سونر چاغاپتاي
إذا أسفرت الاضطرابات في العراق عن أي حصيلةٍ جيدة فهي تحسين العلاقات بين تركيا وأكراد المنطقة. لقد كان الأكراد ألد أعداء تركيا حتى فترة ليست ببعيدة. فلم تستطع أنقرة قط تقبّل فكرة الحكم الذاتي للأكراد -في العراق أو سوريا أو تركيا- ورفضت عموماً الإذعان لمطالب الأكراد الأتراك بحقوقهم الثقافية بل آثرت قمعهم عوضاً عن ذلك. وفي المقابل لم يتمكن أكراد المنطقة مطلقاً من تقبّل الحكم العراقي أو السوري أو التركي، ومن منطلق اعتراضهم على معاملتهم من قبل أنقرة داخل حدود تركيا، قدّم الأكراد دعمهم لحركة انفصالية عنيفة في تركيا، هي «حزب العمال الكردستاني».
إلا أن الحرب الأهلية السورية والتطورات العراقية بدأت تغيّر الصورة بكاملها. فمن وجهة نظر تركية، لم يعد الحكم الذاتي للأكراد هذه الأيام سيئاً إلى درجة كبيرة. فالمناطق في شمال العراق وسوريا الواقعة تحت السيطرة الكردية تنعم بالاستقرار والسلام لتشكل بذلك حصناً مثالياً ضد التهديدات كتلك الناشئة عن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» [«داعش»]. ولهذا السبب تنتهج تركيا السلوك الحسن مع الأكراد العراقيين وتعمل على تسوية علاقاتها مع الأكراد السوريين وربما تفضّ في النهاية المأزق الذي وصلت إليه مع الأكراد على أرضها. ومع أن ذلك ليس بالمهمة السهلة، إلا أن الأقدار قد تصب في مصلحة محورٍ تركي- كردي.
الرجوع إلى ما حدث في العراق
بدأت العلاقات بين تركيا وأكراد العراق بالتحسن في أعقاب الحرب العراقية مباشرةً حين لجأ الأكراد العراقيين إلى أنقرة للتصدي إلى الجذب المركزي من قبل بغداد. إلا أن أمل الأكراد خاب حين بقي العراق بعد حكم صدام حسين بلداً عربياً حتى الصميم؛ وكل ما حصل هو انتقال السلطة من العرب السنة إلى العرب الشيعة. وأخذ الأكراد العراقيون في تلك الأيام يقدّمون المساعدة إلى تركيا في حربها ضد «حزب العمال الكردستاني» كما فتحوا الأسواق في “إقليم كردستان العراق” أمام الصادرات والشركات التركية. وبادلتهم تركيا بالمثل فأرسلت التجار وشركات الطيران والسلع الاستهلاكية إلى المنطقة. وفي الآونة الأخيرة، بدأ أكراد العراق يبيعون نفطهم عبر تركيا فتخطوا بذلك بغداد ومنحوا أنقرة هديةً ضخمة تتمثل برسوم العبور والإيرادات الضريبية فضلاً عن تعزيزهم مسعى تركيا بأن تصبح مركز إقليمي للطاقة.
وفي الواقع أن زحف «داعش» في العراق – ويشمل ذلك الهجوم على القنصلية التركية في الموصل في 11 حزيران/يونيو، الذي احتجَزت خلاله الجماعة دبلوماسيين ومسؤولين أمنيين أتراك كرهائن – قد شدد الحاجة الملحة إلى تحسين العلاقات بين تركيا وأكراد العراق. كما أنه دفع تركيا إلى التراجع عن بعض الخطوط الحمراء الواضحة التي كانت قد وضعتها سابقاً في علاقتها مع الأكراد؛ ففي عام 2005 كانت تركيا قد هددت باللجوء إلى العمل العسكري إذا ما احتل الأكراد مدينة كركوك الغنية بالنفط في شمال العراق. فاحتياطي النفط في تلك المدينة كان ليمنح “حكومة إقليم كردستان” مدخولاً مستقلاً (وتعتمد “حكومة إقليم كردستان” على بغداد في التحويلات المالية التي تحصل عليها)، الأمر الذي من شأنه أن يشكل الخطوة الأولى نحو السيادة التامة. ولكن في الثاني عشر من حزيران/يونيو حين تحركت القوات الكردية لاحتلال كركوك، لم تنبس أنقرة ببنت شفة.
بوسعنا القول أنه إذا أعلنت “حكومة اقليم كردستان” الاستقلال، فستكون أنقرة أول عاصمة تعترف بها. بمعنى آخر، في الشرق الأوسط اليوم، تشكل «داعش» بالنسبة للأتراك تهديداً أكبر من استقلال الأكراد في العراق.
الوضع السوري
في حين أن علاقات تركيا مع أكراد العراق تحسّنت على مدى الأعوام الماضية، بقيت علاقات أنقرة بأكراد سوريا مريرة بعض الشيء. ويعزى السبب لأن «حزب العمال الكردستاني» يحظى بشعبية كبيرة بين أكراد سوريا – وهذا خلافاً للأوضاع في “حكومة إقليم كردستان” حيث تمْسِك الجماعات الكردية العراقية بزمام الأمور بصورة أكبر [من الذي يُسمح به] لـ «حزب العمال الكردستاني» في تركيا. (وكان والد الأسد قد سمح لـ «حزب العمال الكردستاني» بالتوسع داخل سوريا من أجل استخدام الجماعة كجهة ثالثة ضد تركيا) . وحينما سيطر «حزب الاتحاد الديمقراطي» – وهو الفرع السوري لـ «حزب العمال الكردستاني» الذي لا يخفي علاقاته مع «حزب العمال الكردستاني» – على المناطق الكردية في شمال سوريا في تموز/يوليو 2012، خشت أنقرة من أنها تشهد ولادة دولة على عتبتها بزعامة «حزب العمال الكردستاني». وردّاً على ذلك، أوقفت شحنات المساعدات والإمدادات إلى المناطق الكردية الداخلية.
ولكن حين احتدمت الحرب ضد الرئيس السوري بشار الأسد، وجدت تركيا في ذلك فرصة لها. وانطلاقاً من رغبتها في استغلال كافة فصائل المعارضة في سوريا، لجأت تركيا إلى «حزب الاتحاد الديمقراطي» ودعت زعيمه إلى أنقرة، إلا أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» تردد في ذلك. فمنذ البداية تمثلت استراتيجية الأكراد في الحرب الأهلية السورية ببساطة بـ : السيطرة على المناطق الكردية وترك الآخرين يتقاتلون في ما بينهم. وقد بلغ الأمر بـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» في بعض الأحيان أن تعاون مع نظام الأسد، على سبيل المثال عبر السماح للإمدادات بالمرور إلى المعاقل التي يسيطر عليها النظام. وفي المقابل، امتنع الأسد عن استهداف المناطق التابعة لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي». فلم يكن من المنطقي، في ذلك الحين، أن يتعاون «حزب الاتحاد الديمقراطي» كلية مع تركيا.
ولكن مع ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، لربما تتغير حسابات الأكراد السوريين. فلكلٍّ من «حزب العمال الكردستاني» و«حزب الاتحاد الديمقراطي» ميولٌ علمانية قوية، وكلاهما يعارض تنظيم «داعش» وترجمته المتزمتة للإسلام. واليوم يسيطر «حزب الاتحاد الديمقراطي» على ثلاثة معاقل كردية في شمال سوريا تحيطها جميعاً تركيا من الشمال و«داعش» من الجنوب. وعلى خلاف نظام الأسد، لم تبدِ «داعش» أي ميلٍ إلى تبادل الخدمات مع الأكراد. بمعنىً آخر، من المحتمل أن يكون مستقبل أكراد سوريا اليوم بين أيدي تركيا. فتركيا قادرة على السماح بعبور المزيد من المساعدات والإمدادات إلى الأكراد لدعم جبهاتهم الدفاعية ضد «داعش»، وإذا أحسن الأكراد السوريون التصرف قد يكون التعاون العسكري والأمني الكامل على الأبواب.
وتعتقد تركيا أن معاقل الأكراد السوريين قد تصبح بمرور الوقت قواعد أمامية للعمليات ضد «داعش» – أي قوة صديقة تحرس ما يزيد عن 450 ميلاً من أصل 540 ميلاً من الحدود السورية مع تركيا. والفكرة فعلاً مغرية: فـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» هو القوة الوحيدة، بما في ذلك نظام الأسد، التي تمكنت من الفوز في أي معركة ضد «داعش» في سوريا. على سبيل المثال، في آذار/مارس 2013، نجح مقاتلو «حزب الاتحاد الديمقراطي» في صدّ زحف «داعش» نحو كوباني (مدينة عين العرب)، إحدى المعاقل الكردية الثلاثة في سوريا.
المأزق التركي
لا تستطيع تركيا توثيق علاقاتها مع أكراد سوريا والعراق دون أن تعقد الصلح مع الأكراد على أرضها. فبعد عقود من الاقتتال، لا يزال «حزب العمال الكردستاني» قادراً على إيقاف أي تقارب بين تركيا والمجموعات الكردية الأخرى، لا سيما الأكراد السوريين، بمجرد أن يطلب من «حزب الاتحاد الديمقراطي» رفض العروض التركية. وأكثر من ذلك، يستطيع «حزب العمال الكردستاني» شنّ هجمات في تركيا إذا ما شعر أنه مستبعد عن أي صفقة محتملة بين تركيا وأكراد العراق.
ولرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مصلحته الشخصية في ذلك أيضاً. فهو على أبواب انتخابات رئاسية في آب/أغسطس. وقد فاز حزبه في الانتخابات المحلية في آذار/مارس بنسبة 43 في المائة من الأصوات. لذلك فإنّ دعم «حزب السلام والديمقراطية» الموالي لـ «حزب العمال الكردستاني» – الذي فاز بنسبة 6,5 في المائة من الأصوات في آذار/مارس- قد يضمن له الرئاسة.
وفي هذا السياق تأتي أيضاً محادثات السلام الجارية مع «حزب العمال الكردستاني». فمن خلال هذه المفاوضات منحت تركيا حقوقاً إضافية للأكراد أتاحت لهم استخدام لغتهم الخاصة علناً بعد أن كان ذلك يعتبر لفترة طويلة تهديداً للقومية التركية. وباتت اليوم اللغة الكردية واسعة الانتشار في الجامعات وحكومات المدن في جنوب شرق تركيا حيث يسيطر الأكراد. وفي الآونة الأخيرة، في 26 حزيران/يونيو، أعلن أردوغان عن مجموعة إصلاحات جديدة تعِد بالعفو عن آلاف مقاتلي «حزب العمال الكردستاني» إذا ما اختتمتت المفاوضات مع «الحزب» بنجاح.
سوف يحاول أردوغان الحفاظ على رضا الأكراد الأتراك فيما يوطّد الأواصر الأمنية مع الأكراد العراقيين والسوريين، الذين ستضمن لهم تركيا استقلالية واقعية. لكن هذا التغير في مجرى الأحداث يدعو للسخرية إلى حد ما. إذ لم يكن قد مضى وقت وجيز على وصول أردوغان إلى السلطة في عام 2003 حتى أطلق سياسة جديدة تحت عنوان “العمق الاستراتيجي” وهدفه جعل تركيا قوة عظمى في الشرق الأوسط، لها حلفاء ونفوذ في جميع أنحاء المنطقة. ولكن بعد مرور عقدٍ على ذلك قد يكون حلفاء أنقرة الوحيدون في الشرق الأوسط هم الأكراد. وبالمثل، قد تصبح أنقرة قريباً الحليف الرئيسي للأكراد. ومن خلال عملهما معاً، سيحاول الطرفان التخلص من السياسات القديمة في الشرق الأوسط والتميّز كمثالٍ ناجح على السلام والاستقرار.
*سونر چاغاپتاي هو زميل “باير فاميلي” ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن. وأحدث مؤلفاته هو كتاب “صعود تركيا: أول قوة مسلمة في القرن الحادي والعشرين” (بوتوماك بريس).