الجغرافية تستخدم أولا للقيام بالحرب

إيف لاكوست

كتاب للجغرافي الفرنسي ” إيف لاكوست”، صدر للمرة الأولى عام 1976، وصدر في طبعته الثانية عام 2012. يميز “ييف لاكوست” بين نوعين من الجغرافية: جغرافية يسميها جغرافية ” الضباط” وظهرت منذ ظهور جهاز الدولة، من أيام هيرودوت، وجغرافية “الأساتذة/المعلمين” التي ولدت في القرن التاسع عشر مع الألماني [ألكسندر فون هومبولدت].أكثر من حرب، تستهدف “جغرافية الضباط” للحرب والسيطرة على إقليم وسكانه.

ما يطرحه [لاكوست] ليست مبتكرا أو جديدا، فهو يستحضر كلام الضابط والمنظر [كارل فون كلاوزفيتز] والذي كتب في مؤلفه الشهير ” في الحرب” عام 1832:” الإقليم مع مساحته وسكانه ليس فقط مصدرا لكل قوة عسكرية، وإنما هو جزء لا ينفصل عن العوامل المؤثرة على الحرب، هو كذلك لأنه يشكل مسرحا للعمليات”. من جهة أخرى، يستند [لاكوست] على تجربته الخاصة لتوضيح وجهة نظره. فقد قام في شهر تموز عام 1972، في فيتنام الشمالية، بمسح أو تحقيق حول قصف الطيران الأمريكي لسدود “النهر الأحمر”.

وفق الدراسة، كان الهدف هو إحداث فيضانات وتجفيف الأنهار والآبار باستخدام وسائل مختلفة، والقتل المباشر للمقاتلين الفيتناميين، وتجميع السكان الذي سيسهل من الأعمال الهجومية للجيش الأمريكي. لقد بنى رئيس الأركان الأمريكي منطقا جغرافيا حقيقيا في استراتيجيته العسكرية. هنا نرى أن الجغرافية تخدم في الحرب. لكن الجغرافية تخدم أيضا في غزو أرض والبقاء فيها كقوة مهيمنة، وهنا تلعب الخرائط دورا مركزيا، والدولة هي واحد من الفاعلين النادرين الذين لديهم الوسائل والتقنيات الكافية لإنشاء هذه الخرائط وتحديثها. ” في الكثير من دول العالم الثالث، تم حظر بيع الخرائط على نطاق واسع في اللحظة التي وصلت فيها التوترات الاجتماعية إلى خط معين”، على العكس من ذلك ” فإن الحركة الحرة للخرائط في البلدان الليبرالية هي نتيجة طبيعية لوجود عدد قليل من أولئك الذين ينخرطون ضد السلطة القائمة في إجراءات أو عمليات غير متفق عليها في نظام ديمقراطي”. [ص 79 ـ 80 من كتاب لاكوست].

باختصار، المعرفة الجغرافية هي في أيدي النخبة السياسية، العسكرية والاقتصادية والتي تستخدمها بشكل تعسفي. جغرافية ” الأساتذة”: وهي ميدان مدرسي وجامعي تم استغلاله لصالح جغرافية “الضباط”.” لاكوست”، مؤكدا الجدل من جديد حول مؤلفه، لا يمضغ كلامه عندما يتعلق الأمر بالحديث عن جغرافية الأساتذة. فهذه الأخيرة تخدم السلطة بشكل مباشر عندما تحرض على التفكير بأن الجغرافية هي معرفة غير مؤذية. كتب لاكوست:” إن الوظيفة الإيديولوجية الأساسية لخطاب الجغرافية المدرسية والجامعية كانت في إخفاء، ومن خلال أساليب غير واضحة، الفائدة والأهمية العملية في تحليل الفضاءات لاسيما فيما يتعلق بقيام الحروب وأيضا في تنظيم الدولة وممارسة السلطة”. [الصفحة 59].إن الدور الاجتماعي للأساتذة الأكاديميين أقل وضوحا في هذه العملية لأنه لا يتعلق بملايين الناس بشكل مباشر، وهو على عكس دور الجغرافية المدرسية. في فرنسا، للجامعة دور ومسؤولية تاريخية، لاسيما من خلال مؤسس المدرسة الجغرافية الفرنسية ” Paul Vidal de la Blache”. ينتقد لاكوست، بشكل خاص، ” المفهوم ـ العقبة” للإقليم الذي قدمه Blache:” إن هيبة التقسيم الذي قدمه Blache حققت أقاليمها كما رسمها وحددها، واعتبرت كتكوينات مكانية وحيدة ممكنة، لاسيما ادعاؤها ” امتلاك” جميع العوامل الجغرافية. يفرض هذا الوصف شكلا واحدا في تقسيم المكان الجغرافي وهذا لا يتناسب إطلاقا مع الخصائص المكانية للعديد من الظواهر الحضرية، الصناعية، السياسية…” [ ص 112]. يسعى، أو يعمل لاكوست في كتابه على ” إعادة تأهيل”Paul Vidal de la Blache. وفي مقاله الصادر عام 1976 في مجلة هيرودوت العدد 16 تحت عنوان ” يسقط فيدال، يعيش فيدال” يقدم لاكوست مؤلفا غير معروف لمؤسس الجغرافية الفرنسية. يصنف كتاب “شرق فرنسا” : [ككتاب مؤسس لجغرافية قريبة من الجيوبولتيك”. بالإضافة لذلك، وبعيدا عن التعتيم على الجانب الاستراتيجي للمعرفة الجغرافية، فإن الجغرافية المدرسية يمكن أن تخدم الاستراتيجية بشكل مباشر. المدرسة الجغرافية الألمانية [وعلى رأسها ألكسندر فون هومبولدت]، ساندت تاريخيا الأهداف السياسية والعسكرية لرئاسة الأركان البروسية وهي لا تخفي ذلك. بعد مؤتمر فيينا، بدأ عمل القادة البروسيين على وحدة ألمانية. بعيدا عن تمييز معيار للتعريف من خلال اللغة، فقد وضع هؤلاء معيارا هو الجغرافية: مناجم الفحم وسهول أوربا الشمالية الكبيرة هي لألمانيا، والتضاريس الجبلية للنمسا. وبعد انتصار بروسيا على النمسا عام 1866 ثم على فرنسا 1871 حتى اعترف بالمناطق الناطقة بالألمانية كمعزز للوحدة. ضمن هذا النوع من تحويل الجغرافية لأداة، فإن الجغرافية المدرسية الفرنسية ليست استثناء. حيث أن هزيمة Sedan[ وهي المعركة بين الجيش الفرنسي والبروسي، الفرنسي بقيادة نابليون الثالث والبروسية بقيادة Kaiser] قادت النخب للاهتمام بالمزايا السياسية للجغرافية المدرسية الموجه.

ما هي الحلول المقدمة للأزمة عبر ميدان الجغرافية؟بشكل عام، قدم لاكوست عام 1976 حلولا في ثلاثة محاور: إدخال العنصر السياسي تدريجيا في المنطق الجغرافي المدرسي، تعزيز التبادل والحوار داخل الجغرافية الجامعية، دمقرطة جغرافية “الضباط”. هذه الحلول المقدمة هي محاولة للاستجابة للرغبة المعلنة من وسط مهتم جدا: إنه الوسط الطلابي. ففي وجود كل هذا التقدم الإعلامي الذي يزودنا بالمعلومات، لن يكتفي الطلاب بمعرفة جغرافية قادمة من هذه الوسائل ويعتبرونها غير مفيدة. الاستنتاج واضح:” إن الأوضاع الحالية جاءت من تعاقب للأحداث قادم من جميع أنحاء العالم، واستحضارها يرغم على وضعها داخل البلد الذي جاءت منه أو حدثت فيه، ولكن أيضا ضمن سلسلة أكثر أو أقل تعقيدا من العلاقات السببية، والتي هي في الوقع المنطق الجيوبولتيكي أو الجيوسياسي”.إن ما يحصل اليوم في العالم يزيد من الاهتمام ويحدد الصعوبات الكبيرة التي يقابلها أساتذة الجغرافية.

وبعد ثلاثين عاما يعتقد لاكوست أن تقدما أصاب هذا الميدان ولكنه يأسف لاستبعاد قضايا معينة من الجغرافية المدرسية لاسيما فيما يتعلق بالهجرة. فيما يتعلق بالجغرافية الجامعية، فإن لاكوست تأسف كثيرا على الأهمية الضعيفة التي يوليها الجغرافيون للأبستمولوجيا في هذا المجال. يستند لاكوست في كتابه، أيضا، على الجغرافية الماركسية:” من المؤكد أنه لا لزوم للإشارة إلى أهمية التحولات التي أحدثتها الماركسية في التاريخ، الاقتصاد السياسي وفي العلوم الاجتماعية الأخرى”. لم تحمل الماركسية إلينا، فقط، إشكالية وأدوات مفاهيمية، بل أيضا “وضحت إلى حد بعيد معيار التطور لهذا الجدل الابستمولوجي/المعرفي ولهذه اليقظة فيما يتعلق بأعمال المؤرخين والاقتصاديين، حتى الآن لم يحدث شيء من هذا القبيل للجغرافيا”.[ الصفحة 149]. إن الانقسام بين المتخصصين في الجغرافية والذي تشجعه التطورات الجغرافية الجديدة والدراسات الجغرافية هو أيضا موضوع تجب الإشارة إليه.

” نسبة قليلة جدا من الأعمال الجغرافية التطبيقية أخذت طريقها للنشر. أيضا معظم الجغرافييين الذين يعملون في ميدان الجغرافية التطبيقية يجهلون بعضهم، والأكثر سوءا أنهم لا يستطيعون تبادل نتائج أبحاثهم ومقارنة مناهجهم المتبعة”. [الصفحة 172].إن الباحثين مقيدون بشروط وعقود البحث، حيث وقعوا في الكثير من الأحيان على سرية أبحاثهم. هذه السرية البحثية ترتبط بشكل غير مباشر بمسألة دمقرطة جغرافية “الضباط”.

” من الخطير، ومن أجل تطوير مجتمع ديمقراطي، أن تكون أقلية فقط في السلطة هي التي تعرف التحولات المتعددة التي تصيب أو تحدث في الأقاليم الجغرافية وكيف يمكننا التدخل في هذه التحولات والتغيرات”. [الصفحة 175]. إذن، نحن إذا تحدثنا هنا ننادي أخلاق الباحثين، فعلى الجغرافي ألا يعتبر بحثه كهدف وحيد بحد ذاته، ولكن أيضا استخدامه الذي سيتم عبر المستفيدين منه.

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد