الصراع الطبقي وسياسة الهويات

سلافوي جيجك

خطف شخص واحد الأضواء من الجميع بمجرد جلوسه بين الحضور في مراسيم تنصيب الرئيس الأمريكي جون بايدن، وبرز كعنصر نقيض يعكر صفوة وحدة كلا الحزبين. إنه بيرني ساندرز، إذ لم يكن التأثير الذي أحدثه يعبر عن هشاشة موقعه في الحزب(الحزب الديمقراطي) بقدر ما كشف عن رفضه الانضمام إلى الحزب، طالما لا يملك أي مصلحة في ذلك. هذه الصورة تتقاطع في ذهن كل فيلسوف يعي حجم اندهاش هيغل وهو كان يراقب نابليون على ظهر جواده في شوارع بلدة يينا الالمانية، فالقضية الملحة بالنسبة لهيغل حينها تمثلت في انتشار الروح العالمية “النزعة التاريخية السائدة”، الذي تجلى في رمزية مسيرة جواد نابليون.

تحولت طريقة جلوس بيرني ساندرز إلى أيقونة، وأضحت مؤشراً على أن روح العالم في عصرنا كان يحوم هناك، حيث بددت شخصية ساندروز جملة من الشكوك حول مدى التطبيع المزيف الذي يروجه منظميَ المراسيم، وتالياً، لاحت في الأفق بارقة الأمل لقضايانا، وسط مطالبة عموم الناس بوجوب إحداث تغير جذري. وعليه،رُسمت خطوط الفصل بصورة جلية: المؤسسة النخبوية الحاكمة المتجسدة في شخصية بايدن مقابل الاشتراكيين الديمقراطيين الذين يقودهم بصورة أكثر شعبية كل من بيرني ساندروز وآلكساندراأوكاسيو- كورتيز.

بيد أنّ في الاسابيع القليلة المنصرمة حدثت تطورات غير متوقعة كأنه يخل بهذه الصورة المرسومة. حيث انخرطت آلكساندراكورتيز في الدفاع عن سياسة بايدن ضد الاشتراكيين الديمقراطيين من خلال مقابلاتها التلفزيونية وظهورها أمام الرأي العام. ففي مقابلة لها، التي نشرت في 19 آذار/مارس في مجلة الديمقراطيين الاشتراكيين لليسار الديمقراطي الأمريكي،”جمعت بين الثناء بصورة سخية للحزب الديمقراطي مع التنديدات اللاذعة ضد الاشتراكيين” وقدمت هوية الحزب الديمقراطي على أنها باتت تمثل الطبقة العاملة، كما أشارت بأن بايدن مع الديمقراطيين الحاليين في الحزب يقومون”بإعادة تأهيل أنفسهم تناسباً مع النزعة التقدمية”،وكل ذلك، إثر الضغط  الممارس من قبل اليسار بفرض “تغير جذري تقريباً” بين صفوف القادة الديمقراطيين النخبويين، وبالتالي يبقى العائق الوحيد الذي يحدَ من اكتمال المشهد المتجانس داخل الحزب الديمقراطي هو مواصلة الجناح اليساري على موقفه المعارض من سياسة بايدن وفق تعبيرها.

المفارقة التي تكمن في موقف آلكساندرا هذه، تمثلت بأنها شقت طريقها المهني في حياتها السياسية على ضوء انتقاداتها المستمرة ضد”المؤسسة النخبوية الحاكمة في الحزب الديمقراطي”، متظاهرة على الدوام بأنها تقف خارج هذه المؤسسة، غير أنها تحولت بصورة غير متوقعة إلى أعتى مدافعة عن هذه المؤسسة، ووجهت انتقادات لاذعة ضد النقاد الخارجيين.

وصفت آلكساندرا حمولة النقد المستمر من قبل الجناح اليساري ضد سياسة بايدن بأنها”نقداً باذخاً حقاً”، محتشدةًالتميَز القديم المشبوه للغاية بين”النقد ذو النوايا الحسنة” والنقد ذو النوايا السيئة”، إذ تقول”إنّالنوايا السيئة ممكن أن تدمر كل ما قمنا بتأسيسه بصورة سريعة،ليس لدينا الوقت والرفاهية لمزاولة التسلية مع الفاعلين السيئين داخل حركتنا”(بالمناسبة أتذكر بوضوح هذا التمّيز خلال أيام شبابي، عندما كان الشيوعيون في السلطة يعارضون بانتظام النقد البناء تحت يافطة النقد الهدام المناهض للاشتراكية).

شق الصفوف

وعليه، هل نستطيع القول بإن هذه المقاربة من قبل آلكساندرا بمثابة دعوة خفية للتطهير؟ وخصوصاً أن آلكساندرا ذهبت أبعد من ذلك، متهمةً موقف النقّاد اليسار ضد بايدن عبر كشف نواياهم بـ” احتقار الفقراء(المهاجرين) والمضطهدين(السود) من خلال مواصلة انتقاد بايدن”،وهي بذلك تغازل سياسات الهوية ضد”الصراع الطبقي الماهيوي”، وتعيد إحياء الحيلة الليبرالية اليسارية القديمة باتهام أي نقد يصدر من اليسار الراديكالي على أنه يخدم اليمين، حيث أوضحت في مقابلتها موجهة كلامها إلى الكتلة التقدمية الراديكالية:”عندما تقول لم يتغير شيئاً، فأنك تدعو الأشخاص المحميين(المهاجرين)من الترحيل حالياً، بأنه ليس هناك أي شخص محمي!لا يمكن أن نسمح بذلك داخل حركتنا”. مرة أخرى؛ تلميح إلى التطهير.(ليس غريباً أن يصل الصراع الدائر الآن بين آلكساندرا والكتلة الاشتراكية اليسارية إلى دوائر الشرطة بسبب الهجوم المتبادل على مواقع التواصل الاجتماعي).

تبدو استراتيجية آلكساندرا مع ذلك مزدوجة هنا، فمن جهة تواصل الضغط على إدارة بايدن، لأنها تماطل في تبني الصفقة الخضراء الجديدة “نيو غرين ديل”، علاوة على عدم توجيه الاستثمارات الكافية صوب قطاع الطاقة المتجددة ضمن خطة بايدن المقترحة لتحسين البنية التحتية، كما تنتقد شروط إدارة بايدن”البربرية” بخصوص الحدود. وبهذه الطريقة قالت إنها تمارس سياسة متماسكة: إنها تريد من اليسار الراديكالي أن يضع ثقته وإيمانه في إدارة بايدن، وبنفس الوقت أن يبذل جهوداً حثيثة من خلال”النقد ذو النوايا الحسنة” بغية دفع إدارة بايدن نحو الأمام.

المعضلة التي استشفها من هذا المنطق المنسوب إلى آلكساندرا، هي أنها تشي ضمنياً بأن اليسار الراديكالي ذهب بعيداً  صوب”الماهوية الطبقيةClass essentialism”، وبالتالي يتجاهل النضال المناهض ضد العنصرية والنسوية الذي تتبعه إدارة بايدن. يجدر أن نسأل هنا، هل حقاً يكافح الحزب الديمقراطي ضد العنصرية ومنأجل النضال النسوي بخلاف اليسار الراديكالي؟ وهل حقاً ترفض النسوية الراديكالية وحركة “حياة السود مهمة”(Black lives matter) النضالضد الطبقة الحاكمة في الحزب الديمقراطي؟ أو كما هم يعبرون بأنفسهمجملتهم الشهيرة “التحالف مع الحزب الديمقراطي هو التحالف ضد أنفسنا”. وبالتالي يمكن القول بإن هذا الانقسام بين المؤسسة النخبوية للحزب الديمقراطي واليسار الراديكالي لا تمتالصلة بمسألة “الماهوية الطبقية”.

جدل اليسار الأمريكي

النقطة الأولى التي يجب توضيحها هنا ونحن نستخدم مفهوم “المعارضة”المقتبس من ماو تسي تونغ، هو أن الصراع القائم بين آلكساندرا واليسار الراديكالي ليس”تناقضاً” بين الشعب وأعدائه، ولكنه التناقض بين الشعب مع ذاته، حيث يتم عادة معالجته عن طريق الحوار، ما يعني في هذه الحالة، لا ينبغي لأي طرف أن يتعامل مع الآخر على أنه عميل يعمل سراً لصالح العدو. لكن دعنا ننتقل إلى السؤال التأسيسي، من هو على حق في هذا الصراع؟ أو من هو أقل سوءاً بينهما على أقل تقدير؟إنني أميل إلى استخدام عبارة ستالين القديمة: كلاهما أسوأ.وكيف ذلك بالضبط؟

من حيث المبدأ، فإن موقف اليسار الراديكالي صحيح: بايدن ليس حل طويل الأمد، والرأسمالية العالمية نفسها هي مشكلة بنيوية قائمة وثابتة، ومع ذلك لا تشفع هذه البصيرة بأي حال من الأحوال ما يمكن أن نطلق عليه بالانتهازية المبدئية، والتي هي تموضع مريح وانتقاد كل إجراء تقدمي متواضع باعتباره غير كافي، بانتظار قدوم الحركة الحقيقية، والتيبطبيعة الحال لن تأتي أبداً. وتبعاً لذلك، فإن آلكساندرا محقة عندما تقول لا يمكن تشويه صورةبايدن بوصفه”ترامب بوجه إنساني”، كما كتبت شخصياً في عديد منمقالاتي السابقة.

تبعاً لذلك، يجدر مساندة العديد من الاجراءات التي سنتها أو تقترحها إداراته مثل، صرف تريليونات من الأموال على مكافحة الوباء وخطة الإنعاش الاقتصادي والالتزامات البيئية، وكذلك يجب أن تؤخذ على محمل الجد خطوة أخرى لإدارة بايدن التي تتمثل في الإصلاح الضريبي الذي دعت إليه وزيرة الخزانة جانيت يلين، يتبع هذا الإصلاح تلك الخطوات التي اقترحها المنظر الاقتصادي توماسبيكيتي مثل: زيادة معدل الضرائب على الشركات الأمريكية الضخمة من 21 بالمائة إلى 28 بالمائة، علاوة على أهمية ممارسة الضغط على المجتمع الدولي بالمضي قدماً عبر رفع الضرائب على الشركات الكبرى بصورة مماثلة.

هذه المقاربة تعتبر”الماهوية الطبقية” وخطوة صوب”العدالة الاقتصادية”،ويجب أن تُأخذ بعين الاعتبار.أجد نفسي متفقاً مع المعلق السياسي في محطة CNN، كريس سيليزا، الذي أكد بأنّ أكثر عبارات تأثيراً في خطاب بايدن أمام الجلسة المشتركة في الكونغرس في 28 إبريل/نيسان 2021 كانت:”زملائي الأمريكيون، الاقتصاد الذي يستند على نظرية التقطير، لم ينجح ابداً”. (يقصد بذلك تخفيض الضرائب على الاثرياء ورجال الاعمال وفق نظرية رونالد ريغان- مترجم).

ومهما يكن منالأمر، فإن المواقف السجالية لفرضية الاختيار حصراً بين “قبول فضاء الحزب الديمقراطي مقابل الراديكالية اليسارية الفارغة” خاطئة بحد ذاتها، فهل من المستطاع الجمع بين الموقفين، حيثإننا نزعم بوجوب موازاة بايدن تكتيكياً على الرغم من أننا نعي بأن سياسته لن تنجح، وهي رؤية ترتقي إلى نوع من التحايل الساخرلأننا فعلياً نبقى داخل النظام السائد، بينما واقعياً نترقبأهدافنا بصورة أكثر جذريةوسوداوية؟ عادة تكون حقيقة هذا الموقف بصورة معاكسة: نعتقد أننا نباشر أهدافنا الجذرية بصورة خفية، لكننا واقعياً ننسجم بصورة كلية مع النظام السائد، أو كما يؤكد المنظر وعالم الاجتماع الكندي، دوان روسيل:”هذه المحاولة البراغماتية التي تزعم بأهمية ربط الأواصر والحفاظ عليها بغرض تأمين مكانة ضمن دائرة النفوذ والتأثير داخل الحزب الديمقراطي، هي تحديداً ما يجب أن نشكك في صحتها”.

ورغم ذلك، فإنني اعتقد أن استراتيجية دعم بعض إجراءات بايدن لا تنطوي على التحايل الساخر، كما أنها لا تعني أننا مازلنا عالقين داخل شبكة النظام القائم، بالمستطاع مساندة بعض إجراءاته بطريقة مخلصة تماماً، لكن بشرط بأن لا تكون سوى الخطوة الأولى صوب المزيد من الخطوات القادمة، لأن النظام العالمي الحالي لا يمكنه تحمل هذه الاجراءات الطفيفة إلاَإذا رافقت مع بعض الاجراءات الراديكالية. على سبيل المثال، إذا كان إنفاق التريليونات سيؤدي إلى تفاقم أزمة مالية، فسيكون من الضروري اتخاذ تدابير أكثر جذرية للرقابة المالية، كل ما يتعين علينا القيام به هو الإصرار على هذه الاجراءات، للمطالبة بتحقيقها كاملة.

والحال هذه، لماذا كلا طرفي الصراع هما أسوء؟ المعضلة الجوهرية تكمن في إلقاء اللوم على مصطلح “الماهوية الطبقية” والتي اعتقد أنها لا تصيب هدفها في هذه الوضعية، بكل تأكيد يجب أن نتجاهل الصورة الماركسية التقليدية للنضال العمالي باعتباره”النضال الحقيقي الوحيد” بحيث يتعين على ضوئه تحديد جميع أنواع النضالات الأخرى، مثل(البيئة، وإنهاء الاستعمار، والتحرر الوطني، واضطهاد المرأة، والعنصرية) والذي يفترض أن ننتظر بفارغ الصبر ريثما نفوز بالجائزة الكبرى.

منظور الماهوية الطبقية

يلزم أن نقبل بـ” الماهية الطبقية” بصورة كاملة، بشرط أن نقبل مصطلح “الماهية” بالمعنى الهيغلي الصارم”(قانون التناقض والاختلاف في الوجود عند هيغل، والذي لا يقبل الوحدة الانغلاقية- مترجم). على الرغم أن ماو تسي تونغ لم يفهم الجدل الهيغلي(انظر مجادلته السخيفة ضد نفي النفي) فإن مساهمته المركزية في الفلسفة الماركسية وتوضيحاته لمفهوم “التناقض” يرتقي إلى مستوى رؤية هيغل وشروحاته حول  الماهية، فإن أطروحاته الرئيسية لنصه العظيم بعنوان”في التناقض” يستحق القراءة بصورة متأنية، كونه لم يرفع التناقضات بكل جوانبها المتشعبة والمتداخلة إلى صيغة التركيب الانغلاقي.

اتهم ماو تسي تونغ” الجمود العقائدي الماركسي داخل حزبه”، بقوله:”إنهملا يفهمون أن عموميَة التناقض تمكن بالضبط في خاصّية التناقض”. وأشار في نصه المذكور:” في المجتمع الرّأسمالي مثلاً، تشكل القوتان المتناقضان، البروليتارية والبرجوازيّة، التناقض الرئيسي العام، أما التناقضات الأخرى- كالتّناقض بين الطبقة الاقطاعية المتبقية والبرجوازيّة، وبين البرجوازيّة الصَغيرة الفلاحية والبرجوازيّة، وبين البروليتارية والبرجوازية الفلاحية الصَغيرة، وبين الرأسماليين غير المحتكرين والرأسماليين الاحتكاريين، وبين الديمقراطية البرجوازيّة والفاشية، بين البلدان الرأسمالية نفسها، والامبريالية والمستعمرات…إلخ، فيقررها جمعياً ذلك التناقض الكوني الرئيسي العام ويؤثر فيها”.

ويضيف:” عندما تشن الامبريالية حرباً عدوانية ضد بلد ما من هذا النوع، فإن الطبقات المختلفة في هذا البلد مؤقتاً، باستثناء حفنة من الخونة، يمكن أن تتحد مؤقتاً كي تخوض غمار حرب وطنية ضد الامبريالية، وحينئذيصبح التّناقض بين الامبريالية والدولة المعنية هو التناقض الكوني الرئيسي، في حين تصبحبقية التناقضات على مستوى الطبقات داخل البلدبما في ذلك(التناقض بين النظام الإقطاعي والقوى الشعبية الغفيرة) في مركز ثانوي وتابع”.

النقطة الأساسية التي يريدماو تفسيرها هي على النحو التالي: لا ينبغي التعامل مع التناقض في موقف خاص مع التناقض الرئيسي العام (الكوني): فالبعد الكوني حرفياً يكمن في هذا التناقض الخاص. في كل موقف ملموس يسود تناقض خاص ويفرض ذاته،ومن أجل كسب المعركةلمعالجة مبدأ التناقض بالمعنى الدقيق للكلمة، يجب على المرء أن يتعامل مع التناقض الخاص باعتباره التناقض الرئيسي الكوني، والذي بدورهيضبط حركة التناقضات الأخرىتحت كنفه.

ففي الصين،عندما كانت تحت الاحتلال الياباني، شكلت الوحدة الوطنية ضد اليابانيين مركز التناقض الرئيسي العام، إذا أراد الشيوعيون كسب الصراع الطبقي – في هذه الظروف، فإن أي تركيز مباشر على الصراع الطبقي كان سيكون موجهاً ضد الصراع الطبقي نفسه. هنا ربما، تكمن السمة الرئيسية لـ “الانتهازية الدوغمائية”، أي إصرارها على مركزية التناقض الكوني العام في لحظة خاطئة. يمكننا أن نرى على الفور كيف تنطبق هذه الفكرة على صراعات متباينة اليوم.إذ أنّ الماهويةالطبقية الأصيلة، تؤكد بأن الصراع الطبقي ليس جوهرًا ثابتًا، ولكنها مبدأ يخترق جميع العمليات القائمة، بحيث ينظم التفاعل الديناميكي لجملة أشكال النضال.لا يمكن للمرءأن يتحدث عن الصراع الطبقي في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، دون الإشارة إلى اضطهاد واستغلال السود،فالتركيز على الصراع الطبقي”النقي” بشكل مستقل عن لون الجلد يخدم في نهاية المطاف الاضطهاد الطبقي نفسه.

النسوية والصراع الطبقي

قدم الفيلسوف وعالم الاجتماع الإيطالي ماوريتسيو لازاراتو حجة مماثلة ضد “الماهوية الطبقية” مشيرًا إلى صيغة التي طرحتها الباحثة النسوية الإيطالية كارلا لونزيفي نصها الشهير تحت عنوان”دعونا نبصق على هيجل”، سيما أن هذا النص يشكل دعامة أساسية للنسوية الإيطالية، حيث تؤكد الباحثة على الطابع الأبوي لديالكتيك هيجل ونظرية الاعتراف، ويطال هذا النقد الشرس من هيجل إلى الماركسية من خلال تسليط الضوء على مساوئ التركيزعلى الإنتاج والتنظيم الاجتماعي الهرمي والسلطة، مع السياسة التي تستند على عقيدة الحزب الشعبي الريادي، كما تنظر الماركسية إلى التاريخ على أنه تقدم ديالكتيكي عبر مراحل. هنا، يتم “حظر” السود والنساء إلى “مستويات” هامشية ومعزولة؛ ولا يمكن للمرأة في نهاية المطاف أن تحصل على استقلال الوعي الذاتي إلاّ إذا انضمت مجددًا إلى المنطق الإنتاجي الذكوري.

ترفض لونزي هذه الرؤية بأكملها بوصفها غير متوافقة مع الثورة الحقيقية: فالعملية الثورية هي قفزة، وتمزق غير-ديالكتيكي لطبيعة النظم التاريخية السائدة،والتي ستمهد إلى إعادة اختراع واكتشاف شيء لم يكن يحتويه التاريخ مسبقاً.

من أجل أن تغدو المرأة ذاتاً سياسيًا مستقلًا، يتعين عليها أن تبتكر ديمقراطية راديكالية وفق لونزي: علاقات أفقية جديدة غير هرمية من شأنها أن تخلق وعيًا جماعيًا خاصاً بالمرأة. من حيث المفهوم النظري والممارسة العملية تستبعد “التمثيل والتفويض” من نشاطها، لأن المشكلة ليست في الاستيلاء على السلطة وإدارتها، بل على المرأة أن تتخلص من وعود التحرر التي تتمحور حول العملوالصراع على السلطة، والتي تعتبر من مخلفات القيم الاجتماعية المتجذرة في الثقافة الأبوية (والحركة العمالية). وكذلك لا تطالب الحركة النسوية بأية مشاركة في السلطة، بل على العكس تمامًا،التشكيك حول مفهوم السلطة وأشكالاستيلاء السلطة.

لازاراتو مدرك لفخاخ النزعة النسوية أو النزعة الماهوية المناهضة للاستعمار. ففي الحالة الأخيرة،تصبح صورة العدو حسب هذه الرؤية في اختزال مفردة(أوروبا)بطريقة تجريدية محضّة،بحيث تختفي الرأسمالية تحت شبكة الانقسام العنصري. ستشهد هذه الالتباسات تكرارًا مؤسفًا في سردية ما بعد الاستعمار،لأن الثورة ستختفي تمامًا. لذلك، لا ينبغي استبدال الماهوية الطبقية ببساطة بالماهوية النسوية (اضطهاد المرأة هو الشكل الأساسي لجميع أشكال الاضطهاد) أو ماهوية المناهضة الاستعمار (الهيمنة والاستغلال الاستعماريان مفتاح لكل القضايا الأخرى).

عوضاًعن ذلك، يؤكد لازاراتو على التعددية غير القابلة للاختزال في النضال من أجل التحرر، بحيث تعمل كصدى لبعضها البعض. ويقتبس لازاراتو على لسان جان ماري كليزل في هذا الصدد:”الحركة الثورية لا تنتشر عن طريق اشعاع التلوث/ ولكن عبر الصدى/ الشيء الذي يشكل نفسه هنا / يتردد صداها مع موجة الصدمة المنبعثة من ذاك الشيء، بحيث يشكل نفسه في مكان آخر/ الجسم الذي يتردد صداه يفعل ذلك بطريقته الخاصة.”

كيف يعمل هذا الصدى بين النضال النسوي والنضال العمالي؟ هل يقتصرالنضال العمالي بشكل غير قابل للاختزال في النموذج الإنتاجي المركزي؟وهل بالمقدور المفهوم النسوي اللامركزي أن يكون صدى للنموذج العمالي؟ معطوفاً على ذلك، هل تكافح حقاًحركات مناهضة الاستعمار التي تتغذى على تقاليد ما قبل الحداثة مع النسوية المعاصرة ضد أشكال التنظيم والإنتاج المعاصرين؟ أليست الحركة النسوية تقدم نفسها بأنها لا تمت الصلة بالنماذج ما قبل الحداثة فحسب، بل أنها معادية لها بشكل جوهري؟ ويبقى السؤال الأساسي هنا: هل التناحر الطبقي حقاً يشكل نسخة موحدة على طول سلسلة التناحرات القائمة؟

هناك نكتة ألمانية لطيفة، تدور بين شخص تقدمي يتبنى نزعة هوياتية، وآخر ماركسي. إذ يقول الهوياتي، الجندر. فيرد عليه الماركسي، الطبقة. من ثم يقول الهوياتي: الجنس، والعرق.ليجاوبه الماركسي: الطبقة، الطبقة. ومن ثم يشدد الهوياتي نبرته ليقول: الجنس، العرق، الطبقة.ليرد عليه الماركسي بذات النبرة: الطبقة، الطبقة، الطبقة … على الرغم من أن النكتة من المفترض أن تسخر من الموقف الماركسي، فإن الماركسي في موقع صحيح هنا. ثمة حقيقة تظهر في هذا الحشو المكرر تكشف كيف يحدد الصراع الطبقي بصورة مفرطة كلية الهويات الاجتماعية. عندما يشدد شخص ذو نزعة هوياتية على “الهوية العرقية”، يحلل الماركسي كيف يتم اجتياز هذه الهوية بواسطة الصراع الطبقي، وكيف يتم احتواء واستبعاد هذه المجموعة في مجرى الكلية الاجتماعية، وما هي العقبات أو الامتيازات التي يواجهونها، وما هي المهن والمؤسسات التعليمية المفتوحة أو المغلقة أمامهمو….إلخ. وينطبق الشيء نفسه على اضطهاد المرأة: كيف يعتمد إعادة الإنتاج الرأسمالي في بلد ما على عملها غير المأجور؟ إلى أي مدى يتم الحفاظ على حريتها واستقلالها الذاتي أو كبحها من خلال مكانتها في عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي والاقتصادي؟ وماذا عن هيمنة قيم الطبقة الوسطى على نموذج النضال النسوي، خصوصاً عندما يتم توجيه هذا النضال ضد المهاجرين والطبقات الدنيا، نظراً لعدم مطابقة مطالب هذه الفئات بصورة كافية مع الرؤية النسوية (كما هو الحال في الولايات المتحدة)؟

تمييع سياسة الهوية

ظهرت مؤخرًا رواج لما يسمى بـ “الفئوية” (Classism)في كل من المانيا وبعض البلدان الأخرى، وهي نسخة طبقية لسياسة الهوية. تسوق هذه النسخة رؤيتها بوجوب تعليم العمال وحمايتهم من أجل تحسين ظروفهم الاجتماعية والثقافية واحترام الذات؛ إنهم مدركون للدور الحاسم الذي يؤدونه في التكاثر الاجتماعي… على هذا المنوال تصبح الحركة العمالية عنصرًا إضافياً في سلسلة سياسة الهويات، مثل طبيعةالعرق المعين أو الميول الجنسية. مثل هذا “العلاج” لـ “قضية العمال” هو ما يميز الفاشية والشعبوية: فهم يحترمون العمال ويعترفون بأنهم يتعرضون إلى الاستغلال، وهم (غالبًا بصدق) يريدون تحسين هذا الموقف ضمن إحداثيات النظام الحالي. كان ترامب يفعل ذلك بالضبط، عن طريق حماية العمال الأمريكيين من البنوك والمنافسة الصينية غير العادلة.

أحدث مثال على هذه “الفئوية” في مجال السينما، تجسد في الفيلم الأمريكي الدرامي، الذي انتج عام 2020، بعنوان”Nomaland” للمخرجة كلوي تشاو. يصور الفيلم الحياة اليومية لـ “البروليتاريين الرحل” لدينا، العمال الذين ليس لديهم منزل مستقر، يعيشون في مقطورات، ويتجولون من وظيفة مؤقتة إلى أخرى. يظهرون كأشخاص محترمين، مليئين بالخير العفوي والتضامن مع بعضهم البعض، يسكنون عالمهم الخاص من العادات والطقوس الصغيرة، ويتمتعون بسعادتهم المتواضعة – حتى العمل الطارئ في مركز تعبئة أمازون يسير بشكل جيد … هذا بالضبط ما ترغبه الايديولوجية المهيمنة في تصوير حياة العمال. ليس غريباً أن الفيلم حاز على جائزة الفائز الأكبر في أحدث جوائز الأوسكار. على الرغم من أن الحياة التي تم تصويرها بائسة إلى حد ما، إلا أنّ الفيلم يغرينا للاستمتاع بهوبالتفاصيل الساحرة لطريقة معينة من الحياة، لذلك كان من الممكن أن يكون عنوانه الفرعي: استمتع بكونك بروليتاريًا جوالاً!

ما يحدد طبيعة الحركة العمالية الأصيلة هو بالضبط في رفضها إدراج هذا العنصر تحت خانة سياسة الهوية. في الهند، التقيت بممثلي المجموعة الادنى من الطبقة الدنيا(الكاست)، الذين يشرفون على منظفات المراحيض الجافة. سألتهم عن الفرضية الأساسية لبرنامجهم، وماذا يريدون، قدموا لي على الفور الإجابة: “لا نريد ما ينبغي أن تكون أنفسنا، نريد أن نكون على ما نحن عليه”. نواجه هنا حالة نموذجية لما أسماه هيجل وماركس ب”التعيين التعارض”: التناحر الطبقي الكوني، الذي يجتاز المجال الاجتماعي بأكمله، يواجه نفسه بأنه جزء من هذا الكل الاجتماعي، هذا الجزء هو صورة الطبقة العاملة على ما هم عليه، تماماً مثلما يقول الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير:”جزء من اللا-جزء” من الجسد الاجتماعي، يفتقر إلى المكان المناسب بداخله، تجسيد للتناقض الصارخ”.

مآزق الهند

وعلى ضوء ذلك، ماذا يعني الصراع الطبقي في الهند مع وجود عدد قياسي من الإصابات اليومية الجديدة الناجمة عن فيروس كورونا عقب مايو/أيار؟ في الوهلة الأولى تبدو الروائية والكاتبة السياسية أرونداتي محقة في وصفها بأننا في الهند “نشهد جريمة ضد الإنسانية” – لكنها ليست محقة بالمعنى الإنساني التي اشارت إليها من جهة وجوب تجاهل عموم النضال السياسي والتفرغ بكل قواتنا لمواجهة الكارثة الصحية في المقام الأول.

لمواجهة الكارثة الصحية بكل قوة يجب على المرء أن يجلب العديد من جوانب الصراع الطبقي، سواء العالمي أوالمحلي. الآنوبعد أن فات الأوان نسمع مناشدات لمساعدة الهند. غالبًا ما يكون التضامن الدولي كمثل الزوج المثالي، الذي ينتظر زوجته لتقوم بأعمال المطبخ وعندما يتأكد من أن العمل قد أُنجزبالكامل، يقدم مساعدته بسخاء.

أُعلنت الهند بوصفها “صيدلية العالم”، وهي جيدة لتصدير الأدوية، وباعت لقاح كوفيد-19 إلى بلدان عدة، لكن بعد أن اجتاحت الموجة الثانية الفتاكة من الجائحة البلاد، اصطدمت بالنزعة القومية الغربية للتعاطي مع كوفيد- 19 والتي حالت دون قيام المجتمع الدولي بتعبئة “النموذج التشاركي الشامل” بغية احتواء الوباء هناك. بالإضافة إلى ذلك، هناك أسباب داخلية واضحة معنية بالهند ذاته، حيث صرح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بتفاخر:”الهند أنقذت العالم، البشرية جمعاء، من مأساة كبرى من خلال السيطرة الفعالة على فيروس كورونا”. ومع ذلك، فإن سياسته القومية لم تتجاهل بصورة إجراميةمخاطر موجة جديدة من العدوى فحسب، بل استمرت أيضاً في هجومه ضد المسلمين (بما في ذلك الاجتماعات الانتخابية العامة الكبيرة). وبهذا المنوال، أضاعت الهند فرصة فريدة لحشد التضامن الهندوسي- الإسلامي في الكفاح ضد الوباء.

لكن ألا يصح الشيء نفسه في الاتجاه المعاكس؟ هل التعَارض الطبقي أيضًا لا يخترقه التوترات العرقية والجنسية، أي، كما قال لازاراتو، ألا تتفاعل أصداء هذه الخصومات العميقة بصورة متبادلة؟ يجب أن نرفض هذا الحل لسبب محدد: هناك فرق اصطلاحي بين التعارض الطبقي والخصومات الأخرى. في حالة التناقضات في العلاقات بين الجنسين والهويات الجنسية فإن النضال من أجل التحرر لا يهدف إلى القضاء على بعض الهويات، ولكن إلى تهيئة الظروف للتعايش غير العدائي، وينطبق الشيء نفسه على التوترات الإثنية والثقافية والهويات الدينية. الهدف المرجو هو تحقيق التعايش السلمي والاحترام المتبادل والاعتراف. في حين، لا يتحرك الصراع الطبقي على هذا النحو، إذ أنَ نسخة الاعتراف واحترام المتبادل للطبقاتتظهر إلى العلن فقط، في ظل النظام الفاشي أو النقابي.

الصراع الطبقي كما هو

الصراع الطبقي هو تناقض “محض”: هدف المضطهدين والمستغلين هو إلغاء الطبقات بحد ذاته، وليس تفعيل المصالحة بينها. ولهذا السبب “يتردد” صدى الصراع الطبقي على طول الصراعات والخصومات المتباينة بطريقة مختلفة عن غيرها من التناقضات القائمة. يتردد صداه من خلال تطعيم الصراعات الاجتماعية الأخرى بجرعة من هذا العنصر المتناقض الصارخ، بحيث يصبح التوفيق بينهما في نهاية المطاف نوع من الاستحالة.

لذلك، نستطيع أن نرصد الآن عبر استحضار الصراع الدائر بين الكساندرا أوكاسيو-كورتيز والاشتراكيين الديمقراطيين الراديكاليين، بأن كلا الجانبين مخطئين، على الرغم من أنّ كلاهما محقّان في مواجهة بعضهما البعض. ما يجمع الطرفين هو خطر الانتهازية: الانتهازية البراغماتية من ناحية (خطر الوقوع صوب فضاء الهيمنة القائمة، والعمل كما لو أنهم في وضعية “الراديكالية”) والانتهازية المبدئية من ناحية أخرى (مخاطرالرفض أي المشاركة بصيغة الحلول الوسط، واتخاذ آلية النقد من مسافة آمنة، كوسيلة وحيدة لمقاربة الواقع).

ما يفتقده كلا الجانبين هو الوحدة الديالكتيكية المناسبة للنظرية والممارسة، حيث لا تبرر النظرية إجراءات معينة فحسب، بل تمكننا أيضًا من التدخل “بشكل أعمى” في مواقف ضبابية على المستوى العملي، مما يجعلنا ندرك أن الوضع قد يتغير بطريقة غير متوقعة من خلال تدخلنا الفعلي. وهو ما شدد عليه الفيلسوف الألماني ماكس هوركهايمر منذ عقود، بأنه ينبغي أن يكون شعار اليسار الراديكالي الحقيقي: “التشاؤم من الناحية النظرية، والتفاؤل من الناحية العملية”.

ملاحظات:

1-ينبغي للمرء بصورة عفوية أن يلاحظ هنا، إن صعود سطوة رجال الشرطة البيض في إطلاق النار على السود كنوع من العنف الممارس بالصورة النموذجية من قبل الدولة اليوم، ليس بريئاً كما يبدو. إذ أنّ التركيز المباشر على مثل هذه الصور التي تظهر القوة المذهلة والعنف المباشر، تعمل ضمنياً للتغطية على العنصرية غير المرئية من قبل الطبقة الليبرالية الحاكمة بصورة يومية( إنني مدين لهذه الرؤية لـ أنجي سباركس).

2-دوان راسيل، التواصل الشخصي.

3-ماو تسي تونغ كتابه” في التناقض” تشير جميع الارقام والتقسيمات الموجودة بين القوسين إلى فقرات في هذا الكتاب.

4-أنا مدين لهذه النكتة، إضافة إلى الخط الفكري كاملة إلى الحوار الشخصي مع ارنو فرانك.

5-ثمة إشكاليتين يجدر الاشارة إليهما: التناقض الجنسي، والقوة. حسب وجهة نظري، فإن التضاد الجنسي غير قابل للاختزال، فهو مكون تأسيسي للجنسانية، أي لا توجد طريقة ما لإخراج هذا التضاد من العلاقة الجنسية، علاوة على أن علاقة الهيمنة (الهرمية) والسيطرة سبقت  التمييز الطبقي، ولا يمكن أن تكون مظهراً للاستغلال الاقتصادي. حيث ظهرت الهيمنة الاجتماعية والنظام الأبوي قبل الاستغلال الاقتصادي، وتحديداً مع صعود العصر الحجر الحديث. هذا التمزق الحيوي غاب عن ماركس.

هذه المقالة نشرت في موقع صالون الفلسفة.

هوية الكاتب: الفيلسوف والناقد الثقافي الماركسي السلوفيني ومن أبرز المفكرين في عصرنا.

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد