القوى الناعمة الروسية.. نجاح كبير في الشرق الأوسط يهدد النفوذ الأمريكي

شاي آتياس* | معهد “بيجن-السادات” لأبحاث السلام

بدأت جهود القوة الناعمة الروسية في الشرق الأوسط تؤتي ثمارها، حيث ينظر الكثير من الشباب العربي الآن إلى “موسكو” على أنها حليف موثوق، بينما الولايات المتحدة لم تعد حليفا موثوقا ولا يمكن الاعتماد عليها. وترغب روسيا في بناء المزيد من العلاقات مع العالم الإسلامي، وترى أن ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرصة في هذا الصدد، وينطلق هذا الطموح إلى حد ما أيضا من التهديد الجهادي الإسلامي في المناطق الروسية، وبالطبع الإرث المؤلم للحرب في أفغانستان.

منذ بعض الوقت، تسعى روسيا جاهدة إلى ترسيخ نفسها كقوة عظمى خارجية بارزة في الشرق الأوسط. ومن خلال تدخلها العسكري في الصراع السوري وشراكتها العميقة مع إيران ضد الولايات المتحدة، اكتسبت علاقاتها مع الدول المجاورة زخماً جديداً. في عام 2019، تجمع كل من “طالبان” وروسيا ودعوا إلى انسحاب قوات التحالف الأمريكية من أفغانستان. انعقدت اجتماعات في “موسكو” بعد فشل المفاوضات المباشرة بين الولايات المتحدة وحركة “طالبان”، صحيح أنه لم يتم تنظيمها من قبل دبلوماسيين روس رسميين ولكن من قبل منظمة تدعى “الشتات الأفغاني” في روسيا، ولكن هذا الحدث، على الرغم من أنه غير رسمي، شمل كل من المواطنين الأفغان والمواطنين الأفغان في الشتات، وبالتالي كان تعبيرًا مهمًا عن القوة الناعمة الروسية داخل المنطقة (على الرغم من أنه عندما سئل عن انخراط (بوتين) في تلك المحادثات، قال أحد المنظمين إن الدبلوماسيين الروس “قدموا الدعم الفني فقط”)، وقد تضمن ذلك الحدث حضور ممثلين عن جميع قادة “طالبان” والسياسيين الرئيسيين في أفغانستان، بما في ذلك أقوى قادة البلاد، ويعتبر ناجحًا.

إذا لم يكن وقوع هذا الحدث بحد ذاته كافياً لإظهار التراجع في القيادة الإقليمية لـ”واشنطن”، فقد هاجمت طالبان الأهداف الأمريكية بينما كانت تلك المحادثات مستمرة. والآن، من حيث جميع النوايا والمقاصد، يُنظر إلى روسيا -وليس الولايات المتحدة- على أنها “شرطي آمر” يلجأ إليه الجميع فيما يتعلق بجهود أفغانستان لبناء مستقبل جديد.

تبدو إطاحة الولايات المتحدة بحكم حركة “طالبان” في عام 2001 لإيوائها تنظيم “القاعدة” بعيدة للغاية. اليوم، تعد “طالبان” ممثلاً دبلوماسياً شبه شرعي بالكامل يسيطر على أكثر من نصف البلاد، بينما يتسبب في خسائر فادحة للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والقوات المسلحة الأفغانية. ووفقًا لما قاله وزير الخارجية الروسي: “روسيا مقتنعة بأن النزاع في أفغانستان ليس له حل عسكري. الطريقة الوحيدة الممكنة لتحقيق السلام هي من خلال الوسائل الدبلوماسية”.

تعد مشاركة “موسكو” الحالية مع “طالبان” وسوريا وإيران وإسرائيل استراتيجية كبرى حقيقية. وفي حين أن هذه الاستراتيجية ليست في قالب القوة الناعمة السلمية الذي وضعه جوزيف ناي، فإن روسيا تعمل على تطوير نموذج أولي جديد للقوة الناعمة الدبلوماسية، مع بعض النجاح.

لم تنجح “موسكو” أبدًا في استعادة مستوى التأثير الذي كانت تتمتع به قبل انهيار الاتحاد السوفيتي. ولكن “بوتين” يبذل قصارى جهده لتغيير هذا الأمر، وإلى حد كبير من خلال القوة الناعمة. ازداد عدد مشاريع الدبلوماسية العامة لتعزيز صورة روسيا العالمية في السياسة والرياضة والثقافة والاقتصاد والعلوم بشكل كبير. وفي الوقت نفسه، يعمل التراجع في مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على تعزيز مكانة روسيا كوسيط سلام إقليمي. لقد وضع “بوتين” روسيا في موقع إقليمي بارز من خلال أداة القوة الصلبة الكلاسيكية للقتال في سوريا، وفي الوقت نفسه يتحدث عن “السلام” مع “طالبان” الذين ما زالوا يقتلون الأمريكيين.

هذا ليس نجاحا عشوائيا، ففي وقت مبكر من عام 2012، كان “بوتين” يناقش بشكل علني “روسيا والعالم المتغير”. ووفقًا لتعريفه، يمكن فهم القوة الناعمة الروسية على أنها معارضة لسلبيات البلاد، وقد كان واضحًا جدًا بشأن أهداف القوة الناعمة لـ”موسكو”، حيث قال:

  • لدى روسيا فرصة ليس فقط للحفاظ على ثقافتها ولكن لاستخدامها كقوة قوية للتقدم في الأسواق الدولية. يتم التحدث باللغة الروسية في جميع الجمهوريات السوفيتية السابقة تقريبًا وفي جزء كبير من أوروبا الشرقية. هذا لا يتعلق بالإمبراطورية، بل بالتقدم الثقافي. سيساعد تصدير التعليم والثقافة في الترويج للسلع والخدمات والأفكار الروسية؛ أما البنادق وفرض الأنظمة السياسية لن يفعلوا ذلك لنا. يجب أن نعمل على توسيع وجود روسيا التعليمي والثقافي في العالم، وخاصة في البلدان التي يتحدث فيها جزء كبير من السكان اللغة الروسية أو يفهمونها.

تعد الجهود الدبلوماسية تجاه “طالبان” مجرد مثال على المحاولة الروسية لتحويل نفسها إلى قوة عظمى ناعمة حديثة. وقد قامت روسيا أيضًا ببناء القناة الإعلامية الدوليةRT ، المعروفة سابقًا باسم “روسيا اليوم”. وتعمل هذه القناة بجد على خدمتها العربية ، حتى باتت واحدة من أكبر شبكات التلفزيون في المنطقة (إلى جانب الجزيرة). تقوم “آر تي”، التي تسميها الولايات المتحدة “بوق بوتين الدعائي”، بعمل رائع في دفع المنظور الروسي في المنطقة. الأرقام لا تكذب، حيث هناك 6.3 مليون مستخدم شهريًا في 6 دول ناطقة باللغة العربية: مصر والمغرب والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والعراق والأردن، يتابعون هذه القناة.

كان هناك جهد آخر مثير للإعجاب يتمثل في إنشاء وكالة التنمية الروسية Rossotrudnichestvo Agency، وهي النسخة الروسية من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وتعمل تلك الوكالة الروسية على إدارة المراكز الروسية للعلوم والثقافة (RCSC) في الأردن ولبنان وسوريا ومصر والمغرب وتونس والأراضي الفلسطينية.

إن طموح روسيا في أن تصبح “وسيطًا فائق القوة الإقليمية” قد بدأ يؤتي ثماره، بدءًا من كابول إلى الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل إلى ليبيا ودول الخليج، ولم تعد روسيا مجرد موقع للأحداث الرياضية الضخمة مثل أولمبياد “سوتشي” وكأس العالم لكرة القدم.

وإذا كانت هناك في الواقع معركة قوة ناعمة بين روسيا والولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فإن معظم المعايير تشير إلى أن “موسكو” لديها الزخم الأكبر. وقد أظهر استطلاعان إقليميان حديثان أن الشباب العربي (الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا) ينظرون بشكل متزايد إلى روسيا كحليف موثوق، في حين أن ينظرون إلى الولايات المتحدة الأمريكية كحليف غير موثوق به أو أسوأ. وانخفضت نسبة الشباب العرب الذين يرون الولايات المتحدة كحليف من 63٪ في عام 2016 إلى 35٪ في العام الماضي. ويُنظر إلى روسيا على نحو متزايد على أنها الحليف الأول غير العربي من قبل الشباب في الشرق الأوسط، حيث يرى 20٪ أنها أفضل صديق في المنطقة خارج منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وإذا كان “ترامب” لا يزال يعتقد أن الولايات المتحدة يجب أن تكون الحاكم الأول للعالم، فسيتعين عليه مواجهة قوة “بوتين” الناعمة، وإلا ستجد “واشنطن” نفسها تتعقب نجاحات روسيا الدبلوماسية في المنطقة.

—–

*شاي آتياس: الرئيس المؤسس لقسم الدبلوماسية العامة بديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي في الفترة ما بين 2009 إلى 2013. حاصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة “بار إيلان” الإسرائيلية، ويعمل محاضرا بكلية العلاقات والإعلام بالجامعة ذاتها.

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد