياسي وفق القرارات الدولية المعنية بالنزاع السوري.
يد على الزناد
ولأن الدبلوماسية الأمريكية الناعمة فضلت خيار التفاوض مع كل من روسيا وطهران في بعض الملفات، إلا أنها ستحتفظ بأوراقها الاحتياطية ويدها على الزناد، وهي ترصد سلوك اللاعبين المنخرطين في الشأن السوري، مثل تمكين وجودها العسكري في شمال وشرق سوريا تحسباً لسيناريوهات انقلابية من قبل الأطراف المتنافسة. حيث أوضحت واشنطن صراحة أنها تنوي البقاء في سوريا، وكما أرسلت وفدًا رفيع المستوى للقاء قيادة قوات سوريا الديمقراطية لنقل قرارات السياسة الأمريكية، في إشارة إلى تفنيد تلك الرؤية السلبية التي تحاول إظهار العجز الأمريكي في الشرق الأوسط، وخاصة في ظل الانسحاب الامريكي من افغانستان قريباً وتحريك طهران المليشيات العسكرية المدعومة منها ضد المواقع الأمريكية في العراق.
لم تترد إدارة بايدن في اظهار الحزم ضد الخصوم فور تسليم السلطة، إذ أبدت البنتاغون استعداداها مواصلة الضربات الجوية ضد المليشيات الإيرانية ومطاردة بقايا الخلايا الإرهابية. وتشير آلية العمليات المنفذة ضد هذه الأهداف مؤخراً، حسب تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست، بأن إدارة بايدن قد غيرت سياستها في مواجهة تهديدات الميليشيات المدعومة من إيران من الرد إذا قُتل عسكري أمريكي في هجوم ما، إلى «الانتقام» إذا ما شنت تلك الميليشيات أي هجوم على القوات الأمريكية.
معطوف على ذلك، شكلت تصريحات وزير الخارجية الامريكي أنتوني بلينكن بعد قمة روما بخصوص شمال وشرق سوريا على جدية التزام واشنطن في حماية شركائهم في قوات سوريا الديمقراطية ضد تحديات محتملة. حيث شدد بلينكن العمل مع قوات سوريا الديمقراطية سواء على المستوى الأمني أو إعادة تحسين البنية التحتية في المناطق المحررة من تنظيم داعش. وعلى ما يبدو، لن تتساهل الإدارة الأمريكية حتى مع الطموحات التركية في شمال وشرق سوريا، وخاصة بعد أن اجهضت سقف آمال أردوغان الذي كان يمني النفس بالحصول على ضوء أخضر من لقائه مع بايدن في جنيف لشن حرب جديدة ضد شمال وشرق سوريا.
بالمقابل، تظهر واشنطن المرونة حيال تركيا في ملفات أخرى، وعلى وجه الخصوص في ملف المساعدات الإنسانية، لا سيما عقب زيارة السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، ليندا غرينفيلد، إلى تركيا وتوجهها صوب الحدود بين لواء اسكندرون وإدلب، وذلك خشية أن تتفاقم الأزمة الانسانية هناك وتظهر موجة جديدة من اللاجئين على حدود الاتحاد الاوروبي. كما تفصل واشنطن التواصل التركي مع الجانب الروسي في عملية آستانا عن صفقة صواريخ أس 400. حيث تحاول إدارة بايدن تسخير هذه العلاقة بغية تسليم المساعدات إلى المناطق التي تقع تحت النفوذ التركي بمعزل عن ملف الجماعات الإرهابية المنتشرة في إدلب مثل (هيئة تحرير الشام).
المساعدات الإنسانية
بعد عدة سنوات سعت خلالها إدارة ترامب إلى خفض الإنفاق على الدبلوماسية والمساعدات الدولية، تخطط إدارة بايدن إعادة الاستثمار في هذا الملف، بالأخص بعد انتشار وباء كورونا وتفاقم الأزمات الانسانية نتيجة الحروب القائمة في الشرق الأوسط. تعتبر إدارة بايدن ملف المساعدات الإنسانية من بين أولوياتها الثابتة على المستوى الدولي. وهذا ينطبق على سوريا بصورة كبيرة، حيث تُكثّف واشنطن جهودها الدبلوماسية لاستثمار الفترة المتبقيّة من اجتماع مجلس الأمن الخاص بتمديد عملية «المساعدات الدولية» عبر الحدود بهدف الحصول على الموافقة الروسية على زيادة عدد المعابر وعدم حصر «المساعدات» بمعبر حدودي واحد كما هو قائم حالياً.
وفي أكثر من المناسبة، شدد أنتوني بلينكن على أهمية المساعدات الانسانية، بحيث تكون من «صلب سياستنا الخارجية». وبرر بلينكن هذه الاستراتيجية حينما كان مستشار السياسية الخارجية في حملة بايدن الانتخابية حتى قبل أن يستلم حقيبة وزارة الخارجية، حيث اشار في إحدى مقابلته بأنه إذا لم تكن المساعدات الإنسانية تدخل إلى البلد، فذلك يجب أن يحصل، وأن الجهود الأمريكية في رفع أهمية المساعدات الانسانية في الملف السوري من «اولويات القصوى»، وأن تكون الصيغة الأساسية هي تقديم «المزيد من المساعدة للوصول المستمر».
وأعلنت الولايات المتحدة الأميركية في وقت سابق من هذا العام عن إعفاء العقوبات على أدوات ومعدات وأجهزة متعلقة بتشخيص وعلاج المصابين بجائحة كورونا في سوريا، وتقديم 436 مليون دولار مساعدات إضافية للنازحين واللاجئين في داخل سوريا والدول المجاورة. ومن المرجح أن ترتفع حصة المساعدات الأمريكية إلى الأمم المتحدة بصورة ملحوظة، والتي ستشمل بالضرورة المزيد من المساعدات المقدمة عبر دمشق. هذا الحل الوسط من شأنه كما يشير الخبراء أن يرضي بعض الرغبات الروسية، دون المساومة على الجهود الأمريكية في الشمال الشرقي والشمال الغربي من البلاد.
وتسعى إدارة بايدن بشتى الوسائل الممكنة إغراء روسيا لثنيها عن قرار” فيتو” جديد بخصوص رفع عدد المنافذ الحدودية. وفيما يبدو أن واشنطن لن تمانع في سبيل ذلك، حسب بعض التقارير الإعلامية، في دخول شركات روسية إلى الحقول النفطية في شمال وشرق البلاد بعد إلغاء الترخيص الممنوح لشركة “دلتا كريسنت انرجي”. بيد أن روسيا بدورها، تريد تحقيق أكبر قدر من المكاسب لمنح الموافقة على تجديد التفويض الدولي لإدخال المساعدات العابرة للحدود، سواء عبر تطبيق بنود اتفاقية سوتشي مع تركيا أو محاولة تدعيم نفوذها في شمال وشرق سوريا، علاوة على إظهار النظام السوري أمام المجتمع الدولي بأنه الجهة الشرعية الوحيدة في البلاد.
بالعموم، يشكل تأرجح واشنطن بين تنشيط الخيارات الدبلوماسية في الملف السوري وصيانة حضورها العسكري كخيار موازي، بمثابة مقاربة جديدة تدحض تلك المخاوف العميقة التي تشير بأن إدارة بايدن لن تعكس أكثر من استعادة السياسات الفاشلة المرتبطة بإدارة الرئيس باراك أوباما وترك انهيار البلاد ومعالجته على كاهل اللاعبين الدوليين المتنافسين. ونظراً إلى الاهتمام المكثف من قبل إدارة بايدن حيال الملف الإنساني بخلاف النظرة السلبية السائدة، ربما ستتضح خيارات إدارته بصورة متسقة عقب اجتماع مجلس الأمن في العاشر من هذا الشهر، والذي سيناقش مسألة تفويض المعابر الإنسانية.