الانسحاب الأمريكي.. وقائع وبدائل على الطاولة!

عبدالعزيز الشرفي

فاجئ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل أيام، العالم كله –وربما حتى أقرب مستشاريه ومساعديه- بإعلان نيته الانسحاب الكامل والسريع من سوريا، وهو ما ألقى بظلال من الشكوك والقلق في أنحاء العالم، كون المعركة مع تنظيم “داعش” الإرهابي لم تنته كما أعلن الرئيس الأمريكي، بل إن الفترة الحالية تتطلب المزيد من الجهود لمنع عناصر التنظيم الإرهابي من إعادة تنظيم أنفسهم ولم شتاتهم لإعادة الهجوم من جديد، وهو ما أشارت إليه فرنسا وبريطانيا وقوات سوريا الديمقراطية وعدد من نواب الكونغرس الأمريكي، وكذلك وزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس الذي أعلن استقالته ردا على قرار “ترامب”.

جدل في الداخل والخارج

لم تكن حالة الجدل المصاحبة للقرار من نصيب الولايات المتحدة وحلفائها فقط، بل إن خصوم “واشنطن” أنفسهم ربما أعربوا عن ارتياحهم للقرار، لكنهم تساءلوا عن أسبابه والدوافع من ورائه، وهو ما ظهر في تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال المؤتمر السنوي الذي انعقد قبل يومين، والذي قال فيه إن قرار الرئيس الأمريكي “صائب”، لكنه شكك في الوقت ذاته في القرار، مؤكدا أنه “لم ير أي أدلة تشير إلى هذا الانسحاب”. أما تركيا، التي كانت تنتظر القرار بفارغ الصبر لتنفيذ تهديدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشن هجوم على مناطق شمال وشرق سوريا، فقد أعربت أيضا على لسان “أردوغان” عن ترحيب “حذر” بالقرار الأمريكي، وكذلك أعلن “أردوغان” إرجاء الهجوم على مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية “ولكن ليس إلى أجل غير مسمى”.

يبدو أن الجدل لا يزال هو المسيطر على الأمور رغم مرور 4 أيام تقريبا على إعلان القرار الأمريكي، ورغم إعلان استقالة “ماتيس”، فإن الخلاف داخل الإدارة الأمريكية يبدو أنه يتفاقم يوما تلو الآخر، وهو ما أشارت إليه صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، التي نقلت عن مصادر بوزارة الدفاع الأمريكية، قولها إن “البنتاغون سيطرح عدة خيارات أمام الرئيس الأمريكي من بينها نشر فرق صغيرة من القوات الخاصة الأمريكية، تكون مسؤولة عن مواصلة التنسيق والعمل على مواجهة فلول (داعش) في سوريا، على أن يتم نقل مقر تمركز تلك القوات إلى العراق التي تستضيف ما يقرب من 5 آلاف جندي أمريكي، وتتولى تلك الفرق تنفيذ غارات محددة في مناطق بعينها في سوريا”. الصحيفة الأمريكية تشير أيضا إلى أن هناك رأي في “البنتاغون” يفضل استمرار الغارات الجوية الأمريكية على معاقل “داعش”، إضافة إلى إعادة دعم وإمداد القوات الكردية على الأرض دون أن يكون للجيش الأمريكي أي وجود حقيقي على الأرض ويتم الاكتفاء بالغارات الداعمة لـ”قوات سوريا الديمقراطية”.

في بيانه لإعلان انتهاء مهمة القوات الأمريكية في سوريا وإعلان النصر على “داعش”، أكد الرئيس الأمريكي أن المرحلة الأولى من عملية مكافحة التنظيم انتهت، وأنه حان الوقت لبدء المرحلة الثانية، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات حتى من قبل حلفاء الولايات المتحدة –وحتى روسيا- الذين أكدوا جميعا أنهم لا يعرفون عن أي مرحلة ثانية يتحدث “ترامب”، إلا أن “نيويورك تايمز” أشارت إلى أن القيادة المركزية الأمريكية كانت تخطط خلال الأشهر الأخيرة لنشر مجموعة من القوات الخاصة الأمريكية على الحدود العراقية، حتى يمكن إعادتها في أي وقت لتنفيذ مهمات معينة في سوريا، حين تقتضي الضرورة. وتشير الصحيفة أيضا، نقلا عن مصادرها، إلى أن “البنتاغون لا يزال يبحث السيناريوهات المحتملة لهذا الانسحاب، وما إذا كان سيستمر في الدفاع عن الحلفاء الأكراد ضد (داعش) فقط أم ضد أي هجمات من أي قوى أخرى”.

تراجع تركي “مؤقت”

من هنا، يمكن تفسير التراجع التركي “المحدود” عن فكرة شن هجوم فوري على مناطق شمال سوريا، حيث إن إدراك التاريخ الطويل للصراع بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني، يؤكد لا محالة أن تورط تركيا في قتال مع وحدات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا، قد يكون بمثابة تورط في حرب ممتدة لا نهاية لها مع وحدات قتالية تشبه “العصابات” في طريقة حربها، وهي حرب سيتفوق فيها أصحاب الأرض بكل تأكيد على الجيش التركي الذي لا يعرف المنطقة جيدا، خصوصا في ظل الخبرات الهائلة التي اكتسبتها وحدات حماية الشعب من القتال في مواجهة “داعش” تحت إشراف القوات الأمريكية على مدار السنوات الست الماضية. ويشير الباحث الأمريكي بمجلس العلاقات الخارجية ستيفن كوك، إن التراجع التركي بشكل مؤقت عن شن الهجوم على شمال سوريا، قد يكون مرتبطا بأن القرار الأمريكي بالانسحاب من سوريا يعني ضمنا أن الولايات المتحدة لن تكون موجودة لضمان ألا يتمدد الصراع بين الجيش التركي ووحدات حماية الشعب، إلى درجة تحوله إلى حرب مفتوحة لا نهاية لها، خصوصا وأن الأكراد قد يلجأون مباشرة إلى النظام السوري وروسيا لمواجهة العدوان التركي على الأراضي السورية.

قد يكون تحليل “كوك” هو الأقرب إلى الصواب لتفسير التراجع التركي “المحدود”، خصوصا إذا أخذنا بالاعتبار تصريحات وزير الخارجية السوري وليد المعلم، التي أدلى بها في جامعة “دمشق” ، والتي قال فيها إن “الدولة السورية مستعدة للحوار مع الكرد باعتبارهم جزء من النسيج السوري، والحكومة السورية مستعدة للحوار دائما لما فيه مصلحة الدولة”، حتى وإن كان قد أعلن رفض الحكومة السورية وجود كيانٍ كردي مستقل أو فيدرالي على الإطلاق، لكنها تصريحات سبق وأن أدلى بعكسها في لقاء سابق له بتاريخ 26 سبتمبر/أيلول الماضي مع قناة “روسيا اليوم” الروسية، حيث قال وقتها إن “الحكومة مستعدة للتفاوض مع الأكراد على مطلبهم الخاص بالحكم الذاتي في إطار حدود الدولة السورية ما إن تتحقق هزيمة داعش (…)، السوريون الأكراد يريدون شكلا من أشكال الإدارة الذاتية ضمن حدود الجمهورية العربية السورية، وهذا الموضوع قابل للتفاوض والحوار. ونحن عندما ننتهي من القضاء على داعش، يمكننا أن نجلس مع أبنائنا الأكراد ونتفاهم على صيغة للمستقبل”.

استراتيجية مواجهة إيران

لم يكن الجدل المصاحب لقرار “ترامب” محصورا على المخاوف المرتبطة باستعادة “داعش” قوته فقط، فقبل عدة أسابيع، أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن الولايات المتحدة باقية في سوريا إلى أن يتم تحجيم النفوذ الإيراني وخروج آخر جندي إيراني من الأراضي السورية، وهو ما أثار مخاوف دول الخليج على وجه الخصوص بسبب تنامي النفوذ الإيراني في سوريا، والاعتماد بشكل شبه كلي على الولايات المتحدة لمواجهة هذا النفوذ. في الثامن عشر من أبريل/نيسان الماضي، كشفت صحيفة “غارديان” البريطانية عن أن الولايات المتحدة تجري محادثات مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لنشر قوات خليجية في سوريا لتحل محل القوات الأمريكية بعد مغادرتها. وبحسب ما نقلته الصحيفة البريطانية عن مصادر بمجلس الأمن القومي الأمريكي، فإن “مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون، دعا مصر أيضا للمشاركة ولعب دور بارز في بناء قوة عسكرية يتم نشرها في الشمال السوري بدلا من القوات الأمريكية”.

في 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يتخذ من بريطانيا مقرا له، عن نشر قوة عسكرية ضخمة تتكون من قوات عدة دول عربية في شمال سوريا، وتحديدا في محافظة “دير الزور”، بدعم من الولايات المتحدة. ولفتت إذاعة “فويس أوف آمريكا” إلى أنه على الرغم من أن قيادة قوات سوريا الديمقراطية رفضت التعليق على تلك التقارير آنذاك، إلا أن “قسد” رحبت من قبل بفكرة وجود قوات عربية في المناطق الخاضعة لسيطرتها.

سوريا.. ومحيطها العربي

لم يكد يمر شهر على كشف المرصد السوري وجود قوة عربية في شمال سوريا، حتى جاءت زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى سوريا بشكل مفاجئ، وهي الزيارة التي أعلن مساعد الرئيس السوداني فيصل حسن إبراهيم، أنها تأتي في إطار “مواصلة مبادرات جمع الصف العربي وتجاوز الأزمة السورية”، وعلى الرغم من أن “إبراهيم” وصفها بأنها “تحرك سوري خالص”، فإن مصادر عربية متعددة أشارت إلى ترتيبات ومناقشات وجهود حثيثة على مدار الفترة الأخيرة، لبحث الوضع القانوني لإعادة تفعيل عضوية سوريا في جامعة الدول العربية من خلال حضور ممثل عنها المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي الذي ينعقد في الشهر المقبل في “بيروت”، ومن ثم حضورها بعضوية كاملة في القمة العربية التي تنعقد في شهر مارس/آذار المقبل في العاصمة التونسية.

قد تكون ملامح الترتيبات والتفاهمات التي تجري بشأن الوضع في سوريا، ومن ثم في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، لا تزال غامضة كونها لا تزال في طور الإعداد، ولكن المؤكد هو أن تخلي الولايات المتحدة عن المبدأ الجيوسياسي الرئيسي لسياساتها في الشرق الأوسط: “أينما تنشر الولايات المتحدة قواتها، فإنها باقية حتى تحصل على كل ما تريده”، لن يكون تخليا دون مقابل يرضى عنه الرئيس الأمريكي الذي يتصرف وفقا للمصالح المادية وليست السياسية، وهو ما يترك العالم أمام سؤال تجيب عنه الأسابيع القليلة الماضية: “هل ينجح الرئيس الأمريكي في عقد صفقة تضمن الترتيبات التي عملت من أجلها الولايات المتحدة على مدار السنوات الأربع الماضية في سوريا؟ أم أن البنتاغون سينتصر على الرئيس الأمريكي وسيواصل العمل في سوريا بشكل أو بآخر؟”.

—–

*عبدالعزيز الشرفي: كاتب صحفي مصري، يعمل رئيسا لقسم الشؤون الخارجية والدبلوماسية بجريدة “الوطن” المصرية. زار “روج آفا” قبيل أيام من إعلان تحرير “الرقة” من تنظيم “داعش” الإرهابي، وأجرى عددا من اللقاءات مع مسؤولي “روج آفا” لتحليل الأوضاع في سوريا ومستقبل الأزمة السورية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد