د. سيفة إيزورلي
لم يستطع المجلس الأعلى للانتخابات الصمود أمام الضغوط التي مورست عليه من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فأعلن في السادس من شهر مايو/آيار لهذا العام، إلغاء الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس/آذار، والتي فاز بها مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو، بفضل أصوات الناخبين الكرد.. هذه الأصوات مكنته في الحقيقة من هزيمة حزب العدالة والتنمية الذي يسيطر على بلدية إسطنبول منذ الانتخابات المحلية في مارس/آذار 1994. وقد تم إقرار إعادة هذه الانتخابات في 23 يونيو/حزيران 2019.
إن السياسة الخاطئة التي مارستها السلطات التركية، خاصة في التسعينيات بعد ازدياد نفوذ حزب العمال الكردستاني، وقيامها بحرق وإفراغ الآلاف من القرى الكردية وتهجير سكانها، بالإضافة إلى تهميش وإفقار المناطق الكردية الأخرى، انقلبت عليها، إذ أن الوضع المتردي لـ”كردستان الشمالية” شكل إحدى الأسباب الرئيسة التي قادت الاتحاد الأوروبي لرفض انضمام تركيا إليه، بمبرر أن قسما كبيرا من جنوب شرق تركيا، والتي لا تقع جغرافياً ضمن القارة الاوربية، تعاني من فقر وجهل كبير يستلزم أموالا طائلة للنهوض بها إلى الحد المقر به وفق معايير “كوبنهاغن”، وهو ما لم يكن الاتحاد الأوربي مستعدا للقيام به، خاصة من أجل تركيا “البلد المسلم”.
اتبع “أردوغان” نفس السياسة ابتداء من عام 2016 لقمع ما سُمي بـ”ثورة الخنادق”، فقام الجيش التركي بتهجير مئات الآلاف من المواطنين الأكراد من مدن “شرنخ، جزرة، نصيبين، سور، دياربكر”، وغيرها. انضم المهجرون الكرد الجدد إلى قوافل المهجرين السابقين ليستوطنوا في “المتروبول”، وخاصة في إسطنبول، تحت أنظار الرئيس التركي رجب أردوغان المفعم بنشوة النصر لنجاح خطة التغيير الديموغرافي المستلهمة من الممارسات التاريخية للإمبراطورية العثمانية، لكنه كان بعيدا عن تصور أن هذا التغيير الديموغرافي لن يقتصر على المناطق الكردية، بل سيطأ إسطنبول نفسها ويؤدي إلى تغيير المعايير السياسية في عقر داره، فأصبحت إسطنبول أكبر مدينة كردية. بكلمة أخرى، انقلب السحر على الساحرن وبات مصير “أردوغان” في أيدي ناخبي حزب الشعوب الديموقراطي.
لا يقتصر الأمر فقط على ربح أو خسارة بلدية “إسطنبول” التي شهدت ميلاد “أردوغان” السياسي، والبالغ تعدادها أكثر من 16 مليون نسمة (بينهم ما لا يقل عن 6 ملايين كردي، خاصة بعد حملة تهجير عام 2016)، إذ أن خلف العامل السياسي، تكمن عوامل اقتصادية ومالية وضريبية ضخمة، بالإضافة إلى العوامل التاريخية والإيديولوجية.
بلدية “إسطنبول” تملك 51% من رؤوس أموال أكبر 30 شركة خاصة تنشط داخلها، وتحتكر مناقصات كل الأشغال والمشاريع العامة التي تقوم بها البلدية منذ 1994. ولا تزال أرباح هذه الشركات التي لها وضع قانوني غير واضح البتة، تفوق ميزانية البلدية نفسها، إذ بلغت عام 2018 ما يقارب الـ20 مليار ليرة تركية. هذه الأرباح وغيرها من الأموال التي تغمر السوق الإسطنبولية، ما هي إلا ثمرة صفقات مشبوهة وعقود قائمة على سياسة التفضيل غير الشرعي والتلاعب بالأموال العامة لصالح الحزب الحاكم. لهذا، فإن الرئيس التركي أردوغان يضع كل ثقله في الانتخابات البلدية، خشية أن يخسر إسطنبول وأن يتم إفشاء أسرار خطيرة يمكن أن تؤدي إلى الإطاحة به، دون انتظار انتخابات 2023.
من جانب آخر، فإن “إسطنبول” لها أهمية رمزية كبيرة، فهي المدينة التي مكنت “أردوغان” من بدء مسيرته السياسية اعتبارا من 5 ديسمبر/كانون الأول 1998، ومن ترسيخ أسس حركته القائمة على الإسلام السياسي. هذه الحركة نفسها أعلنت في مارس/آذار 1994 عندما فاز حزب الرفاه بالانتخابات البلدية في مدينة إسطنبول: “ها هم الأتراك المسلمون الذين حرروا القسطنطينية من البيزنطيين عام 1453 يعودون إليها.. من الآن فصاعدا ستبقى هذه الأرض تركية ما دام الكون قائما”. وقد أعاد رئيس حزب الحركة القومية اليميني المتطرف دولت بخجلي، مؤخرا، التعبير عن هذه المقولة في تظاهرة انتخابية في منتصف مارس/آذار 2019، قائلا: “إذا سقطت إسطنبول، تركيا بكاملها ستسقط”.
وقد سقطت “إسطنبول” بأصوات الناخبين الكرد وبأصوات حزب الشعوب الديموقراطي. ويبدو أن هذه الرسالة قد وصلت إلى “السلطان” فأدرك أن “يداه أوكتا وفوه نفخ”. وهو يحاول الآن شراء أصوات الكرد برفع العزلة عن السيد عبدالله أوجلان والسماح لمحامييه بلقائه بعد 8 سنوات من الحظر. هذا الحظر الذي لم يتم رفعه رغم إدانة المحكمة الأوروبية لحقوق الأنسان في عدة قرارات لها وإقرارها بمخالفة شروط سجنه للحقوق المنصوص عنها في الإعلان الأوروبي لحقوق الإنسان. كذلك، فإن “أردوغان” لم يعر أي اهتمام للنداءات التي وجهتها إليه العديد من دول الاتحاد الأوروبي والمنظمات الحقوقية والإنسانية، مطالبة بفك العزلة عن السيد “أوجلان” إثر الأضراب عن الطعام المستمر منذ 200 يوم، والذي يشارك به 3 آلاف شخص بينهم 3 نواب برلمانيون على رأسهم السيدة ليلى كوفن ومئات المعتقلين السياسيين الآخرين.
إن الثمن الذي يقترحه “أردوغان” لاستعادة “إسطنبول”، ثمن بخس جدا في ظل الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب الكردي، دون أن ينال من “أردوغان” حتى مجرد الاعتراف بحق التعلم باللغة الأم لأكثر من 20 مليون كردي تركي. بات العنان اليوم في يد حزب الشعوب الديموقراطي، فهو الوحيد القادر على ترجيح كفة الميزان سواء في كفة حزب “العدالة والتنمية” أو كفة “حزب الشعب الجمهوري”. وكلاهما سواسية في إنكارهم لحقوق الشعب الكردي وكراهيتهم له وتحريض الشعب التركي على التنكيل به، بأوامر زعيم حزب العدالة والتنمية بعد تحالفه مع حزب الحركة القومية الشوفيني. إن انتصار أكرم إمام أوغلو مرشح حزب الشعب الجمهوري في هذه الانتخابات لن يشكل وبدون أي شك مربحا للكرد، لأن هذا الحزب الكمالي الأتاتوركي بالإضافة لفشله في أن يكون بديلا سياسيا لحزب العدالة والتنمية على المستوى العام، لم يناصر يوما حقوق الكرد وإنما العكس تماما. ولكن انتصار حزب العدالة والتنمية في سياسته الحالية سيشكل بالنسبة لهم خسارة أفدح.
الكرد، رغم أنهم اليوم الطرف الذي يمسك بزمام القوة، إلا أنه من الممكن أن يتحولوا الى الخاسر الأكبر، إذا لم يستغلوا هذه الفرصة الذهبية بعقلانية وحنكة سياسية تمكنهم من المطالبة بحقوقهم دون تصلب ودون تخاذل. “أردوغان” لن يفرط بـ”إسطنبول” لأن سقوطها يعني سقوط إمبراطوريته. ولأن إنقاذها يعني إنقاذ تركيا من الوضع السيء الذي آلت إليه سياسيا واقتصاديا ودوليا. ولهذا، فعليه أن يدفع الثمن المناسب لكسب أصوات الكرد. هذا الثمن لا بد من أن يكون وعدا قاطعا وصريحا بالعودة إلى طاولة المفاوضات بدون أي شروط مسبقة، وإطلاق سراح السيد عبدالله أوجلان وكل المعتقلين السياسيين وفق عفو عام وشامل، كخطوة مبدئية لوقف حملة الاضطهاد والتنكيل بحق الشعب الكردي والاعتراف له بحقوقه الشرعية ضمن وحدة وسلامة أراضي الدولة التركية.